The Russell Tribunal on Palestine and the Question of Apartheid

عقدت محكمة راسل بشأن فلسطين مؤخرًا جلستها الثالثة في كيب تاون بجنوب إفريقيا. ولعلّ أكثر ما توصلت إليه إثارةً للجدل هو أن إسرائيل تطبق نظام فصل عنصري على الشعب الفلسطيني بأسره، بمن فيهم مواطنوها. فما أهمية هذا الاستنتاج، وماذا يعني بالنسبة للمجتمع المدني في فلسطين والشتات، وبالنسبة لإسرائيل ومؤيديها؟ يُبيِّن مدير برامج الشبكة، فكتور قطان، في هذه الورقة معنى الفصل العنصري في القانون الدولي ويُبرز النتائج التي توصلت إليها المحكمة ويشرح أهميتها.

نظرة عامة

كثيرًا ما يستخدم المنتقدون للمعاملة التي يتلقاها الفلسطينيون على يد إسرائيل مصطلح الأبارتهايد (الفصل العنصري) – والتي تعني “الفصل” بلغة أفريكانس. ولكن هل هناك صحةٌ للادعاء القائل بأن إسرائيل تمارس الفصل العنصري ضد الشعب الفلسطيني أم إنه ادعاء عارٍ من الصحة واستفزازي بحت؟ لقد عقدت محكمة راسل بشأن فلسطين مؤخرًا جلستها الثالثة في كيب تاون بجنوب إفريقيا للنظر في هذه المسألة. ولكن لماذا كانت ردة فعل المدافعين عن إسرائيل شديدةً في وجه المحكمة – التي هي أصلًا مبادرةٌ شعبيةٌ لا سلطةَ لها على صعيد العلاقات بين الدول – حتى بلغ الأمر بهم إلى قرصنة الموقع الإلكتروني الخاص بالمحكمة، وثم لماذا التزموا الصمت بعد أن أصدرت المحكمة استنتاجاتها؟ هل استنتاج المحكمة القاضي بأن إسرائيل تطبق نظامًا من الفصل العنصري على الشعب الفلسطيني بأسره، بمن فيهم مواطنوها، قادرٌ على اجتياز اختبار الصحة؟ ما أهمية هذا الاستنتاج، وماذا يعني بالنسبة للمجتمع المدني في فلسطين والشتات وبالنسبة لإسرائيل ومؤيديها؟ يبين مدير برامج الشبكة فكتور قطان في هذه الورقة معنى الفصل العنصري في القانون الدولي ويُبرز النتائج التي توصلت إليها المحكمة ويشرح أهميتها.

محكمة راسل بشأن فلسطين

تأسست محكمة راسل الأولى في عام 1966 على يد الأرستقراطي والفيلسوف البريطاني السير برتراند راسل بُغية إعلام الرأي العام وتعبئته في وجه التدخل الأمريكي في حرب فيتنام. وانعقدت محكمة راسل مرةً ثانيةً بخصوص أمريكا اللاتينية وركزت على انتهاكات حقوق الإنسان في الأرجنتين والبرازيل وشيلي.

تأسست محكمة راسل بشأن فلسطين في عام 2009 بُعيد الهجوم الذي شنته إسرائيل على قطاع غزة في إطار عملية الرصاص المصبوب التي راح ضحيتها أكثر من 1400 فلسطيني والتي نعتتها بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة بوصفها “هجومًا غير متناسب بشكل متعمَّد قُصد به معاقبة السكان المدنيين وإذلالهم وإرهابهم.”1 وقد انتاب مؤسسي المحكمة، وهم مجموعة كبيرة من المواطنين العاملين على تعزيز السلام والعدالة في الشرق الأوسط، القلقُ حيال إخفاق المجتمع الدولي في تنفيذ الرأي الاستشاري الصادر من محكمة العدل الدولية عام 2004 بخصوص تشييد جدارٍ على الأرض الفلسطينية المحتلة.2

ويجب عدم الخلط بين محكمة راسل بشأن فلسطين ومحاكم القضاء المنشأة قانونًا. فمحكمة راسل هي محكمة شعبية. ومع ذلك، فإن إجراءاتها تتم على غرار المراحل الأولية للنموذج التحقيقي المتَّبع في الإجراءات الجنائية والتي يتحقق بموجبها قاضي التحقيق من التهم للبتّ فيما إذا كان لها أصل، وذلك قبل النظر فيما إذا كانت تُشكل أساسًا لإجراء محاكمة.3

ضمّت هيئة المحلفين المجتمعة في كيب تاون في الجلسة الثالثة لمحكمة راسل بشأن فلسطين في الفترة من 5 إلى 7 تشرين الثاني/نوفمبر 2011 ستيفان هيسيل، أحد الناجين من محارق النازية ودبلوماسيٌّ فرنسي سابق ساعد في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وروني كاسريلز وهو عضوٌ يهودي في المؤتمر الوطني الإفريقي أصبح لاحقًا عضوًا في حكومة جنوب إفريقيا في مرحلة ما بعد الفصل العنصري.4 كما اشتملت هيئة المحلفين على ميريد ماغواير الحائزة على جائزة نوبل للسلام عن عملها في آيرلندا الشمالية، وأليس ووكر الكاتبة الأمريكية ذات الأصول لإفريقية الحائزة على جائزة بوليتزر عن روايتها “اللون البنفسجي” (The Color Purple) وسينثيا ماكيني العضوة السابقة في الكونغرس الأمريكي والتي كانت أول امرأة أمريكية من أصل إفريقي تمثل ولاية جورجيا في مجلس النواب الأمريكي، وياسمين سوكا العضوة في لجنة الحقيقة والمصالحة الجنوب إفريقية، ومايكل مانسفيلد المحامي البريطاني المرموق، وأنطونيو مارتن بالين أحد القضاة السابقين في المحكمة العليا الإسبانية. وكانت هيئة المحلفين مكلفةً بتقييم ما إذا كانت الممارسات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني تشكل خرقًا للحظر المفروض على الفصل العنصري بموجب القانون الدولي. وكان قرار استضافة المحكمة في متحف المنطقة السادسة قرارًا رمزيًا للغاية فهو يُخلِّد لخراب مجتمع المنطقة السادسة المتعدد الثقافات في كيب تاون وترحيله قسريًا على يد حكومة الفصل العنصري في عقد السبعينات من القرن المنصرم.

افتُتحت أعمال المحكمة رسميًا بكلمةٍ ألقاها رئيس الأساقفة ديزموند توتو. واستدعت المحكمة 25 خبيرًا للإدلاء بشهاداتهم، وقدّم هؤلاء الشهود إفادات مكتوبةٍ تسنّى لهيئة المحلفين دراستُها في وقتٍ سابقٍ. وفي أثناء الجلسات العامة للمحكمة، طُلبَ منهم تقديم العروض، وفي بعض الحالات كان عليهم الإجابة على أسئلة طرحتها عليهم هيئة المحلفين.

وقد دُعيت الحكومة الإسرائيلية لعرض قضيتها أمام المحكمة ولكنها اختارت عدم ممارسة هذا الحق ولم تقدم ردًا على الرسائل التي بعثتها لها المحكمة. إن امتناع إسرائيل عن عرض قضيتها لا يُبطل نتائج المحكمة، فقد استطاعت هيئة المحلفين أن تأخذ في اعتبارها موقف الحكومة الإسرائيلية بالاستناد إلى مواد متاحةٍ لعامة الجمهور وإلى ردةِ فعل الاتحاد الصهيوني الجنوب إفريقي.

ما هو الفصل العنصري؟

يرتبط الفصل العنصري عادةً بنظام التمييز العنصري العلني الذي كان سائدًا في جنوب إفريقيا في الفترة بين 1948 و1994 وفي جنوب غرب إفريقيا (ناميبيا) في الفترة بين 1948 و1990. وكان هناك نظامٌ تميزيٌّ مشابهٌ سائدٌ في روديسيا (زيمبابوي حاليًا) في الفترة بين 1965 و1979. ولأن الفصل العنصري نظامُ حكمٍ لا يقتصر على سياق جنوب إفريقيا، فإن ﺍﻻﺘﻔﺎﻗﻴﺔ ﺍﻟﺩﻭﻟﻴﺔ ﻟﻘﻤﻊ ﺠﺭﻴﻤﺔ ﺍﻟﻔﺼل ﺍﻟﻌﻨﺼﺭﻱ ﻭﺍﻟﻤﻌﺎﻗﺒﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ (اتفاقية الفصل العنصري لعام 1973) تعرِّف الفصل العنصري بوصفه جريمةً “تشمل سياسات وممارسات العزل والتمييز العنصريين المشابهة لتلك التي تمارس في الجنوب الإفريقي.” فتطبيق الفصل العنصري في جنوب القارة الإفريقية في عقد السبعينات من العقد المنصرم لم يكن يعني استحالة تكراره في أماكن أخرى. ومَن صاغ الاتفاقية أدرك تلك الحقيقية.5

يرِد تعريف الفصل العنصري في اتفاقية الفصل العنصري لعام 1973 بأنه “أفعال لاإنسانية مرتكبة لغرض إقامة وإدامة هيمنة فئة عرقية ما على أية فئة عرقية أخرى واضطهادها إياها بصورة منهجية.” كما يورد نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية تعريفًا مشابهًا للفصل العنصري. وينطبق الحظر المفروض على ممارسة الفصل العنصري حيثما (1) توجد مجموعتين عرقيتين مختلفتين؛ (2) تُرتكب “أفعال لاإنسانية” بحق المجموعة الأضعف؛ (3) تُرتكب مثل هذه الأفعال على نحوٍ ممنهجٍ في سياق نظامٍ ممأسسٍ يتسم بهيمنة مجموعةٍ عرقيةٍ على الأخرى.

لقد برهنت إفادات الخبراء المرفوعة إلى المحكمة بأن التصورات حول الهوية اليهودية الإسرائيلية والهوية الفلسطينية تُظهر إمكانية تعريف اليهود الإسرائيليين والعرب الفلسطينيين بسهولة كجماعتين عرقيتين مختلفتين لغرض القانون الدولي. وفي سياقٍ متصل، اعتبرت محكمة راسل بأن الفلسطينيين جميعهم، بمن فيهم الذين في إسرائيل وفي الأراضي المحتلة واللاجئون، يشكلون بمجملهم الشعب الفلسطيني، ولذا أخذتهم في حسبانها عند تقييم ما إذا كانت الممارسات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني قد خرقت الحظر المفروض على ممارسة الفصل العنصري بموجب القانون الدولي.

تُعتبر ممارسة الفصل العنصري، بحسب القانون الدولي، خرقًا خطيرًا للتعهد الدولي وجريمةً دوليةً. وترد جريمة الفصل العنصري في القانون الجنائي الدولي، وينبثق الحظر المفروض على ممارسة الفصل العنصري من قانون حقوق الإنسان، ولا سيما تلك المعاهدات التي تحظر التمييز العنصري.

استنتاجات المحكمة

خلُصت محكمة راسل بشأن فلسطين إلى أن “إسرائيل تُخضِع الشعب الفلسطيني وعلى نحوٍ ممنهجٍ ومُمأسسٍ إلى هيمنتها بما يرقى إلى مستوى الفصل العنصري على النحو المتعارف عليه دوليًا بموجب القانون الدولي.” وتُبين المحكمة بأن:

يتجلى هذا النظام التمييزي بدرجات متفاوتةٍ في الحدة وبأشكالٍ متباينةٍ تُمارس ضد فئات الفلسطينيين المختلفة اعتمادًا على مواقع تواجدهم. فالفلسطينيون القاطنون في ظل الحكم العسكري الاستعماري في الأراضي الفلسطينية المحتلة يخضعون لفصلٍ عنصريٍّ مُستحكمٍ بوجه خاص. أمّا المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل، ورغم امتلاكهم الحقَّ في التصويت، فهم ليسوا جزءًا من الأمة اليهودية بحسب تعريفها في القانون الإسرائيلي وبالتالي فهم يُستبعَدون ويُحرَمون من مكتسبات الجنسية اليهودية ويخضعون لتمييزٍ منهجي في شتى حقوق الإنسان المعترف بها. وبغض النظر عن تلك الاختلافات، فإن المحكمة تخلص إلى أن الحكم الإسرائيلي النافذ على الفلسطينيين، حيثما كانوا يقيمون، يرقى بمجمله إلى نظامٍ واحدٍ ومتكاملٍ من الفصل العنصري.

ولعل ما توصلت إليه المحكمة من أن السياسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني ترقى بمجملها إلى نظامٍ واحدٍ ومتكاملٍ من الفصل العنصري ينطبق عليهم بصرف النظر عن مكان إقامتهم، ويتفاوت فقط في حدة الفصل العنصري المُمارس ضد فئات معينة من الفلسطينيين، كان على الأرجح الأكثر جدلًا من بين ما خلصت إليه محكمة راسل بشأن فلسطين. فعلى سبيل المثال، تناولت الدراسات السابقة حول الفصل العنصري النظام الإسرائيلي النافذ في الأراضي الفلسطينية المحتلة فقط.6 ولعل أحد التفسيرات لعدم إقدام الدراسات السابقة على النظر فيما إذا كان الفصل العنصري يُمارس داخل إسرائيل كان الاعتقاد بأن الحُجة على إسرائيل ستكون أضعف. وهذا مردّه إلى سمةٍ مميزةٍ للفصل العنصري الذي كان مُطبقًا في جنوب إفريقيا وهي حرمان الأفارقة من حقهم في التصويت، في حين أن الأقلية الفلسطينية في إسرائيل ليست محرومةً من حقها في التصويت أو تكوين الأحزاب السياسية.

غير أن تلبية بنود اتفاقية الفصل العنصري لعام 1973 لا تقتضي إثبات تكرار واقعة الفصل العنصري تمامًا مثلما مورِست بحذافيرها في جنوب إفريقيا. بل إن اتفاقية الفصل العنصري لا تأتي على ذكر حق التصويت في القائمة الطويلة لأمثلة الفصل العنصري الواردة صراحةً في مادتها الثانية. وربما يرجع ذلك، باعتراف الجميع، إلى الاختلافات الأيديولوجية، إذ لم تكن الانتخابات الحرة والنزيهة أمرًا مألوفًا لدى البلدان الشيوعية التي كان لها دورٌ فاعلٌ في مناهضة الفصل العنصري والاستعمار ومهّدت الطريق لتبني اتفاقية الفصل العنصري سنة 1973.

ويُحتمل أيضًا أن واضعي الاتفاقية لم يروا في حرمان الأفارقة من حقهم في التصويت إلّا وجهًا واحدًا، ليس الأهم، للتدابير التشريعية الكثيرة التي “يُقصد بها منع مجموعة أو مجموعات عرقية من المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للبلد” (انظر البند (ج) من المادة الثانية من اتفاقية الفصل العنصري لعام 1973). ففي روديسيا، مثلًا، كان بوسع الأفارقة الإدلاء بأصواتهم ولكن على قائمة منفصلة فقط وهو ما وضع حدّا لعدد النواب الذين كان باستطاعتهم انتخابهم لعضوية البرلمان، أي لم يكن بوسعهم على الإطلاق بلوغُ عددٍ يؤهلهم لتحدي القوانين والسياسات التي تضعها الأقلية البيضاء.7 ويمكن أن تُساق حجةٌ مشابهةٌ ضد إسرائيل. ففي حين يستطيع الفلسطينيون التصويت وتشكيل أحزابٍ سياسيةٍ في إسرائيل، فإن أنشطتهم تظل مقيدةً بشرط أن إسرائيل دولةٌ يهوديةٌ وليس بوسع جمهور الناخبين الفلسطينيين وممثليهم في الكنيست (أي البرلمان الإسرائيلي باللغة العبرية) تغيير ذلك مُطلقًا.

وثمة سمةٌ أخرى للفصل العنصري في صورته التي مورِس بها في الجنوب الإفريقي وهي حكم الأقلية. فقد فرض 3 في المئة فقط من سكان روديسيا حكمهم على سائر السكان البالغة نسبتهم 97 في المئة. وكان الحكام من العرق الأبيض، في حين كان المحكومون من أصحاب البشرة السوداء. وبالمثل، فرض البيض في جنوب إفريقيا وهم يشكلون 20 في المئة من السكان حكمهم على باقي السكان البالغة نسبتهم 80 في المئة والذين كانوا من السود. أمّا المنتقدون للمقارنة بين إسرائيل وجنوب إفريقيا فعادةً ما يشيرون إلى أن الفلسطينيين في إسرائيل أقليةٌ، إذ لا تتعدى نسبة السكان الفلسطينيين في إسرائيل داخل حدود 1967 نحو 22 في المئة. بيد أن ضعف هذه الحجة ينبع من الحقيقة المتمثلة في أن اتفاقية الفصل العنصري لعام 1973 لا تتطرق مُطلَقًا إلى حكم الأقلية. وفي جميع الأحوال، فإن السكان الفلسطينيين الخاضعين للسيطرة الإسرائيلية بمن فيهم القاطنون في الأراضي الفلسطينية المحتلة هم أكثر بكثير. وعلاوة على ذلك، فإن المقارنة مع الجنوب الإفريقي تصبح أكثر وضوحًا وجلاءً متى ما أُدخل اللاجئون الفلسطينيون والمشردون في عامي 1948 و1967 في حساب هذه المعادلة.

التحسس من استخدام مصطلح “الأبرتهايد” أو “الفصل العنصري”

يتسم المنتقدون لوصف ممارسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين بالفصل العنصري بحساسيتهم لأن الفصل العنصري، وباعتراف العالم، يرقى إلى كونه جريمةً ضد الإنسانية.8 وثمة عواقب وخيمة تلحق بأولئك المنخرطين في ارتكاب هذه الجريمة. ولعل هذا يفسر قيام القاضي ريتشارد غولدستون، قُبيل انعقاد محكمة راسل بشأن فلسطين، بنشر مقالة رأي في صحيفة نيويورك تايمز قال فيها إن من الخطأ استخدام كلمة “الأبرتهايد،” أي الفصل العنصري، في سياق إسرائيل لأن “عرب إسرائيل – الذي يشكلون 20 في المئة من سكان إسرائيل – يصوتون ولديهم أحزاب سياسية وممثلون في الكنيست ويعملون في مناصب عليا بما فيها منصب القضاء في المحكمة العليا.”9 وما لم يتطرق إليه القاضي غولدستون فهو القضايا التي لا تحصى المرتبطة بالممارسات الإسرائيلية التمييزية بحق السكان الفلسطينيين في الكثير من مجالات الحياة العامة الأخرى، مثل تقييد إمكانية حصولهم على حقوق الإقامة، وملكية الأراضي، والتخطيط الحضري، والخدمات، والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

وكما ذكرت محكمة راسل بشأن فلسطين فإن “النظام القانوني الإسرائيلي يمنح أفضليةً لليهود على غيرهم من خلال القوانين المتعلقة بالجنسية والمواطنة اليهودية، فقد أفرزت المواطنة اليهودية مجموعةً تحظى بامتيازات في معظم مجالات الحياة العامة.” وفيما يتعلق بالضفة الغربية، أعربت المحكمة عن قلقها إزاء الفصل والتمييز الممأسسين المتجليين في وجود نظامين قانونيين منفصلين تمامًا، “فالفلسطينيون يخضعون لقانونٍ عسكري تطبقه محاكمُ عسكريةٌ لا تفي بالمعايير الدولية للمحاكمة العادلة، بينما يخضع اليهود الإسرائيليون القاطنون في المستوطنات غير الشرعية للقانون المدني الإسرائيلي ونظام المحاكم المدنية. والمحصلة هي تطبيق إجراءاتٍ وعقوباتٍ متباينةٍ للغاية في إطار الجريمةٍ ذاتها المرتكبة ضمن اختصاص قضائي واحد.”

ومن الجدير بالذكر أن إسرائيل تتعمد إخفاء مقدار ما تمارسه من فصلٍ عنصري. فعلى النقيض من القوانين والتشريعات العنصرية الصريحة والمتاحة في جنوب إفريقيا، يتعذر الوصول إلى الكثير من القوانين في إسرائيل. ومن أمثلة ذلك أن الأوامر العسكرية قلما تُنشر وأن كافة التشريعات تصدر باللغة العبرية. ولمّا كان من المتوقع أنه ينبغي نشر التشريعات الإسرائيلية باللغة العبرية، وهي اللغة المستخدمة في أوساط سكان إسرائيل من اليهود دون العرب، فإن ذلك يُصعِّب فهمها على جمهور القراء من غير الناطقين بالعبرية.10 لقد كان التمييز في جنوب إفريقيا جليًا ولم يكن منشورًا بلغة أفريكانس وحسب بل وبالإنجليزية وباللغة الشائعة، ممّا يعني أن فهمه كان يسيرًا وسهلًا عند الغرب.

ويجدر أيضًا ذِكرُ الشكوى التي رفعتها عضوة الكنيست اوتنيل شنيلر من حزب كاديما إلى لجنة الأخلاق في الكنيست، أثناء انعقاد محكمة راسل بشأن فلسطين، ودعت فيها إلى سحب الجنسية الإسرائيلية من حنين الزعبي النائبة الفلسطينية في الكنيست الإسرائيلي والتي كانت من ضمن من أدلى بشاهدته أمام المحكمة. وقالت شنيلر لصحيفة جيروزاليم بوست بأنها تمنّت طرد الزعبي من الكنيست وكذلك طرد جمال زحالقة عضو الكنيست من حزب بلد وهو نائب فلسطيني، وذلك بسبب رحلة قاما بها إلى تركيا، وبسبب مثول الزعبي أمام محكمة راسل بشأن فلسطين. وقالت شنيلر للصحيفة إنه “ينبغي لهما الذهاب إلى برلمان غزة حيث ينتميان،” بعدما أشارت إليهما بأنهما “الطابور الخامس، وأعداء الدولة العاملون من الداخل.”11

تنص المادة الثانية في البند (و) من اتفاقية الفصل العنصري على أن “اضطهاد المنظمات والأشخاص بحرمانهم من الحقوق والحريات الأساسية لمعارضتهم للفصل العنصري” يمكن أن يشكل بحد ذاته فصلًا عنصريًا.

أهمية إثبات الفصل العنصري

انبثقت قُبيل اجتماع محكمة راسل بشأن فلسطين في كيب تاون سلسلةٌ من التقارير المنتقدة في وسائل الإعلام منها مقالة غولدستون الجدلية في صحيفة نيويورك تايمز، كما خرجت احتجاجات إلى الشارع، واستُنسِخ موقع المحكمة الإلكتروني ثم جرت قرصنته قُبيل إعلان المحكمة عن نتائجها. وأمّا ما إذا كان لتلك الأفعال جدوى في خدمة مصالح إسرائيل، فذلك موضع شك، ولا سيما أن كلَّ ما أحرزته تلك الأفعال جميعها هو جذب اهتمامٍ أكبر إلى محكمة راسل بشأن فلسطين وممارسات الفصل العنصري الإسرائيلية، وهو اهتمام يفوق ما كانت ستحظى به المحكمة في الصحافة الدولية. وفي جنوب إفريقيا، زخرت الصحف المحلية بأخبار محكمة راسل وكثرت مقالات الرأي التي تناولتها كما نُشرت عدة مقالات مطوَّلة. وغطّت كبرى الصُحف في جنوب إفريقيا المؤتمر الصحفي الذي تلا فيه المحامي المرموق مايكل مانسفيلد استنتاجات المحكمة، حتى إن إحدى الصحف الكبرى كرّست قسمًا على صفحتها الأولى للحديث عن المحكمة. وبالمقارنة مع التغطية الإعلامية لجلسات المحكمة السابقة، مثّلت هذه التغطية نجاحًا باهرًا.

ومن الجوانب المثيرة التي رافقت المحكمة صمتُ إسرائيل ومؤيديها منذ الإعلان عن نتائج المحكمة. ولعله صمتٌ متعمدٌ إذ إن إسرائيل على الأرجح لا تود لفت الانتباه إلى توصيات المحكمة التي تضمنت توصيةً تدعو الدول إلى “بذل ما يكفي للضغط على إسرائيل، بما في ذلك فرض العقوبات، وقطع العلاقات الدبلوماسية بشكل جماعي من خلال المنظمات الدولية، أو قطع العلاقات الثنائية بشكل فردي مع إسرائيل في حال عدم وجود توافق في الآراء.”

كما دعت المحكمةُ المجتمعَ المدني العالمي إلى “تكرار روح التضامن التي أسهمت في إنهاء نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، بما في ذلك عن طريق إطلاع البرلمانات الوطنية على نتائج هذه المحكمة، ودعم حملة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها.” ودعت كذلك في توصياتها “الجمعية العامة للأمم المتحدة لإعادة تشكيل اللجنة الخاصة لمناهضة الفصل العنصري التابعة للأمم المتحدة، والدعوة إلى عقد دورةٍ استثنائيةٍ للنظر في مسألة التمييز العنصري ضد الشعب الفلسطيني.” وفي هذا الصدد، دعت المحكمةُ اللجنةَ إلى “إعداد قائمةٍ بالأفراد والمنظمات والبنوك والشركات والمؤسسات والجمعيات الخيرية والهيئات الأخرى الخاصة والعامة التي تساعد نظام الفصل العنصري في إسرائيل، وذلك بُغية اتخاذ التدابير المناسبة.”

وبالنظر إلى صمت المجتمع الدولي إلى الآن حيال الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة لحقوق الشعب الفلسطيني، فإن من المستبعد أن يلتفت المجتمع الدولي إلى نتائج محكمة راسل بشأن فلسطين. بيد أن توصيات المحكمة لها أهميتها، فهي تقدم حُججًا صيغت بعنايةٍ على يد شخصيات تحظى باحترام دولي بشأن السُبل التي يتسنى من خلالها استخدام الفصل العنصري لإعادة تأطير الخطاب حول سياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين. كما إنها تقدم خارطة طريقٍ واضحةٍ لأعمالٍ يستطيع المجتمع المدني الدولي تنفيذها حتى تساهم حكوماتها في إحلال السلام وإنهاء هذا الصراع. إن لانعقاد المحكمة في بلدٍ ساد فيه نظام الفصل العنصري ثم اندثر أهميةٌ ومغزى بارز. ففي جنوب إفريقيا، ثمة موجةٌ عارمةٌ من الشعور الشعبي المناهض للتمييز الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني، وتصاحبُ هذا الشعور حملات مقاطعةٍ مؤثرةٍ داخل المجتمع المدني تقودها الاتحادات العمالية والجامعات. وما من شكٍ في أن نتائج المحكمة ستعزز ذلك الشعور وتلك الحملات. لذا فإنه يليق بشعب جنوب إفريقيا وحكومته لو يقودون حركةً دوليةً للضغط على الحكومات بُغية تعديل سياساتها تجاه إسرائيل والفلسطينيين.

لقراءة الموجز التنفيذي لنتائج محكمة راسل بشأن فلسطين باللغة الإنجليزية انقر هنا
لقراءة الموجز التنفيذي لنتائج محكمة راسل بشأن فلسطين باللغة العربية انقر هنا
للاطلاع على معلومات أوفى بشأن محكمة راسل، انظر هنا


  1. انظر تقرير بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن النزاع في غزة (المُسمى “تقرير غولدستون” على اسم القاضي الجنوب إفريقي ريتشارد غولدستون الذي ترأس البعثة)، في الوثيقة الخاصة بالأمم المتحدة A/HRC/12.48، 25 أيلول/سبتمبر 2009، صفحة 408، فقرة 1893. 
  2. الآثار القانونية الناشئة عن تشييد جدار في الأرض الفلسطينية المحتلة، رأي استشاري، تقارير محكمة العدل الدولية 2004، صفحة 136 http://www.icj-cij.org/docket/files/131/1671.pdf 
  3. يسود النموذج التحقيقي في البلدان التي تطبق القانون المدني عِوضًا عن القانون العام، مثل فرنسا. ويوضح أستاذ القانون الجنوب إفريقي ميرفين بينون هذا النموذج بقوله: “يستدعي قاضي التحقيق الشهود، ويستجوبهم، وغالبًا ما يوجه مسار التحقيق. وبوسع هذه العمليات أن تتوافق توافقًا وافيًا تمامًا مع مبدأ افتراض البراءة المقرر دوليًا واشتراط وجود معيار رصين للإثبات قبل أن تصدر إدانة في المحاكمة اللاحقة.” انظر ميرفين بينون، “Not judges but witnesses”, Mail & Guardian, ، 4تشرين الثاني/نوفمبر 2011. http://mg.co.za/article/2011-11-04-not-judges-but-witnesses 
  4. انعقدت الجلسة الأولى لمحكمة راسل بشأن فلسطين في برشلونة “للنظر في أوجه التواطؤ واللامبالاة التي يتسم بها موقف الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء إزاء الاحتلال الإسرائيلي المستمر للأراضي الفلسطينية واستدامة الانتهاكات التي ترتكبها إسرائيل بحق القانون الدولي.” والتأمت الجلسة الثانية في لندن لبحث تواطؤ الشركات على المستوى الدولي مع الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الجنائي والإنساني الدولي. 
  5. انظر، على سبيل المثال، البيان الذي أدلى به السيد باباديماس (قبرص)، الجمعية العامة للأمم المتحدة، السجلات الرسمية، الدورة الثامنة والعشرون، 1973، اللجنتان الثالثة والرابعة، الاجتماع رقم 2003، 22 تشرين الأول/أكتوبر 1973، البند رقم 53 على جدول الأعمال، مشروع ﺍﻻﺘﻔﺎﻗﻴﺔ ﺍﻟﺩﻭﻟﻴﺔ ﻟﻘﻤﻊ ﺠﺭﻴﻤﺔ ﺍﻟﻔﺼل ﺍﻟﻌﻨﺼﺭﻱ ﻭﺍﻟﻤﻌﺎﻗﺒﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ (تتمة) (A/9003 and Corr.1, chaps XXIII, sect. A.2, A/9095 and Add.1)، صفحة 142، الصفحات 142-143، الفقرة 39. 
  6. See e.g. Tilley, V. (ed.)Occupation, Colonialism, Apartheid? A Re-Assessment of Israel’s Practices in the Occupied Palestinian Territories under International Law, (Cape Town: The Human Sciences Research Council, 2009). http://electronicintifada.net/downloads/pdf/090608-hsrc.pdf 
  7. See Jericho Nkala, The United Nations, International Law, and the Rhodesian Independence Crisis (Oxford: Clarendon Press, 1985): 1. 
  8. صوتت إسرائيل، في واقع الأمر، لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي كان أول ما صنّف الفصل العنصري كجريمةٍ ضد الإنسانية. انظر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة (XXI) 2202، 16كانون الأول/ديسمبر 1966. وكان ذلك قبل سبعة أشهر من احتلال إسرائيل للقدس الشرقية والضفة الغربية وغزة ومرتفعات الجولان وشبه جزيرة سيناء في حرب حزيران/يونيو 1967 بين العرب وإسرائيل. 
  9. Richard J. Goldstone, “Israel and the Apartheid Slander”, New York Times, Oct. 31, 2011 http://www.nytimes.com/2011/11/01/opinion/israel-and-the-apartheid-slander.html 
  10. بل بلغ الأمر ببعض أعضاء الكنيست أن يقترحوا تجريد اللغة العربية من صفتها كلغةٍ رسميةٍ في دولة إسرائيل. See Moshe Arens, “Israel’s shameful attack on Arabic must be stopped”, Ha’aretz, Nov. 15, 2011. http://www.haaretz.com/print-edition/opinion/israel-s-shameful-attack-on-arabic-must-be-stopped-1.395617 
  11. See Lahav Harkov, “Zoabi to Cape Town tribunal: Israel a racist state”, The Jerusalem Post, Nov. 6, 2011. http://www.jpost.com/DiplomacyAndPolitics/Article.aspx?id=244554 
فيكتور قطان زميل باحث أقدم لدى معهد الشرق الأوسط في جامعة سينغافورة الوطنية. عَمِل في السابق مديرًا لبرامج الشبكة، وكان زميلًا في مرحلة ما بعد...
في هذه المقالة

أحدث المنشورات

 السياسة
بعد عام من المعاناة تحت وطأة العنف والدمار المستمرين ، يقف الفلسطينيون عند لحظة مفصلية. تتناول يارا هواري، في هذا التعقيب، الخسائر الهائلة التي تكبدها الشعب الفلسطيني منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 والفرص المنبثقة عنها للعمل نحو مستقبل خالٍ من القمع الاستعماري الاستيطاني. وترى أنّ الوقت قد حان الآن لكي تتحول الحركة من رد الفعل إلى تحديد أولوياتها الخاصة. وكجزء من هذا التحول، تحدد يارا ثلاث خطوات ضرورية: تجاوز التعويل على القانون الدولي، وتعميق الروابط مع الجنوب العالمي، وتخصيص الموارد لاستكشاف الرؤى الثورية لمستقبل متحرر.
Al-Shabaka Yara Hawari
يارا هواري· 22 أكتوبر 2024
منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، قتلت القوات الإسرائيلية ما يزيد عن 40,000 فلسطيني في غزة، وجرحت 100,000 آخرين، وشرَّدت كامل سكان المنطقة المحتلة تقريبًا. وفي ذات الوقت شرَعَ النظام الإسرائيلي في أكبر اجتياح للضفة الغربية منذ الانتفاضة الثانية مما أدى إلى استشهاد ما يزيد عن 600 فلسطيني واعتقال 10,900 آخرين. كما وسعت إسرائيل نطاق هجومها الإبادي الجماعي في لبنان، مما أسفر عن مقتل ما يزيد على ألف شخص ونزوح أكثر من مليون آخرين. يسلط هذا المحور السياساتي الضوء على مساعي الشبكة في الاستجابة لهذه التطورات على مدار العام الماضي، من وضع أحداث السابع من أكتوبر في سياق أوسع للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، إلى استجواب آلة الحرب الإسرائيلية متعددة الأوجه، إلى تقييم العلاقات الإقليمية المتغيرة بسرعة. هذه المجموعة من الأعمال تعكس جهد الشبكة المستمر في تقديم رؤية فورية للوضع الفلسطيني.
لا تنفك شركات الأسلحة البريطانية تتربّح من بيع الأسلحة لإسرائيل من خلال التراخيص الصادرة من الحكومة البريطانية، حيث بلغ إجمالي هذه الصادرات منذ العام 2008 ما يقدر بنحو 740 مليون دولار، وهي ما تزال مستمرة حتى في ظل الإبادة الجماعية الجارية في غزة. يشعر البعض بتفاؤل حذر إزاء احتمال فرض حظر على الأسلحة بعد فوز حزب العمال في انتخابات يوليو/تموز 2024، وبعدَ أن وعدَ بالانسجام مع القانون الدولي. في سبتمبر/أيلول 2024، علقت الحكومة البريطانية 30 ترخيصاً من أصل 350 ترخيصاً لتصدير الأسلحة إلى إسرائيل. ويرى الناشطون وجماعات حقوق الإنسان أن مثل هذا القرار محدود للغاية. وبناء على ذلك، تُفصِّل هذه المذكرة السياساتية الالتزامات القانونية الدولية الواقعة على عاتق بريطانيا وكذلك المناورات الحكومية الممكنة فيما يتصل بمبيعات الأسلحة لإسرائيل.
شهد الحموري· 15 سبتمبر 2024
Skip to content