لمحة عامة
كالكثيرين من المزارعين حول العالم، وقع المزارعون الفلسطينيون ضحايا لنهج إنمائي نيوليبرالي نزولي من القمة إلى القاعدة يسعى إلى تجريدهم من أرضهم وبذورهم خدمةً للبنوك والشركات متعددة الجنسيات وعمالقة الأعمال التجارية الزراعية. ومن الوسائل المتبعة في هذا النهج المناطقُ الصناعية التي تبنيها السلطة الفلسطينية والتي ترسِّخُ اتكالية الفلسطينيين على إسرائيل وتُديم الإطار الاقتصادي المُجحف الراهن.7
تنقل الكاتبة الضيف ڤيڤيان صنصور ومدير برامج الشبكة علاء الترتير، في هذه الورقة السياساتية، صوت عددٍ من المزارعين الذين يحاولون الصمود أمام هذه التحديات في الوقت الراهن. ويركز الكاتبان تحديدًا على المزارعين في جنين وأريحا، حيث يجري حاليًا تشييد منطقتين صناعيتين كبيرتين، ويقترحان تدابير لمساعدة المزارعين في استعادة سيادتهم والثبات على أرضهم.8
المناطق الصناعية الفلسطينية: الخطر الجديد
“استيقظنا ذات يوم على إعلان من محافظ جنين يُعلمنا أن علينا إزالة محاصيلنا من الأرض. وإذا لم نفعل ذلك طواعيةً، فإن المحافظة ستزيلها لنا. كان محصولي حينها القمح. فذهبت وحصدته كي لا يتلفوه.”9
هذه كلمات محمود أبو فرحة الذي يناضل من أجل البقاء على أرضه، وهو أحد مزارعي قرية الجلمة في محافظة جنين الواقعة في الجزء الشمالي من الضفة الغربية المحتلة. لا يقتصر التهديد الذي يواجهه المزارعون الفلسطينيون اليوم، مثل أبو فرحة، على السياسة الإسرائيلية الماضية في مصادرة الأراضي بلا هوادة، بل يشمل الحملة المتنامية التي تشنها السلطة الفلسطينية نفسها من أجل مصادرة الأراضي لغايات بناء المناطق الصناعية والتي تزعم أنها ستساعد المزارعين وتؤمن فرصَ العمل. غير أن مزارعين كُثُر يخشون أن تكون تلك المناطق مصممةً فقط لتحويلهم إلى عمال بدلًا من مزارعين منتجين، وتجريدهم عن سبق إصرار وترصد من أهم مصادر قوَّتِهم، ألا وهو الأرض، بينما تدعي أنها تساعدهم.
إن الجهود المبذولة للحد من قوة المزارعين الفلسطينيين ليست أمرًا جديدًا. بل لم تنقطع المحاولات والسياسات العدوانية الرامية للقضاء فعليًا على المزارعين الفلسطينيين منذ تأسيس دولة إسرائيل في عام 1948، حيث بُذلت جهود حثيثة “لتحديث” المزارعين من خلال إدخال بذور وأساليب جديدة حدَّت من استقلالهم وفضَّلت الكمية على النوعية من أجل تلبية احتياجات المشروع الصهيوني الجديد. وفي حين روجت إسرائيلُ نفسها عالميًا بأنها “حولت الصحراء إلى جنة مزدهرة”، كان المزارعون الفلسطينيون هدفًا للتلاعب والتجارب التي كلفتهم الكثير من بذورهم الأصلية ومساحات واسعة من أراضيهم المنتجة. فبعد أن احتلت إسرائيل الأراضي الفلسطينية في 1967، طبقت العديد من هذه الأساليب على الضفة الغربية. وتوسعت السلطة الفلسطينية منذ إنشائها سنة 1993 في هذه العملية بدلًا من إيقافها ومحو آثارها، ممّا أوصل المزارعين الفلسطينيين اليوم إلى وضعٍ مزري.
لم يكن المزارعون في فلسطين وحدهم مَن تأثَرَ في ظل التوجه العالمي الرامي إلى إضفاء الطابع التصنيعي على الأراضي الزراعية، فالمزارعون حول العالم يتعرضون لهجمات ومحاولات لإضعاف استقلالهم في إنتاج الغذاء ولزيادة اعتمادهم على البنوك، والشركات متعددة الجنسيات، وعمالقة الأعمال التجارية الزراعية. تُمثِّل الزراعة الأسرية الصغيرة، سواء في هايتي أو هندوراس أو الهند أو فلسطين، آخر معاقل المقاومة في وجه نظامٍ سياسي عالمي تُحركه الرأسمالية ويعمل على إذابة هويات الشعوب وتجريدها من سيادتها الغذائية لضمان هيمنة النخب السياسية والاقتصادية على الموارد البشرية والطبيعية على حد سواء.
بالنسبة لأبو فرحة، ولمزارعين كثيرين، لا تمثل الزراعة مصدر رزقهم وحسب؛ بل هي مثالٌ حي للعلاقة الحميمة بالأرض، وتدخل في صلب الهوية والمعتقدات والقيم. وفي حالة فلسطين، تقود الزراعة نضالات المزارعين من أجل تقرير المصير في مواجهة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي لأراضيهم. بيد أن الزراعة الفلسطينية، التي تعاني إهمالًا مزمنًا وتخريبًا في أحيانٍ كثيرة من جانب القادة الفلسطينيين والمؤسسات الدولية وإسرائيل، باتت تواجه الآن تهديدًا جديدًا يتمثل في إنشاء مناطق صناعية فلسطينية برعاية دولية أو إقليمية. فهذه المناطق تساهم في حرمان الاقتصاد الفلسطيني من قدراته التحويلية؛ وتوسيع رقعة الهيمنة الإسرائيلية في الأرض الفلسطينية المحتلة؛ وزيادة اعتمادِ الفلسطينيين على إسرائيل من حيث السلع وأسواق العمل؛ وتشريد الزراعة الأسرية الصغيرة، وهي القوة التي استدامت الشعب الفلسطيني والثقافة الفلسطينية لأجيال. أمّا السلطة الفلسطينية وقطاعها الخاص والراعون الدوليون فيختلفون مع هذا الطرح، حيث يعتبرون المناطق الصناعية ركيزةً لجهود بناء الدولة التي ستعزز الاقتصاد الفلسطيني وتحقق التنمية المستدامة.
الزراعة في ظل الاحتلال وتطاول النيوليبرالية
يناضل المزارعون الفلسطينيون أيضًا للتحرر من قيود أخرى. فمنذ عام 1967، على سبيل المثال، أغرقت إسرائيل القطاعَ الزراعي الفلسطيني بالمبيدات الكيماوية ومبيدات الأعشاب والأسمدة. ودعت إلى اعتماد الزراعة أحادية المحصول التي جعلت المزارعين لقمةً سائغةً للوسطاء الذين يفرضون عليهم الأسعار وأنواع المحاصيل. ودفعت إسرائيل القطاع الزراعي كذلك نحو زراعة المحاصيل كثيفة العمالة مثل الفراولة والخيار والبندورة المنتَجة في بيوت زراعية تستخدم المواد الكيماوية بكثافة والعمالة الرخيصة.”10
وفي الوقت نفسه، لم تتمكن وزارة الزراعة الفلسطينية قط من حماية المزارعين من إغراق الأسواق الفلسطينية المحلية بالمنتجات الزراعية المتدفقة من المستعمرات اليهودية. ورغم حظر استيراد منتجات المستعمرات رسميًا في 2010، فإن الحظر غير مُطبَّقٍ في الغالب، ولا تزال المنتجات الزراعية ترد من المزارع التجارية الإسرائيلية، حتى أثناء توفر المنتجات الزراعية المحلية الموسمية. وفي الآونة الأخيرة، أُجبرت وزارة الزراعة التابعة للسلطة الفلسطينية في حزيران/يونيو 2014 على السماح بإغراق السوق الفلسطينية بالبطيخ الإسرائيلي رخيص التكلفة الذي دخل بحماية الجيش الإسرائيلي بعد أن كانت قد شجعت المزارعين الفلسطينيين على زراعة البطيخ ووعدتهم بتسويق محاصيلهم وحمايتها. وقد باتت هذه الظاهرة تحدث يوميًا بسبب عدم التكافؤ في ميزان القوى بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ممّا يُكبِّد عشرات المنتجين الفلسطينيين خسائرَ اقتصادية كبيرة.
يشير الكثيرون إلى أن الأموال المرصودة للقطاع الزراعي لا تتجاوز 1% من الموازنة السنوية الإجمالية للسلطة الفلسطينية. وفي الوقت ذاته، بلغت حصة القطاع الزراعي 1.4% فقط من إجمالي المساعدات الدولية بين عامي 1994 و2000، وقد انخفضت هذه النسبة في يومنا هذا إلى 0.7%. وفي 2012، بلغت مساهمة الزراعة في الناتج المحلي الإجمالي في الضفة الغربية وقطاع غزة 5.9% فقط مقارنةً بنسبة 13.3% في 1994. وهذا كله رغم تقارير برنامج الأغذية العالمي التي تفيد بأن 50% من الأسر الفلسطينية تعاني حاليًا من انعدام الأمن الغذائي.
تشير الجولة الأخيرة من محادثات “السلام” التي توسطت بها الولايات المتحدة الأمريكية بين منظمة التحرير الفلسطينية/السلطة الفلسطينية وإسرائيل إلى أن هناك أهوالًا أخرى تتربص بالمزارع الفلسطيني. في أيار/مايو 2013، روَّج وزير الخارجية الأمريكي جون كيري مبادرة الاقتصاد الفلسطيني في المنتدى الاقتصادي العالمي المنعقد في الأردن، واعدًا “بنموذج جديد للتنمية” من شأنه أن يجمع 4 مليارات دولار على شكل استثمارات دولية، ممَّا سيرفع الناتج المحلي الإجمالي في الضفة الغربية وقطاع غزة بنسبة تصل إلى 50% على مدى ثلاث سنوات، ويخفض معدل البطالة، ويزيد الأجور. (وبعد بضعة أشهر عُدِّل الرقم ليصبح 11 مليار دولار).
وقد أثارت تسريبات مبكرة حول مبادرة الاقتصاد الفلسطيني موجةً من الانتقادات للنهج الإنمائي النيوليبرالي التقليدي النزولي من القمة إلى القاعدة الذي تقدسه المؤسسات المالية الدولية. وهو لا يختلف، في الواقع، عن النموذج الاقتصادي الفاشل الذي ما انفك أصحاب المصلحة الدوليون يفرضونه على الفلسطينيين منذ بدء عملية أوسلو التي تطرح حلولًا اقتصاديةً لمشاكل سياسية.
تندرج الزراعة ضمن مبادرة الاقتصاد الفلسطيني كواحد من ثمانية “قطاعات رئيسية” تستهدفها التنمية في المقام الأول من خلال “المناطق الاقتصادية الخاصة” الفلسطينية الجديدة، أي المناطق الصناعية، زعمًا بأن هذه المناطق ستعزز الاقتصاد والقطاع الزراعي ولا سيما من خلال الاستثمار الزراعي التجاري وزيادة الأرباح. علمًا بأن العمل جارٍ في الوقت الحاضر على بناء منطقتين صناعيتين في جنين وأريحا. تتلقى المنطقتان تمويلًا دوليًا وتخضع لإشراف هيئة تابعة للسلطة الفلسطينية هي الهيئة العامة للمدن الصناعية والمناطق الصناعية الحرة.11
ومع ذلك، ورغم الزعم بأن هذه المناطق الصناعية تشكل مشروعًا وطنيًا فلسطينيًا، تحذر التقارير من أنها سوف تعود بالنفع على الشركات الإسرائيلية، ولا سيما العاملة في المستعمرات اليهودية في الضفة الغربية المحتلة – غير القانونية بموجب القانون الدولي – في حين ستدمر الزراعةَ الأسرية وأخصبَ الأراضي في الأرض الفلسطينية المحتلة. ويصف المنتقدون المناطقَ أيضًا بأنها “سجونٌ اقتصادية” تجعل الفلسطينيين أكثر تبعيةً لإسرائيل لأن السلطة الفلسطينية مضطرةٌ إلى الاعتماد على إحسان المحتل في الوصول، والحركة، وتحويل عائدات الضرائب.
وعلاوةً على ذلك، فإن تركيز النشاط الزراعي في هاتين المنطقتين يقوض ملكية الفلسطينيين للأرض بنقلهم من أرضهم إلى العمل في مناطق محددة عادةً ما تكون قريبةً من المراكز الحضرية، بالإضافة إلى قطع العلاقة بين المستهلك والمزارع المحلي. وهذا سيستَهل حتمًا عمليةً لنقل سكان المجتمعات الريفية وتحضيرهم قسرًا في المدى البعيد، الأمر الذي سيخلِّفُ عواقبَ ضارةً واسعةَ النطاق تنال من السيادة الفلسطينية والاستدامة في السياق الفلسطيني، فضلًا عن الأضرار البيئية المتوقعة التي ستنجم من إنتاج النفايات الصناعية الناتجة في كلتا المنطقتين الزراعيتين المأهولتين بالسكان.
تبذل السلطة الفلسطينية، في إطار سعيها للدفاع عن تعاونها مع إسرائيل، جهودًا حثيثة لترويج المناطق الصناعية باعتبارها مشاريع تنموية حميدة. ففي تموز/يوليو 2013، وقف القائم بأعمال رئيس الوزراء الفلسطيني آنذاك، رامي الحمد الله، أمام الكاميرات في موقع منطقة جنين الصناعية، معلنًا أن المنطقة ستوفر ما يزيد على 15,000 فرصة عمل. وفي الشهر نفسه، التقى وزير التخطيط الفلسطيني بوزراء يابانيين وأردنيين وإسرائيليين لمناقشة تطوير مدينة أريحا الصناعية الزراعية – التي توصف بأنها مشروعٌ رائد من مشاريع “مبادرة ممر السلام والازدهار” اليابانية المقترحة بهدف إرساء التعاون الإقليمي.12
مَن المستفيد؟ ليس المزارع في جنين بالتأكيد
يشكُّ المزارعون الفلسطينيون في أنهم سيستفيدون من هذه المناطق الصناعية. وبطبيعة الحال، تكمن أشد التوترات مع صغار المزارعين الذين لم تؤخذ مشورتهم، والذين يعتبرون هذه المناطق تهديدًا وجوديًا لهم. فقد نُبِذت منتجات الكثيرين من صغار المزارعين لأنهم لم يستطيعوا منافسة منتجات الأعمال التجارية الزراعية الواردة من إسرائيل ومستعمراتها غير القانونية. ولن تساهم المناطق الصناعية إلا في مفاقمة المشكلة.
تعود نشأة منطقة جنين الصناعية، والمعروفة أيضًا باسم الجلمة، إلى عملية أوسلو، حيث بدأ التخطيط لها في أواخر عقد التسعينيات بدعمٍ من بنك التنمية الألماني. وفي عام 2000، استملكت السلطة الفلسطينية ما مجموعه 933 دونمًا (230.5 فدان) “للصالح العام” وحوَّلت ملكيتها إلى الهيئة العامة للمدن الصناعية والمناطق الصناعية الحرة. ولكن المشروع جُمِّدَ بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في 2000. ولم تستأنف الهيئة العملَ فيه إلا سنة 2007، حين منحت الامتياز للشريك التركي، شركة تطوير المناطق الصناعية وإدارتها (TOBB-BIS) لإدارة المنطقة الصناعية لمدة 49 عامًا. إن أكثر ما يثير القلق بشأن منطقة جنين الصناعية هو تشييدها على جزءٍ من أراضي مرج بن عامر، وهي أخصبُ الأراضي السهلية في فلسطين، وجزءٌ من الهلال الخصيب – الذي كان على مر التاريخ بمثابة سلة الغذاء لفلسطين.
يقول المزارعون المحليون إن الأجيال المتعاقبة أطلقت اسم الرباعيات على الأرض التي تُبنى عليها المنطقة الصناعية. يزرع سكان قريتي الجلمة وبرقين المجاورتين هذا الجزء من مرج بن عامر ويكسبون رزقهم منه. تكتسي تلك الأرض بألوان متعددة تعكس التدرجات المختلفة لأصناف المحاصيل، كالسبانخ الخضراء، والسمسم المتفتح البراعم، وسيقان القمح الذهبية. ويحصل الكثيرون من أهالي القرى والمدن المحيطة على حاجتهم من البقوليات والعلف الحيواني من هذه البُقعة التي ستُبنى عليها مصانع المنطقة الصناعية ومحطة الطاقة، وتتوسع فيما بعد.
ومن أجل بناء هذه المنطقة الصناعية، تعكف السلطة الفلسطينية على إخراج المزارعين من الرباعيات بموجب قانون الاستملاك العام، الذي يتيح للحكومة شراءَ الأراضي بأسعار منخفضة إلزامية تحقيقًا “للصالح العام”. غير أن بعض المزارعين يرفضون التخلي عن مصدر رزقهم لأجل إنشاء منطقة صناعية ستمحو أسلوب حياتهم وتدمر مواردهم الطبيعية والاقتصادية. وفي الآونة الأخيرة، رفعَ حوالي20 مزارعًا دعوى قضائية ضد السلطة الفلسطينية يطعنون في مطالبتها بالأرض لاستخدامها للمنفعة العامة.
محمود أبو فرحة هو أحد المزارعين الذين انضموا إلى المعركة القانونية في محاولةٍ لإنقاذ أرضه. يروي، وهو يقود سيارته القديمة من نوع سوبارو عبر الوادي، كيف امتلكت أسرته الأرض: “اقتطعنا من خبزنا اليومي كي نتمكن من ادخار ما يكفي من المال لشراء هذا العقار. عمري الآن 59 سنة، وقد داومت على زراعة هذه الأرض لمدة 50 عامًا. هي حياتي”. بعينين حزينتين، حدَّق أبو فرحة في موقع البناء حيث نُصبَ سياج معدني وأُقيمت هياكل خرسانية مكان حقول القمح والشعير التي زرعها ذات يوم.
يعتقد أبو فرحة، والعديد من القرويين، أن القرارات السياسية والاقتصادية المتخذة لا تُبدي أي احترام للتراث وسُبل العيش. “تقول السلطات إن هذا المشروع يهدف إلى خدمة الصالح العام. أنا أزرع المحاصيل الغذائية. أليس ذلك أكثر نفعًا لعامة الناس من منطقةٍ صناعية لا تخدم سوى المصانع الكبرى؟ يبدو كما لو أن حياتنا كعكةٌ كبيرة، والسلطة الفلسطينية وإسرائيل والمانحون يريدون قطعة منها دون الالتفات لِما سيجري لنا. فالموضوع هو التربح وليس تحقيق الصالح العام.”
أكَّد ابو فرحة أن هناك طرقًا أخرى لتقدير قيمة الأرض. “ألفٌ ومائتا دونم [296.5 فدان] يُطعِمون ما يزيد على 20,000 شخص سنويًا، أمّا الآن فعلينا أن ننتظر خبزنا ليأتينا من بلدان أخرى. الأرض حياة. ومن دون أرضنا ليس لنا حياة.”
بالرغم من الجهود المشتركة المبذولة لإنقاذ وادي مرج بن عامر من الدمار الذي ينتظره، ردت المحكمة القضية التي رفعها المزارعون ضد السلطة الفلسطينية. وفي نيسان/إبريل 2014، تسلَّم المزارعون أوراقًا رسمية تجبرهم على قبول التعويض عن أراضيهم، والتي رفضوا بيعها في وقت سابق. قدَّر مخمنون تابعون للسلطة الفلسطينية أسعار الأراضي، وقُررت الأسعار دون التفاوض مع ملاك الأراضي. يقول أبو فرحة: “أخبروني أن رغبتي في البيع من عدمه لم تعد مهمةً لأن الأرض صارت ملكًا للمنطقة الصناعية. وأخبروني أيضًا أن ثمن الأرض سوف يُودع في حسابي كتعويض سواءً أردته أم لا.”
أوضحَ رئيس المجلس القروي في الجلمة خالد مرعي أن المجلس عكَفَ على إيجاد سُبلٍ لتقليل الأضرار قدر الإمكان، بعد فشل المزارعين في الحيلولة دون إنشاء المنطقة. ومن أبرز الشواغل التي تساورهم خشيتهم من إلقاء النفايات السامة فيما تبقّى من أراضيهم. “يعصى على المرء أن يفهم كيف تُبنى منطقة صناعية على أرضٍ صالحةٍ للزراعة وسط منطقة مأهولة. لقد فُرضَ المشروع على مجتمعنا المحلي فرضًا، وعلينا الآن أن نتعامل مع عواقبه المتوقعة، ولا سيما على الصعيدين البيئي والصحي.”
أردَفَ مرعي، وهو يشير إلى تلة صخرية في الأفق، “نحن لسنا ضد التنمية. ولكن لو أردنا بناء منطقة صناعية، لاخترنا تلك التلة، فهي بعيدة عن منازل الأهالي وقاحلة.” وحين سُئل عن البدائل التي كان سيقترحها لو استُشير، قال: “أعتقد أن غالبية سكان القرية كانت لترحب بمشروعٍ يستثمر فيما نملكه أصلًا، مشروعٍ من شأنه أن يجذب الشركات الصغيرة لتسويق منتجات المزارعين أو تعزيز المنتجات التي نصنعها بالفعل مع إيلاء اهتمام بالغٍ لرفاهية الأهالي ومستقبل قريتنا.”
وأكَّدَ جازمًا أن “لدينا العديد من البدائل الموجودة بالفعل في فلسطين. فلو كانوا راغبين في خلق فرص عمل، لاستثمروا في تعزيز تعاونيات المزارعين والمنتجين العديدة القائمة، وهو ما كان سيحافظ على الأرض والبيئة ويؤمِّن فرصَ عمل محلية للسكان المحليين، بما يخدم فلسطين بأسرها وليس فقط قريتنا.”
من جنين إلى أريحا
في حين أن منطقة جنين الصناعية لا تزال في مراحلها الأولية، شارفت أعمال البنية التحتية في مدينة أريحا الصناعية الزراعية على الانتهاء. ثمة أكوامٌ من المعدن من أحد المصانع التي دخلت طور التشغيل بالفعل تقبع بجانب ألواحٍ شمسية ممولة من الوكالة اليابانية للتعاون الدولي (جايكا) لتوريد الطاقة الخضراء للمدينة الصناعية. غير أن مهندسًا يمثل شركة كهرباء محافظة القدس يُدعى صبحي الحلاق أشار إلى أن الطاقة التي ستولدها تلك الألواح لن تكون كافية، ممّا سيقتضي شراء طاقة إضافية من إسرائيل والأردن، بينما لا يزال سكان أريحا يعانون نقصًا دائمًا في الطاقة الكهربائية.
تواجه جايكا انتقادات لعدم إنتاج دراسات جدوى كافية لتشغيل مدينة أريحا الصناعية الزراعية دون آليات مساءلة أو تدابير لضمان الشفافية. ومع ذلك، لا تقتصر أشد الانتقادات على أن نجاح المدينة الصناعية الزراعية يتوقف على التعاون بين المستعمَر والمستعمِر، بل إن المدينة نفسها تقع في وادي الأردن الخصيب، الذي تريد إسرائيل السيطرة عليه في ظل أي دولة فلسطينية مستقبلية. ولأن لإسرائيل اهتمامًا بالغًا في هذا المجال، فإن العديد من الأراضي الزراعية المجاورة تخضع لسيطرة المستعمرات اليهودية، التي يُتوقع أن تكون من المستفيدين الرئيسيين من المنطقة الصناعية وليس المزارعين الفلسطينيين.
يقول أبو مهند الفتياني، وهو مهندس زراعي وصاحب مشتل، إن قواعد مدينة أريحا الصناعية الزراعية وشروطها تجعل من المستحيل على المزارعين أن يضطلعوا بدورٍ مشارك. يجلس أبو مهند على حدود أرضٍ كانت ذات يوم مزرعةَ خضروات وافرة، ويضيف موضِّحًا: “بعض التابعين للسلطة الفلسطينية أخبرونا أن بإمكانهم أن يؤجرونا عقاراتنا الواقعة داخل المنطقة الصناعية، ولكن قيمة الإيجار السنوي الذي عرضوه تبلغ 30 دولارًا للمتر الواحد، أي 30,000 دولارٍ في السنة للدونم الواحد، وليس هناك مزارعٌ واحدٌ يقدر على دفع ذلك. وحتى لو تكاتف المزارعون معًا لفتح مصنع، فلن يستطيعوا. فلا يقدر على هذه الصفقات سوى كبار المستثمرين.”
سوف تظل هوية هؤلاء المستثمرين محط سؤال مثلما ستظل أنواع المصانع التي ستفتح أبوابها في المدينة الصناعية. وهذا الغموض يفاقم مخاوف صغار المزارعين في أريحا من أمثال عبد القادر، الذي أوضح أن المزارعين يعيشون حالةَ قلق لأن لديهم “سببًا وجيهًا للاعتقاد بأن هذه المناطق الصناعية ليست مصممةً لكي تكون منتجة، بل لتكون بمثابة مرافق لتعبئة منتجات المستعمرات الزراعية وتغليفها. فلو كان الهدف من هذه المناطق هو دعمنا، نحن المزارعون الفلسطينيون، لماذا لم يُشرِكونا إذن في الحوارات والمناقشات؟ وتساءَل عبد القادر: “مزارعنا هي مزارع عائلية. وليس بوسعها أن تدعم عمليات صناعية ضخمة من هذا القبيل، ولم يخاطبنا أحد بشأن زيادة إنتاجنا أو اكتساب مهارات جديدة، فكيف إذن يقولون إنها مدينة صناعية زراعية تهدف إلى مساعدة المزارع الفلسطيني؟”
تقبع على بُعد كيلومتر واحد عن مدينة أريحا الصناعية الزراعية مزارع التمور التي يملكها ناصر إسماعيل. وباعتباره من زارعي المنتجات العضوية، يُفاخِر ناصر باستخدامه المياه النظيفة في ري أشجار النخيل. وبينما كان يُراكم السماد العضوي في كومة كي يوزعه أبناؤه بالتساوي على كل نخلة، قال ناصر: “نواجه تحديًا يتمثل في تدفق تمور المستعمرات الأرخص بكثير لأنها تروى بمياه المجاري غير المعالجة.” وحين أخبرناه أن المنطقة الصناعية القريبة ستفتتح مرافق تعبئة وتغليف للتمور ومنتجات أخرى، قال والصدمة باديةٌ عليه: “إنْ صحَّ ذلك، فقد انتهى أمرنا. لأن مرافق التعبئة والتغليف هذه موجَّه لخدمة الإنتاج الغزير للحقول الزراعية. أمّا أنا فمن صغار المزارعين. وسأخسر عملي بسببها.”
ولعل ناصر يعي أكثر من غيره ما يعنيه الكفاح للبقاء واقفًا. فقد استحدثت اتفاقات أوسلو وبروتوكول باريس الاقتصادي لوائحَ حظرت بيع المنتجات الفلسطينية لإسرائيل، ممّا كبَّد ناصر خسارةً بلغت 84,000 شيكل (ما يعادل 25,000 دولار تقريبًا). واضطر بعدها لوقف زراعة التين والعنب والبدء بزراعة التمور كمحصول نقدي. وفي مواجهة التحدي الجديد وانعدام يقينه المتنامي بسبب المنطقة الصناعية المجاورة، قال ناصر إنه قد لا يملك القوة للاستمرار إذا ما خسر مزرعته. وفي مقابل ذلك، يُصرُّ أخوه أبو عيسى على مواصلة الزراعة رغم كل المعوقات: “إن حب الأرض والزراعة كالدم الذي يسري في العروق. حتى لو زرعت أصيص بقدونس فقط؛ عليّ أن أزرع. وحتى لو خسرت، فلن أترك أرضي أبدًا.”
نداء إلى المجتمع المدني
دأبت إسرائيل منذ عام 2011 على منح تصاريح لبعض المزارعين من الضفة الغربية وقطاع غزة لحضور أكبر مؤتمر زراعي سنوي يُعقد في إسرائيل ويضم مزارعين ومشترين وموزعين ومصدرين ومسوقين وآخرين غيرهم بهدف التشبيك وعقد الصفقات التجارية. فالذين كانوا يعتَبرون بالأمس “تهديدًا أمنيًا” لدولة إسرائيل صاروا اليوم ضيوفًا فخريين على فعالية رفيعة المستوى في تل أبيب. وتبدو الدعوات المرسلة لهؤلاء المزارعين، الذين تدفع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية تكاليف زياراتهم، محاولةً أخرى للاحتواء ضمن مبادرة كيري الاقتصادية، وتهدف تحديدًا لإقناع صغار المزارعين الفلسطينيين بالانضمام إلى مشاريع الأعمال التجارية الزراعية. وإنْ صحَّ ذلك، فإن من الأرجح أن تؤدي إلى زيادة ديون المزارعين الفلسطينيين وفصلهم أكثر عن أراضيهم.
يحتاج المزارعون الفلسطينيون إلى دعاة أشداء في الدفاع عن حقوقهم ضد سياسات إسرائيل و”الدولة” الفلسطينية. تُعد مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني والمنظمات غير الحكومية الفلسطينية جهاتٍ فاعلةً محليةً أقدر على الوصول إلى المنظمات والجهات المانحة الدولية التي تؤثر في سياسة التنمية في فلسطين، وبذلك تقع على عاتقها مسؤوليةٌ اجتماعية للتحرك دفاعًا عن المزارعين الفلسطينيين، بالتضافر حول العمل الذي تضطلع به منظمات من قبيل اتحاد لجان العمل الزراعي، ومركز بيسان للبحوث والإنماء، وشراكة: مبادرة مجتمعية لحفظ الموروث الزراعي. وعلى وجه الخصوص، يجب على مؤسسات المجتمع المحلي والمنظمات غير الحكومية أن تساعد في:
- تأمين الدعم والموارد لمساندة المزارعين في كفاحهم لمقاومة المناطق الصناعية.
- إتاحة سُبل ووسائل للمزارعين للتصدي للسلطة الفلسطينية نفسها، ولا سيما نظامها القضائي الذي يحرِم هؤلاء المزارعين حقوقَهم.
- تطوير مشاريع بالتنسيق مع قادة المجتمع المحلي لدعم المزارعين ببنية تحتية بديلة لزيادة الإنتاج، والتسويق المحلي، وسلاسل الأنشطة المحلية المُضيفة للقيمة.
- تنظيم حملة توعية عامة لتعرية خرافة مشروع بناء الدولة، الذي يخدم أجندةً نيوليبرالية عالمية على حساب المزارع الفلسطيني.
ليس بمقدور الشعب الفلسطيني أن ينتظر حتى تتغير السياسة، بل ثمة حاجة لبذل جهود منظمة ومتواصلة ضمن المجتمع المحلي لإعادة الاستثمار في الزراعة المحلية. وينبغي التركيز بشكل أساسي على إعادة ربط المستهلكين بالمزارعين مباشرة. وهذا ينطوي على أن يقوم المجتمع المحلي بتمويل المشاريع الزراعية – بمساعدة من الهياكل التعاونية – التي تنفذها الشركات الربحية وغير الربحية المبتدئة القادرة على وضع أدوات تجعل تكاليف الزراعة المستدامة معقولةً ومجديةً أكثر بالنسبة للمزارعين والبائعين والمستهلكين. المزارعون هم المعقلُ الأخير للفلسطينيين من أجل الحرية، وركيزةٌ رئيسيةٌ لإقامة نموذج تنمية بديلة على أساس اقتصاد المقاومة والصمود. إن الزراعة والسيادة الغذائية مصدران للقوة التي تُمكِّن الشعوب من المطالبة بحقوقها والحفاظ على تراثها القديم والمتنوع. ومن دون الوسيلة التي تمكِّن الفلسطينيين من إعالة أنفسهم، سيفقدون واحدًا من أهم عناصر المقاومة بحوزتهم.
- تتوفر كافة إصدارات الشبكة باللغتين العربية والانجليزية (اضغط/ي هنا لمطالعة النص بالإنجليزية). لقراءة هذا النص باللغة الفرنسية، اضغط/ي هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.
- يتقدم الكاتبان بالشكر الجزيل للمزارعين ولثائر وشحة (مركز بيسان للبحوث والإنماء) ولِرينا الزعبي لمساهمتهم القيّمة لصالح هذه الورقة السياساتية.
- جميع الاقتباسات مأخوذة من مقابلات أجراها الكاتبان، ما لم يرد خلاف ذلك.
- لمزيد من المعلومات، انظر/ي
Kurzom, Towards Alternative Self-Reliant Agricultural Development (Birzeit: Birzeit University Development Studies Programme, 2001), and MA’AN Development Center and the Union of Agricultural Work Committees (UAWC). - للاطلاع على تحليل أوفى، انظري
“Neoliberal Palestine” in Ali Abunimah, The Battle for Justice in Palestine (Chicago, Illinois: Haymarket Books, 2014), 75-124 - [قال](https://al-shabaka.org/sites/default/files/Tartir_BCRD_Paper_En.pdf) وزير الخارجية الياباني: “عندما يتبلور مفهوم ممر السلام والازدهار، فإن المشكلة الإقليمية سوف تُحلُّ بوسائل اقتصادية وليس أمنية أو سياسية.”