دخلت إسرائيلُ في اتحادٍ جمركي مع الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، وظل قائمًا بحكم الواقع حتى اكتسب صبغةً مؤسسيةً في اتفاقات أوسلو عام 1994. يبدو الاتحاد الجمركي في ظاهره أنه ترتيبٌ تجاري وحسب، ولكنه ما انفك يلعب دورًا أساسيًا في الجهود الإسرائيلية الرامية لاحتواء الأرض الفلسطينية، وهي استراتيجيةٌ تمتنع إسرائيلُ بموجبها عن قبول السيادة الفلسطينية أو الاعتراف بحقوق الفلسطينيين الإنسانية في ترتيبات أخرى للوضع النهائي مثل الدولة الواحدة ثنائية القومية. تحاجج أمل أحمد، العضوة السياساتية في الشبكة، أن الاتحاد الجمركي هو خير دليل على نية إسرائيل لاستدامة “حل اللادولة” القائم على أرض الواقع، والسيطرة على الأراضي إلى أن تتمكن من ابتلاع الضفة الغربية والقدس الشرقية كاملةً بينما تترك غزة لتواجه مصيرها. وتعرض الكاتبة الاتحادَ الجمركي ليس فقط في سياق السياسات الإسرائيلية المتبعة في الأرض المحتلة، وإنما كنتيجة منطقية أيضًا للمشروع الصهيوني في حد ذاته.
اتحاد منحاز جدًا
تكون النظم التجارية بين الدول القومية إمّا مستقلة، بحيث لا تكون للدولة (أ) أية التزامات تجارية ازاء الدولة (ب)، وإمّا تفضيلية تخفف الحواجز بين الدولتين وتلزمهما بالتزامات ومزايا متبادلة. ومن أشكال التجارة التفضيلية الاتحادات الجمركية التي تمتاز أيضًا بإقامة حواجز موحدة أمام باقي دول العالم، وبالتالي فإنها توحِّد السياسة التجارية الخارجية للدول الأعضاء في الاتحاد. وقد ظلت إسرائيل والأرض الفلسطينية مرتبطتين باتحاد جمركي بحكم الواقع منذ 1967 وبحكم القانون منذ 1994.
ينطوي الاتحاد الجمركي، نظريًا، على منافع متبادلة للدول الأعضاء فيه. غير أن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) أشارَ في تقريرٍ أصدره عام 1988 إلى أن الاتحاد الجمركي بين إسرائيل والأرض الفلسطينية المحتلة تعاملَ مع كلا الاقتصادين بين عامي 1967 و1988 كثنائي، ورسَّخ الوضع القائم الذي جعلَ من والأرض الفلسطينية المحتلة آنذاك مستودعًا للعمالة الرخيصة وجعلَ إسرائيل مركزًا للإنتاج والتصدير. والأهم من ذلك هو أن ذاك الترتيب سمحَ بتدفق البضائع الإسرائيلية إلى السوق الفلسطينية دون أية قيود. ومنذ ذلك الحين انحدر الاقتصاد الفلسطيني من سيئ إلى أسوأ، وتفاقم اعتماده على الواردات الإسرائيلية، وصار يمتاز بالركود الصناعي وتراجع القطاعات الإنتاجية الأخرى، ولا سيما الزراعة، وبالعجز التجاري المتنامي وضعف قاعدته التصديرية. وما انفك الاتحاد الجمركي يساهم بصورة أساسية في هذا الركود، إذ يستديم حالةَ الوهن التي تعيشها الصناعة في الاقتصاد الفلسطيني ويبقيها متخلفةً ومعتمدةً على الواردات.
إن هذه النتائج اللامتوازية والمنحازة متوقعة نظرًا للتفاوت الكبير في القدرة الإنتاجية بين الأرض الفلسطينية وإسرائيل. ويتفاقم الضرر الذي يعانيه الاقتصاد الفلسطيني بسبب قدرة إسرائيل، وهي السلطة العسكرية القائمة بالاحتلال، على أن تفرض صيغةً أحاديةً ومتباينة، كما يحلو لها، لتطبيق بنود الاتحاد.
تطبق إسرائيل نظام الحصص/الكوتا على الواردات المعفاة من الرسوم الجمركية، وهو مثالٌ سافر للإجراءات الإسرائيلية التي تساهم في اختلال الاتحاد الجمركي (انظر التحليل الذي نشره مؤخرًا معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس)). تستطيع إسرائيل بموجب اتفاقات التجارة الحرة التي تربطها ببلدان أخرى أن تصدِّرَ كميات معينة من البضائع إليها إمّا معفاة من الرسوم الجمركية وإمّا برسوم جمركية مخفَّضة، في حين تتعهد باستيراد كميات معينة من البضائع من تلك البلدان برسوم جمركية مخفَّضة بالمثل. وغالبًا ما تكون البضائع التي تتعهد إسرائيل باستيرادها من شركائها منتجاتٍ زراعيةً وغذائية، وهي منتجات تحظى بحماية تجارية عالية في إسرائيل. ومنذ التوقيع على بروتوكول باريس الاقتصادي سنة 1994، منحت إسرائيل السلطة الفلسطينية 20% من حصص وارداتها. فإذا تعهدت إسرائيل مثلًا باستيراد 2000 طن من الحليب من شركائها دون رسوم جمركية، يستطيع تجار التجزئة الفلسطينيون أن يتقدموا للحصول على رخصة (تصدرها إسرائيل) من أجل استيراد ما يصل إلى 400 طن من تلك المنتجات المعفاة من الرسوم الجمركية. ومن الواضح أن هذا يعود بالفائدة على تجار التجزئة الفلسطينيين حيث يتسع هامش ربحهم حينما يشترون الحليب المستورد بسعر أقل ثم يبيعونه بسعر السوق المعتاد.
غير أن المشكلة أكبر مما تراه العين لأن إسرائيل تمنح الفلسطينيين 20% من حصة الاستيراد ولكن صفرًا من حصة التصدير. فعلى سبيل المثال، إذا تعهد بلدٌ ما بشراء 2000 طن من البندورة (الطماطم) من إسرائيل، فإن 100% من هذه البندورة سوف تأتي من المنتجين الإسرائيليين. وهكذا فإن إسرائيل تستخدم الاقتصاد الفلسطيني لتنفيس الضغط على سوقها بالحد من تغلغل الواردات الرخيصة بنسبة 20%، بينما تحتفظ لنفسها بالمنفعة الكاملة الآتية من اتفاقات التصدير. ويؤكد هذا المثال دهاءَ الاستراتيجية الحمائية التي تتبعها إسرائيل واستخدامها الاقتصادَ الفلسطيني كاقتصادٍ تابع متى ما ناسبها. وأيُّ منفعةٍ يجنيها الفلسطينيون في هذه العملية هي منفعة عَرَضية وتأتي في الحقيقة على حساب الصناعة الإنتاجية.
لا مخرج
يردد محللون كثيرون، منذ سنوات، أنه لو كان تطبيق الاتحاد الجمركي “أفضل” أو أكثر انسجامًا مع النظرية، لكانَ الأمثل بالنسبة للتجارة والتنمية في الأرض الفلسطينية. ولكن الدعوات إلى “إنقاذ” أو “تغيير” الاتحاد تُخفي المشاكل الحقيقية التي تواجه الأرض الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك الحلقة المفرغة واللاتناظر الكبير مع إسرائيل، أكبر شركائها التجاريين وأكثرهم “حريةً تجاريةً.”
ثمة بديلان، من الناحية النظرية. ينطوي الأول على ترتيب مغلقٍ نسبيًا (غير تفضيلي) أو اتفاق تجارة حرة لامتناظر، حيث إن من شأن هذه الترتيبات أن تقيِّد دخول الواردات الإسرائيلية إلى السوق الفلسطينية بوضع حواجزَ (تعريفات جمركية) على هذه الواردات لحماية المنتجين الفلسطينيين وتشجيع التنمية الصناعية مؤقتًا. ولكن هذه الترتيبات، بما فيها اتفاق تجارة حرة قياسي، تنطوي على وجود قواعد منشأ تحدد مصدر البضائع، وبالتالي تتطلب وجود حدود صلبة بين الشركاء. وبعبارةٍ أخرى، لا يمكن إنفاذ هذا الترتيب إلا بعد انتهاء الصراع والعمل بحل الدولتين. أمّا البديل الثاني فينطوي على إبقاء التجارة مفتوحة ولكن في كنف دولة مستقبلية واحدة ثنائية القومية تكون مسؤولة عن رفاه المنتجين الإسرائيليين والفلسطينيين على حدٍ سواء، وتدير برنامجًا ماليًا مشتركًا يوجه الدعم إلى المناطق المتخلفة، ممّا يتضمن حماية المنتجين الفلسطينيين بواسطة التحويل المالي وليس التعريفات الجمركية الخارجية. ومن الواضح أن هذا الخيار أيضًا لا يمكن تنفيذه إلا بعد انتهاء الصراع والعمل بحل الدولة الواحدة.
أمّا على أرض الواقع، فالبدائل معدومة. وكما هو مبين أعلاه، فإن جميع الترتيبات البديلة، بغض النظر عن مزاياها الاقتصادية، تفترض إمّا ترسيم الحدود الداخلية وإمّا إزالتها، أي إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة أو دولة متكاملة ثنائية القومية، على التوالي. غير أن كلا السيناريوهين السياسيين يُقوِّض المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية. لذا فإن كافة الترتيبات التجارية الأخرى غير مطروحة على الطاولة، بغض النظر عن الناحية الاقتصادية، ما عدا تلك التي لا تتطلب حدودًا أو إدماجًا، أي ما عدا الاتحاد الجمركي.
إن الفائدة الرئيسية من الاتحاد الجمركي التي يجنيها مهندسوه الإسرائيليون هي تأجيل طرح قضية الحدود وإبقاء الحدود مؤقتة ومرحلية. أمّا دخول السوق الفلسطينية فأهميته ثانوية بالنسبة للاقتصاد الإسرائيلي، وبالإمكان تحقيقه بواسطة أنظمة أخرى كإنشاء منطقة تجارة حرة. فالاتحاد، إذن، خيارٌ تمخَّض عن ضرورةٍ سياسيةٍ وليس رغبةً اقتصادية. وهو يبين بوضوح أن “الحل” الوحيد بالنسبة لإسرائيل هو حل اللادولة، الذي يظل الفلسطينيون بموجبه بلا سيادة ودون إدماج، وإنما يخضعون للاحتواء الدائم، ويعانون تداعياته في المجالات السياسية والاقتصادية كافة.
أهمية الحدود – أو عدمها
تعكس السياسة، في سائر دول العالم، مصالحَ اقتصادية باطنة. أمّا في الأرض الفلسطينية المحتلة، فإن الترتيبات الاقتصادية تعكس المصالح السياسية، وإلى درجة مستهجنة. تفرض إسرائيل مصالحها من خلال القوة العسكرية ممّا يفسر تولي الجيش الإسرائيلي دورَ الحاكم “الاقتصادي” للأرض الفلسطينية بين عامي 1967-1988، وهو لا يزال المنسق الرئيس بين إسرائيل والإداريين الفلسطينيين الحاليين.
لقد أملت الاعتبارات السياسية لأوسلو بشأن الحدود الترتيبات التجاريةَ الاقتصاديةَ في بروتوكول باريس، فنظرًا لإصرار إسرائيل على الحيلولة دون التوصل إلى ترتيبات بخصوص الوضع الحدودي النهائي، كان الاتحاد الجمركي الخيارَ الوحيدَ القابلَ للتطبيق. فلم يكن الاتحاد خيارًا مستصوبًا من الناحية الاقتصادية وإنما نتيجةً للضرورة السياسية بالنسبة لإسرائيل، وهناك أدلة قوية على أن الجانب الفلسطيني خضعَ للابتزاز ليقبلَ بالاتحاد بعد أن هددت إسرائيل بوقف تدفق العمالة الفلسطينية، كما يظهر في الوثائق التي أخرجتها لجنة بن شاهار والحكومة الإسرائيلية آنذاك.1 وعلاوةً على ذلك، تشهد وثائق أعدتها لجنة برونو ويعود تاريخها حتى العام 1967 على التاريخ الطويل للتكامل التجاري “الخبيث” بين الأرض الفلسطينية وإسرائيل والذي أملته اعتبارات الحدود.2
وبدلًا من أن تُسهِبَ أدبيات الاتحاد الجمركي في بيان الأهمية المحتملة لهذا المسار السياسي بالنسبة للتجارة الفلسطينية، فإنها تتجاهلها تمامًا، وتفضِّل الإبقاء على التحليل “خارج السياسة” فيما خلا إشارات مبهمة للاحتلال الإسرائيلي، مع التركيز على أُطر ما بعد الصراع. ولكن ينبغي لهذا أن يكون، في حالة الفلسطينيين، نقطةَ انطلاق التحليلات. فاعتبارات الحدود تعكس مصالح استراتيجية توفر سياق الاقتصاد السياسي الأمثل للمناقشات الدائرة حول التجارة.
وهكذا ثمة سببٌ وجيه يفسر لِمَ كانت اتفاقات أوسلو، وبالتالي بروتوكول باريس الاقتصادي، عقودًا غيرَ مكتملةٍ ومبهمةً لا تتطرق إلى حالات طوارئ كثيرة (يتكون البروتوكول من 35 صفحة فقط مقارنةً بأكثر من 1000 صفحة هي حجم اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية) بل ومرحليةً بطبيعتها. وهناك العديد من الاقتصاديين الفلسطينيين، بمن فيهم رجا الخالدي وعادل الزاغة وحسام زملط، يقولون إن حل المشاكل الاقتصادية في الأرض الفلسطينية المحتلة ليس اقتصاديًا، وإن المعضلة الأساسية التي تواجه بروتوكول باريس هي مشكلة سياسية.
لم يكن هدفُ البروتوكول إعطاءَ إسرائيل يدًا عليا في المساومة على الوضع النهائي نظرًا لأن العقود غير المكتملة تصب في صالح الطرف الأقوى. بل كان هدفه تأجيل الوضع النهائي برمته تمشيًا مع سياسة إسرائيل المتبعة منذ العام 1967. إن المشروع الصهيوني يكمن في صميم رغبة إسرائيل في إبرام عقدٍ غير مكتمل ومؤقت مع الأرض المحتلة، وفي طريقة تصميمها لهذا عقد. إن الرغبة الصهيونية في وجود أغلبية يهودية وحقوق قومية تفضيلية لليهود، كما يقول مشتاق خان، قد أملت واقعًا سياسيًا لا تقوى فيه الدولة الإسرائيلية على فك ارتباطها بالأرض المحتلة ولا تستطيع، في الوقت نفسه، أن تبتلعها ضمن دولةٍ واحدة. إن إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة لا يحل “المشكلة الفلسطينية” داخل إسرائيل، بينما الدولة الواحدة ثنائية القومية تحبط المشروع القومي الصهيوني برمته. وأفضل الحلول، أو بالأحرى أوحدها، من المنظور الصهيوني لحل “مشكلة” الديموغرافيا الفلسطينية وإنهاء مطالبتهم بحقوقهم، هو حل اللادولة، الذي يظل الفلسطينيون بموجبه رهن الاحتواء إلى الأبد. وقد عبَّر وزيرُ الاقتصاد الإسرائيلي، نفتالي بينيت، عن هذا الحل صراحةً باعتباره “خطةَ سلام.”
وهكذا فإن الاتحاد الجمركي سوف يستمر ما استمرت مصلحةُ إسرائيل في الحفاظ على ما يمكن تسميته الحدود “المغيَّبة استراتيجيًا.” وهذا الفهم يساعد في تفسير الصمود التاريخي لاتحاد “اقتصادي” غير منطقي نظريًا، وزاخر بالتناقضات عمليًا.
تتضح أهمية هذا التحليل بالنسبة لتقييم التطورات في إسرائيل-فلسطين من خلال الجدل الذي ثار مؤخرًا حول المحطات الجمركية، وهي محطات لجباية الرسوم الجمركية على الواردات، وليس من المفترض أن توجد في الاتحادات الجمركية حيث يُفترض بالتجارة أن تكون حرة بين الدول الأعضاء. ومع ذلك، فإنها تُقام أحيانًا على طول الحدود الداخلية للشروع في عملية الانتقال إلى اتفاق تجارة حرة أو إلى اتفاقات أكثر حمائية. هناك اقتصاديون ظلوا يدعون منذ زمن إلى إنشاء محطات جمركية بين إسرائيل والأرض الفلسطينية على أمل أن تمهد تلك المحطات للانتقال إلى نظام تجاري مستصوب أكثر من الناحية الاقتصادية. وعلاوةً على ذلك، فإن هذه المحطات باعتبارها رمزًا للاستقلال المالي للفلسطينيين قد تمهد الطريق للاستقلال السياسي. غير أن هذا يعكس غياب الفهم لسياق الاحتواء السياسي الذي يحول دومًا دون إمكانية تحول هذه المحطات إلى حدود سيادية عاملة.
غدت هذه الحقيقة واضحةً وضوح الشمس حين وقَّعت الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية، عقب ستة أشهر من المفاوضات السرية، اتفاقًا في تموز/يوليو 2012 “لتعزيز التعاون” في مجال الضرائب والجمارك. أعاد الاتفاق تقييم آلية تسديد الضرائب، وأنشأ محطات جمركية جديدة. وكان هدفه المعلن الحدُّ من تسرب العوائد الجمركية الإسرائيلية إلى السلطة الفلسطينية، وتحسين قدرات الجمارك الفلسطينية. ولا شك أن السلطة الفلسطينية وقعت الاتفاق بدافع اليأس، فمهما كان التحسن هامشيًا في إيراداتها الجمركية، التي تشكل 70% من الميزانية قبل احتساب المعونة، فهو مرحبٌ به. وهكذا انضمَّ الموقعون الفلسطينيون إلى نظرائهم الإسرائيليين مشيدين بالاتفاق باعتباره خطوةً نحو السيادة المالية والسياسية الفلسطينية.
لم يتنبأ الاتفاق بواقعٍ أفضل، بل عكَسَ واقعًا وبيلًا للغاية. إن التغيير والتبديل في الاتحاد الجمركي لإحراز تحسنٍ إضافي حقَّق فعلًا بعض المكاسب الصغيرة من حيث الإيرادات، ولكنه ما جلَبَ شيئًا للقدرات الإنتاجية الفلسطينية، لأنه لم يمس غالبية التدفقات التجارية مع إسرائيل، وحافظ على عدم التناظر. وحقيقةُ أن المحطات الجمركية المنشأة بموجب الاتفاق أُقيمت على طول جدار الفصل العنصري الإسرائيلي غير الشرعي القائم بحكم الواقع على أراضي الضفة الغربية تؤكد التزامَ إسرائيل بسياسة الاحتواء على امتداد خطوط مؤقتة ومرحلية تفصل بين السكان مع الحفاظ على غياب الحدود لغايات استراتيجية.
تُبرِز قضية المحطات الجمركية نقطةً جوهريةً مفادها أن تحليلات التجارة خصوصًا، وتحليلات الاقتصاد عمومًا، لا بد وأن تصنَّف ضمن سياق السياسة الإسرائيلية الاحتوائية تحت باب إدارة النزاع، بما في ذلك سعي إسرائيل لحل اللادولة الذي تظل الحدودُ بموجبه غائبةً لغاية استراتيجية، ويظل الفلسطينيون واقتصادهم قيد الاحتواء إلى الأبد. إن أُطر ما بعد الصراع، التي تفترض وضعًا نهائيًا بحدود معرَّفة وتؤسس للدعوات المنادية بالسيناريوهات التجارية المختلفة المذكورة أعلاه، قد تروق لزمرةٍ في إسرائيل وفلسطين والمجتمع الدولي تبحث يائسةً عن حلٍ يقوم على وجود دولتين. بيد أن تلك الأُطر تُخفي القضايا الحقيقية التي تواجه الاقتصاد الفلسطيني، وبذلك، تبرر المساعدة المبذولة لاستدامة الوضع الراهن الوبيل.
إرجاع الحدود: إعادة تركيز النقاش بشأن تجارة إسرائيل-فلسطين
يكمن الاحتواء الاستراتيجي الذي تمارسه إسرائيل في صميم التحدي الاقتصادي الفلسطيني. إن من الضرورة بمكان في اقتصادٍ متخلفٍ ومشوهٍ للغاية كما الاقتصاد الفلسطيني أن توضع سياسةٌ إنمائيةٌ صارمة للتغلب على الحلقات المفرغة وإنشاء حلقات إنمائية بنّاءة. تكون السياسات المحددة مختصةً للغاية بالسياق وغالبًا ما تنتج من عمليات التعلم القائم على التجربة والخطأ. بيد أن متطلبات الاقتصاد السياسي واضحة وتتمثل في حتمية وجود سلطة مركزية ذات سيادة ضمن حدود معرَّفة يمكنها قيادة البرنامج المالي لسياسات الضريبة والإنفاق في الدولة. ويُعَدُّ البرنامج المالي ضروريًا ليس لبناء القدرات المحلية والحوافز فحسب، بل أيضًا للتوسط بين المرحلة التنموية التي يعيشها البلد والضغوط التنافسية في الأسواق الدولية، ولدعم الرأسماليين حديثي العهد.
هنا تكمن مأساة الاقتصاد الفلسطيني برمتها. فَلِكي تخدم التجارة أهداف التنمية، لا بد من وجود قدرات مالية معينة مثل الاستعاضة عن الواردات وتشجيع الصادرات ولا سيما في المراحل الأولى. ولكن بما أن التنمية تقتضي عمومًا قاعدةً ماليةً تفترض بدورها وجود السيادة، فإن الاحتواء الحالي للأرض الفلسطينية وحرمانها من أي سيادة هو أسوأ سيناريو يمكن أن يواجهه أي اقتصاد نام. إن غياب التحويل المالي ضمن دولة واحدة، إسرائيل-فلسطين، وغياب الحماية السيادية في كنف دولةٍ فلسطينية يشلّ القدرات الضريبية في العمليات التنموية كافة، ويحول دون إعمال أي استراتيجيات لدعم القدرات المحلية. وسوف تدور عجلة الاقتصاد المستهدف بالاحتواء بصورة مؤقتة ومحددة الغرض بالضرورة ما يعود بعواقب كارثية ليس فقط على التنمية في الأجل البعيد وإنما على الاستمرار والبقاء في الأجل القريب.
ما الذي يمكن فعله لتصويب الوضع؟ أولاً، ينبغي للفاعلين في مجال التنمية أن يتجنبوا أُطر ما بعد الصراع، بما في ذلك سيناريوهات بناء الدولة والوضع الحدودي النهائي باعتبارها غير مناسبة لفهم الاقتصاد الفلسطيني أو تقييمه أو تخطيطه. وعليهم عوضًا عن ذلك أن ينطلقوا من فهمٍ لا يقتصر على خضوع الاقتصاد الفلسطيني لطريقة إسرائيل في إدارة النزاع، بل يتطرق أيضًا لخضوعه لنوعٍ محددٍ من إدارة النزاع ألا وهو الاحتواء. وبخلاف ذلك، يستحيل فهم الجذور الحقيقية لاستمرار تدهور الاقتصاد وغياب آفاق التنمية.
ثانيًا، إذا كان المجتمع الدولي يريد حقًا مدَّ يد العون للتنمية الفلسطينية، فلا بد أن يتصدى لسياسة الاحتواء الإسرائيلية بحق الأرض الفلسطينية وأن يفضحها ويتحداها. وهذا يعني رفضه واجهةَ حل الدولتين أو “عملية السلام،” وإقراره بأسلوب إسرائيل في إدارة شؤون السكان الفلسطينيين واقتصادهم ورفضها النظرَ في أي ترتيب يفصلهم كدولة ذات سيادة (انظر، مثلًا، التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزيرة العدل تسيبي ليفني) أو دمجهم في دولةٍ ثنائية القومية. ولقد آن الأوان لكي يتحدى المجتمع الدولي الرؤيةَ العنصرية التي تقوم عليها هذه الاستراتيجية والتي تتمثل في منح حقوق تفضيلية لليهود دون غيرهم داخل إسرائيل وفي الأرض الفلسطينية المحتلة. وفي حين أن المجتمع الدولي باتخاذه هذا الموقف لا يضمن إيجاد “حل”، فإنه حتمًا سيدعم النضال ضد ما يمكن أن يوصف بأنه احتواءٌ سياسي دائم وتخلف اقتصادي.
وباختصار، ثمة حاجةٌ لإعادة تركيز النقاش والتحليل والعمل بشأن استراتيجية الاحتواء الإسرائيلية – حل اللادولة القائم بحكم الواقع بالنسبة للأرض الفلسطينية – وتداعيات هذه الاستراتيجية في المجال الاقتصادي. وإلى أن يتحقق ذلك، سوف يظل تخلف التجارة الفلسطينية بخاصة، والاقتصاد الفلسطيني بعامة، أمرًا مضمونًا على الصعيد المؤسسي.