Palestinians hold a poster depicting Palestinian President Mahmoud Abbas during a protest against the blockade

فشلت القيادة الفلسطينية في تحقيق السلام والعدالة وتقرير المصير للفلسطينيين رغم مرور عقدين على توقيع اتفاقات أوسلو. بل إن فشل القيادة ظلَّ عنوان الكفاح الفلسطيني طوال القرن الماضي ولا سيما إبان الانتداب البريطاني وثورة 1936-1939. وبالنظر إلى أزمة الشرعية التي تواجهها منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، دعت الشبكة هذا الفريق السياساتي المعني بالقيادة والمساءلة للتركيز على ما ينبغي فعله لضمان وجود قيادة فلسطينية تمثل الفلسطينيين كافة، وتستعيد وحدتهم، وتحترم حقوقهم في سعيهم من أجل الحرية.1

الفريق السياساتي هو أداة محددة تستخدمها الشبكة لإشراك مجموعة من المحللين في البحث والتأمل المطوَّل في قضية ذات أهمية خاصة للشعب الفلسطيني. ينحدر المشاركون في الفريق السياساتي من بقاع مختلفة من العالم، ويمكن أن يضم الفريق خبراء من داخل الشبكة وخارجها حسب الحاجة. يُنتج أعضاء الفريق، مجتمعين أو فرادى، موجزات سياساتية وتعقيبات للفريق السياساتي، ويشاركون في نقاشات تعقدها الشبكة على الإنترنت مثل نقاشات مختبر السياسات. أعضاء الفريق السياساتي، مجتمعين وفرادى، سوف يُنتجون موجزات سياساتية وتعقيبات وتحليلات أخرى للشبكة.

مروة فطافطة وعلاء الترتير هما المنسقان لهذا الفريق السياساتي الذي استهل عمله باستحضار الأفكار وتدارسها حول المسائل الثلاث التالية: ما هو نموذج الحكم الذي يمكن أن يكفل التمثيل الديمقراطي التام والمشاركة الشعبية الكاملة للشعب الفلسطيني داخل الأرض الفلسطينية المحتلة وخارجها؟ كيف لنا أن نضمن مساءلة القيادة والمؤسسات الجديدة أمام الشعب الفلسطيني وكيف لنا أن نضمن أنها ستُلبي احتياجاته؟ كيف باستطاعتنا أن نتغلب على تشتت الفلسطينيين جغرافيًا وسياسيًا؟

وبالرغم من تباين آراء المحللين، فإنهم جميعًا يُسلِّمون بوجوب إعادةِ هيكلة القيادة الفلسطينية على أقل تقدير، حيث بات فلسطينيون كُثر يعدُّونها فاسدةً و/أو بالية و/أو قامعةً لمسعى الشعب الفلسطيني لنيل حقوقه.

تدعو دانا الكرد إلى العودة إلى هيكل منظمة التحرير الفلسطينية الأصلي الذي من شأنه أن يُعطي فلسطيني الشتات دورًا رئيسيًا في إعادة توجيه مسار الشعب الفلسطيني. تقترح مروة فطافطة وإيناس عبد الرازق إحداث تغييرات أوسع، حيث تدعوان إلى تطبيق اللامركزية في منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية لإعطاء المزيد من الصلاحيات على المستوى المحلي وكسر احتكار القيادة الحالية للسلطة والنفوذ. وبينما توضح مروة التحديات التي تعوق هذه العملية، تضع إيناس تصورًا للآليات المستقبلية لهذه العملية. أمّا طارق بقعوني وعلي عبد الوهاب فيوصيان بتشكيل لجنة أو هيئة خارج إطار القيادة الحالية بهدف إيجاد نموذج تمثيلي جديد. يرى علي أن هذا النموذج سوف يمهد الطريق أمام قيام ديمقراطية شعبوية تقودها مؤسسات المجتمع المدني. وفي تحليلٍ أطول ضمن هذا الفريق السياساتي تنشره الشبكة منفصلًا، يتتبع فادي قرعان أساليب القيادة الفلسطينية ومراحلها وآلياتها المختلفة والتحولات التي شهدتها طوال القرن الماضي، ويستخلص الدروس والعِبر من أجل المستقبل. ولقراءة مقالته، انقر هنا.

دانا الكرد

ظلت منظمة التحرير الفلسطينية حتى عام 1994 تمارس غرضًا مزدوجًا كحكومةٍ في المنفى تربط فيما بين فلسطيني الشتات، وكقوة عسكرية مكرسة لمقاومة المشروع الصهيوني. وبمرور الوقت، دفع العدوان الإسرائيلي منظمةَ التحرير وقيادتها لتبني مركزية السلطة وإيلاء اهتمام أكبر لشقها العسكري مقارنةً بشقها الحاكمي. وفي أعقاب اتفاقات أوسلو ولاحقًا القطيعة بين السلطة الفلسطينية وحماس، طوَّر كلاهما نسخته الخاصة من هياكل “الحكم” والهياكل المسلحة، وانخرطت تلك التابعة للسلطة الفلسطينية في استدامة هيمنة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية. ومع ذلك، لا يزال هيكل منظمة التحرير الفلسطينية بحُلَّته الأصلية يوفر فرصةً للتمثيل الديمقراطي والمشاركة.

منظمة التحرير الفلسطينية هي منظمةٌ جامعة تضم مجلسًا مركزيًا، ولجنةً تنفيذية، والمجلس الوطني الفلسطيني. ويعد هذا الأخير بمثابة الجسمُ التشريعي المقصود به تمثيل الفلسطينيين داخل فلسطين التاريخية وخارجها، وهو يحمل القدرَ الأكبر من السلطة والمسؤولية، وتكون عضويته بالانتخاب في معظمها بالإضافة إلى أعضاء من المجلس التشريعي الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة. يعمل المجلس الوطني الفلسطيني من الناحية النظرية كرقيب على السلطة التنفيذية. أمّا المجلس المركزي فيضم أعضاء من كافة فروع منظمة التحرير الفلسطينية، ومهمتُه التوسطُ بين المجلس الوطني الفلسطيني واللجنة التنفيذية حين لا يكون المجلس منعقدًا.

وعلى هذا النحو، فإن المؤسسات والآليات التي تُمكِّن الفلسطينيين من مساءلة قيادتهم والانخراط في عملية صنع القرار موجودةٌ أصلًا. وبدلًا من البداية من الصفر، ينبغي للمجتمع الفلسطيني في فلسطين وخارجها أن يطالبَ بالعودة إلى الهيكل الأصلي لمنظمة التحرير. وهذا سينطوي على تفعيل المجلس الوطني الفلسطيني بالدعوة لعقد انتخابات جديدة في الشتات وداخل فلسطين عبر المجلس التشريعي الفلسطيني.

المؤسسات والآليات التي تُمكِّن الفلسطينيين من مساءلة قيادتهم والانخراط في عملية صنع القرار موجودةٌ أصلًا Share on X

لا شك أن تشتت الفلسطينيين جغرافيًا وسياسيًا يفرض تحديات جدية لهذه الخطة. ولضمان التمثيل السياسي لا بد لمظلة منظمة التحرير الفلسطينية أن تشمل المجموعات المعنية كافة في المجتمع الفلسطيني، بما فيها الجماعات الإسلامية.

ومن الناحية النظرية، سوف يخضع أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني لمساءلة ناخبيهم. فيكون أعضاء المجلس من الولايات المتحدة، مثلًا، مساءَلين أمام الجالية الفلسطينية التي انتخبتهم. ولضمان قدرٍ إضافي من المساءلة، يمكن للانتخابات الجديدة أن تمكِّن الناخبين من سحب عضوية ممثليهم في المجلس.

سيَّرت منظمة التحرير الفلسطينية أعمالَها بمجلسٍ وطني فلسطيني منتخَب في زمنٍ لم يعرف الانترنت ولا وسائل التواصل الاجتماعي ولا الربط والاتصال واسع النطاق، وعليه فإن بوسع التقدم التكنولوجي الراهن أن يساعد في التغلب على التشتت الجغرافي. لقد طبقت بلدانٌ عديدة في السنوات الأخيرة تجربةَ الديمقراطية الإلكترونية والحكومة الإلكترونية، مثل آيسلندا التي عدَّلت دستورها بالتصويت عبر شبكة الإنترنت، والبرازيل التي طبقت نظام الديمقراطية الإلكترونية “e-democracia” الذي يمكِّن البرازيليين من المشاركة في النقاشات البرلمانية والتفاعل المستمر مع ممثليهم في البرلمان. وبالإمكان أيضًا تسخير مواهب الناشطين الفلسطينيين المتفانين في خدمة هذا المسعى بإطلاق حملة تسجيل تستهدف الشتات الفلسطيني قبل عقد الانتخابات باستخدام الابتكارات التكنولوجية الجديدة وبالاسترشاد بتجارب الديمقراطية الإلكترونية السابقة.

ومن الأهمية بمكان أن نتناول المأخَذ المشروع على عقد الانتخابات في ظرف الاحتلال والتطهير العرقي المستمر. فالكثيرون يحاجُّون بأن الانتخابات في هذا الظرف سوف تُلهي المجتمع الفلسطيني حيث ستدفعه إلى التنازع على المقاعد بدلًا من مواجهة التحدي المشترك المتمثل في العدوان الإسرائيلي. غير أن هذا المأخذ لا ينطبق إلا على انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني المنقسمةِ قيادتُه حول مَن سيحكم ما تبقى من أراض قليلة مقطعة الأوصال. ولا ينبغي أن تحدث انقسامات داخلية في حالة المجلس الوطني الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية الأوسع. إن تفعيل مؤسسات منظمة التحرير وانتخاب هيئة تشريعية تمثل الفلسطينيين حيثما كانوا في العالم هو خطوةٌ ضرورية نحو إدراج مطالب الفلسطينيين كاملةً في أي مفاوضات مستقبلية.

إن استحداث مؤسسات جديدة من الصفر في خضم التشرذم والاستقطاب المتزايد قد يكون مستحيلًا على الأرجح. لذا لا بد أن نستفيد من المؤسسات المتاحة للفلسطينيين بالفعل وأن نسعى إلى إصلاحها بدلًا من التخلص منها جملةً وتفصيلا.

مروة فطافطة

نموذج القيادة الفلسطينية التقليدي هو شكلٌ من أشكال السلطة المركزية الأبوية، حيث يدور هيكل السلطة في السياسة الفلسطينية الداخلية حول شخصٍ أو فصيل سياسي واحد، مثل ياسر عرفات أو فتح، تساعده أو تسانده شبكة من المحاسيب والمتنفعين. إن تركُّزَ السلطة في يد فاعل سياسي مركزي واحد أدى إلى فشل المؤسسات الفلسطينية الحالية في العمل الديمقراطي بالنيابة عن الشعب الفلسطيني، وأدى أيضًا إلى تهميش الفاعلين السياسيين الفلسطينيين المنافسين الآخرين وإقصائهم عمدًا. وتسببَّ كذلك في فجوة واسعة بين القيادة الفلسطينية الحالية والنخبة التي تدعمها وبين سائر الشعب الفلسطيني.

إن هيمنة فتح على منظمة التحرير الفلسطينية ولاحقًا على السلطة الفلسطينية، على سبيل المثال، قادت إلى تحجيم الأصوات الفلسطينية الأخرى وعزلها منهجيًا، واختزلت وظيفة المؤسسات في خدمة مصالح فتح بدلًا من مصالح الشعب الفلسطيني عامةً.

ولمعالجة قضية تركز السلطة بيد واحدة  ينبغي تطبيق اللامركزية في الحكم، حيث ينصب التركيز بموجبها على المجتمعات المحلية الفلسطينية داخل الأرض الفلسطينية المحتلة وفي الشتات. فضلًا على أن نظام الحكم الفلسطيني الحالي يزخر بالفساد وسوء استخدام السلطة ويفتقر إلى المساءلة أمام الشعب الفلسطيني. إن القدرة على مساءلة الحكومة هي متطلب سابق لأي نظام حكم ديمقراطي فاعل. لذا لا بد من مساءلةٍ عمودية تنطلق من المحليات وصولًا لمنظمة التحرير الفلسطينية عبر آليات من قبيل هيئة تشريعية فاعلة وانتخابات حرة ونزيهة ومنتظمة. غير أن هذه المساءلة العمودية لا توجد بمفردها، فلا بد من وجود نُظمٍ أفقية وداخلية للمساءلة لضمان أن المؤسسات الفلسطينية تعمل بشفافية تامة بلا فساد أو تعسف في استخدام السلطة. أمّا في الوقت الحاضر، فإن نموذج القيادة الفلسطينية الحالي في أمس الحاجة إلى إصلاح مشكلة افتقاره إلى الفصل بين السلطات.

نموذج القيادة الفلسطينية الحالي في أمس الحاجة إلى إصلاح مشكلة افتقاره إلى الفصل بين السلطات Share on X

يتولى الرئيس الفلسطيني محمود عباس رئاسةَ منظمة التحرير الفلسطينية ورئاسةَ السلطة الفلسطينية ورئاسةَ حزبه السياسي فتح. ويُمسِك أيضًا بزمام السلطة التشريعية في غياب المجلس التشريعي الفلسطيني. ويتخذ بمفرده القرارات السياسية بشأن حاضر الفلسطينيين كافة ومستقبلهم. ولهذا كلِّه آثارٌ كارثيةٌ على القضية الفلسطينية ومآلاتها. ولا بد لمنظمة التحرير الفلسطينية من ضمِّ الفصائل الفلسطينية كافة وأن توقف الاحتكار الذي تمارسه فتح.

يمكن إنهاء سيطرة السلطة الفلسطينية على منظمة التحرير بفصل رئاسة المنظمتين. ومن المقترحات المطروحة أن يتولى الرئيس الفلسطيني رئاسة منظمة التحرير، بينما تكون السلطة الفلسطينية بقيادة رئيس الوزراء مسؤولةً أمام هيئةٍ تشريعية في منظمة التحرير. ولا بد أيضًا من تغيير دور السلطة الفلسطينية من سلطة تشريعية وتنفيذية فعلية إلى هيئة تيكنوقراط توفر الخدمات الأساسية للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة وتدير شؤونه اليومية.

سوف يكون التغيير صعبًا في ظل الاحتلال العسكري المستمر، والانقسام السياسي بين فتح وحماس، وفساد النخبة الفلسطينية القابضة على الحكم. وتوجد تحديدًا أربعة تحديات رئيسية تعوق إنشاء نموذج جديد من القيادة الفلسطينية الديمقراطية والمساءَلة. التحدي الأول هو ممانعة القيادة الفلسطينية وممانعة شبكة المحاسيب والمتنفعين منها للإصلاحات التي من شأنها أن تنزع مَن أرباب السلطة الامتيازات السياسية والاقتصادية. يقتضي التغييرُ السياسي المؤسسي إرادةً سياسيةً جدية والتزامًا جديًا، وإلا فإن الفلسطينيين سيكررون تجارب البلدان العربية المجاورة، التي ما انفكت هيئات الحكم الفاسدة فيها تلدُ رؤساءَ جُددًا أعتى من سابقيهم. المطلوب، بعبارةٍ أخرى، هو تغييرٌ مؤسسي حقيقي بدلًا من التركيز على بديل عباس – وهو مسألةٌ غالبًا ما يناقشها المجتمع الدولي.

التحدي الثاني هو المعارضة الخارجية لأي تغيير على مستوى القيادة. فقد رفض المجتمع الدولي، مثلًا، صعود حماس بالانتخابات إلى المجلس التشريعي الفلسطيني في 2006 رغم الأدلة التي تثبت حرية الانتخابات ونزاهتها وتمثيلها إرادةَ الشعب الفلسطيني. وهذا يُظهر بوضوح أن القيادة الفلسطينية ليست شأنًا فلسطينيًا خالصًا، بل هي عرضةٌ للتدخلات الخارجية. التحدي الثالث هو فتور الفلسطينيين السياسي وحرمانهم حقَّهم في المشاركة في العملية السياسية. فكيف للفلسطينيين أن يجددوا الثقة وأن يحفزوا أنفسهم – وهو الأهم – للمشاركة في هيئة جديدة أو هيئة قائمة تم إصلاحها بالرغم من خيبة أملهم في القيادة الفلسطينية السابقة؟ التحدي الرابع قد ينشأ من الصعوبات التقنية التي يفرضها تشتت الشعب الفلسطيني جغرافيًا. وفي هذا الصدد، قد توفر الأدوات التكنولوجية والرقمية المبتكرة وسيلةً ممكنةً للتغلب على التشتت المكاني، ولا سيما في السياق الانتخابي، ولكنها تقترن بمجموعة تحديات من قبيل تمكُّن الفلسطينيين من الولوج إلى الانترنت والتكنولوجيا حيثما كانوا حول العالم، وخطر التلاعب بنتائج التصويت الإلكتروني.

إيناس عبد الرازق

إن الحالة الراهنة للمجتمع الدولي والقيادة الإسرائيلية والسياسة الفلسطينية الداخلية تعوق أي زعيمٍ فلسطيني أو قوةٍ سياسية فلسطينية عن اقتراح رؤيةٍ واستراتيجيةٍ للتحرر الوطني قابلةٍ للتطبيق في المدى المتوسط أو البعيد.

لقد انخرط كادر القيادة الفلسطينية الحالي في حركة التحرير من ستينات القرن الماضي إلى تسعيناته، حتى تحجَّرت عقليته التحررية وتحجَّر شكل نضاله. وبعضهم يعارض التغيير جملةً وتفصيلًا. ولا بد لهذه القيادة المترهلة أن تفسح الطريق للجيل الشاب ليُحدِثَ فرجةً فيما ظل لفترة طويلة جدًا سلطةً مركَّزة في يد شخصيات في السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير. ثمة فلسطينيون ذوو قدرة وتوجهات سياساتية سليمة وأفكار ورؤى سياسية سديدة، ولكنهم مشتتون ولا يجدون مساحةً لهم في منظمة التحرير الحالية.

لا بد من ضمان التمثيل الديمقراطي الكامل للفلسطينيين من أجل التغلب على هيكل السُلطة المركَّزة، ويمكن تحقيق ذلك عبر اللامركزية والمحلية وإصلاح هيكل منظمة التحرير الفلسطينية. فاللامركزية ضرورية بسبب تشتت الفلسطينيين الجغرافي، في حين أن تخويل المستويات المحلية بالصلاحيات والأمور المالية من شأنه أن يبدِّدَ احتكار السلطة. وفي حالة الدولة الواحدة، ينبغي وجود نموذج اتحادي لامركزي يتكون من محافظات أو مقاطعات مستقلة.

يحتاج الفلسطينيون إلى قيادة سياسية وطنية قوية تتبنى اللامركزية Share on X

التركيزُ على المستوى المحلي أمرٌ مهم لأن الانتخابات المحلية هي الانتخابات الوحيدة التي عُقدت في السنوات الاثني عشر الماضية. فضلاً على أن الفلسطينيين يُعرِّفون عن أنفسهم ثقافيًا واجتماعيًا بنسبتهم إلى مدنهم أو مناطقهم الجغرافية، وهذا يجعل المجتمعات ميَّالة لتبنّي المحلية. وبخلاف الانتخابات، ثمة حاجة لوجود محافل يجتمع فيها الممثلون المحليون كافة بانتظام لمعالجة المصالح المتزاحمة في الغالب بين المحليات ولضمان التماسك المناطقي.

ينبغي للخدمات العامة الأساسية المقدمة للفلسطينيين من ماء وتعليم أساسي أن تُدار محليًا، وبقيادة استراتيجية من المركز. فسنوات انعدام الثقة في السلطة الفلسطينية وضعف تقديمها الخدمات العامة بسبب الخصخصة قوَّضت المشاركة المدنية. إن تكليف المجتمعات المحلية بإدارة الموارد الحيوية مباشرةً قد ينمِّي لديها حس الملكية والواجب المدني، ويرتقي بمستوى المساءلة من جانب الإدارة. بالإضافة إلى أن مشاركة المواطنين المباشرة في الموارد قد تحفز عزائمهم على دفع الضرائب، بعدما وهنوا حاليًا بسبب الفساد والخصخصة.

غير أن القيادة المركزية تظل مهمة. فلطالما بحث الفلسطينيون عن شخصيات ملهمة تدافع عن حقوقهم وتطلعاتهم بإخلاص. لذا فإن المطلوب هو نظامٌ سياسي ومؤسسي هجين يضم قيادة سياسية وطنية قوية ذات وجهة استراتيجية واضحة تتبنى اللامركزية.

ينبغي أن يكون للفلسطينيين أيضًا هيئةٌ تشريعية فاعلة تمثِّل الأحزاب السياسية والفصائل كافة. وينبغي تجديد عضوية هذه الهيئة كل أربع سنوات أو خمس بالتصويت العام. وفي حالة حل الدولة الواحدة، ينبغي أن يتمتع الرعايا كافة بالحق في التمثيل العادل بناءً على التنظيم السليم للمقاطعات أو المحليات. وينبغي كذلك تمثيل الفلسطينيين اللاجئين والمشتتين. ويَشترط هذا النظامُ لوجوده إعادةَ هيكلة منظمة التحرير الفلسطينية وتحولًا في دور السلطة الفلسطينية التي لا تعدو عن كونها منظمةً شبه حكومية أُنشئت بموجب اتفاقات أوسلو، تعمل على إعاقة تطوير قدر أكبر من السيادة الفلسطينية.

ينبغي للنموذج الجديد أن يراعي التنوع الديمغرافي، ولا سيما فئتي النساء والشباب. فالتمثيل المنقوص لهاتين الفئتين قد انحدر إلى مستويات متدنية بالرغم من وصول النساء والشباب إلى مستويات تعليمية رفيعة. فحين لا يقل المتوسط العمري لأعضاء المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية عن 65 عامًا، كيف يمكن للمجلس أن يضعَ رؤيةً مبتكرة وقيادية للمستقبل؟ إن من الخطوات العملية التي يمكن اتخاذها في هذا الصدد استحداث الحصص (الكوتات) للنساء والشباب في هياكل صنع القرار والأحزاب السياسية ومجالس الإدارة في القطاع الخاص.

القوى المعارضة عاملٌ رئيسي أيضًا في وجود نظامٍ ديمقراطي فاعل في فلسطين وغيرها. فينبغي للقوانين والفضاءات العامة أن تضمن احترامًا تامًا لحقوق المواطنين الإنسانية وحرياتهم العامة والسياسية، بمن فيهم الصحفيون والناشطون. وعلى سبيل المثال، يجب تنويع المحتوى في وسائل الإعلام وعلى شبكة الإنترنت وإكسابه الصبغة الاحترافية بهدف وضع فلسطين على خريطة المنطقة والعالم من خلال روايتها، ويجب في الوقت نفسه إبراز وجوه أخرى غير تلك المألوفة في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ويمكن البدء بتمكين محطات التلفزة ووسائل الإعلام المكتوبة المستقلة وإكسابها الصبغة الاحترافية. وينبغي كذلك العمل على تحفيز الأطفال والشباب على القراءة والتشكيك والنقد، وتنمية فضولهم المعرفي، ولا بد للنظام المدرسي أن يعلمهم كيف يمحصوا المعلومات التي يتلقونها من الإنترنت. إن تمكين هذه المهارات وشحذها، بدلًا من تلقينها، سوف يهيئ الجيل القادم من الفلسطينيين للمشاركة في ديمقراطية حية.

طارق بقعوني

يجب أن تقوم المؤسسات التمثيلية الفلسطينية، ما استُحدثَ منها أو أُصلِحَ، على نموذج يراعي تشتت الشعب الفلسطيني جغرافيًا وتنوع كفاحاته المحلية. يستطيع الفلسطينيون تحقيق هذا التمثيل من خلال التوافق المحلي في الآراء أو الانتخابات. ويمكن لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية إذا تطلعت إلى إحياء المجلس الوطني الفلسطيني كمجلسٍ تمثيلي حقيقي أن تطرحَ مبادرةً لتنفيذ هذه العملية. ومن الخيارات الممكنة أيضًا استخدامُ إحدى الوسائل البديلة المبتكرة مثل التصويت الرقمي، وهذه الوسيلة تقتضي من منظمات المجتمع المدني مساعدةَ الفلسطينيين في الوصول إلى منصات افتراضية.

ينبغي للمؤسسات الفلسطينية أن تراعي تشتت الشعب الفلسطيني الجغرافي وتنوع كفاحاته المحلية Share on X

وقبل اتخاذ هذه الخطوة، لا بد أن يقرر الفلسطينيون ما إذا كان ينبغي بناءُ القيادة التمثيلية على أساس المؤسسات القائمة أو استحداث قيادة بديلة تحل مكان الحالية. سوف تتباين التحديات تبعًا لهذا الاختيار. غير أنه في كلا الخيارين ستكون المساءلة والشرعية من القضايا الكبرى التي سيجابهها قادة المبادرة. فكيف نكفل انضمامًا واسعًا لهذه العملية إذا لم تدعمها هيئةٌ “وطنية”؟

إن من الطُرق الممكنة للتغلب على هذه التحديات استحداثُ لجنة موثوقة تُشرِف على هذه المبادرة وتكون مستقلة عن مؤسسات القيادة الحالية الفاسدة وغير الشرعية. سيتعين على هذه اللجنة أن تكون ممثِّلة وأن تضمَّ أعضاء يحظون بمباركة مجتمعاتهم المحلية. وحالما تُستَحدَث هذه اللجنة، يمكن أن تبدأ عملية إدراج عنصر التمثيل الشرعي السليم في المؤسسة السياسية الفلسطينية. ولن يتسنى تكوين قيادة فلسطينية ممثِّلة تقودها القوى من قاعدة الهرم إلى أعلاه إلا من خلال هذه العملية.

علي عبد الوهاب

خلُصَت وحدة الاستخبارات الاقتصادية التابعة لمجموعة الإيكونوميست في 2015 إلى أن النظام في فلسطين “هجينٌ” يجمع ما بين السلطوية وشبه الديمقراطية. غير أن النموذج الأمثل للفلسطينيين هو الديمقراطية الشعبية أو الشعبوية التي تمثلها منظمات المجتمع المدني. إن إقامة شبكات مجتمع مدني كبرى سوف يعزز على الأرجح قدرة الفلسطينيين على الوصول والتعبئة السياسية وتكوين رابطة تجمعهم. وسوف يكون هذا النموذج بمثابة الساحة الحقيقية للفكر الديمقراطي وصنع القرار الحقيقي.

ستقدم الديمقراطية الشعبوية الفلسطينيين ساحةً حقيقية للفكر الديمقراطي وصنع القرار Share on X

إن النماذج الديمقراطية الراهنة والسابقة القائمة على نهج الأحزاب السياسية ونهج السلطة الفلسطينية عرضة للاحتلال والانقسام والشخصنة والفساد السياسي. ولنجاح هذا النموذج الشعبوي سيحتاج الفلسطينيون، بالإضافة إلى شبكات المجتمع المدني، جسمًا تدقيقيًا يشرف على مساءلة السلطة ومحاسبتها ومراقبتها. وسيعمل هذا الجسم على إدماج المصالح والقيم تدريجيًا في تصميم السياسات.

يواجه النموذج الشعبوي في حالة الفلسطينيين تحديات عديدة تتمثل في التشتت الجغرافي وافتقار الشعب الفلسطيني إلى الوعي الجمعي السياسي بسبب انتشار ثقافة الخوف والخضوع. لذا يتوجب على مؤسسات المجتمع المدني أن تطرحَ خريطة طريق محددة تقوم على الدمقرطة الحقيقية وترسيخ القيم الثقافية والسياسية والديمقراطية. وينبغي لنظام الحكم الحالي والأحزاب السياسية الفلسطينية وفئة المثقفين أن يضطلعوا بدور ثانوي في عملية تطوير هذه الخطط التي يجب أن تنهض بالمشاركة السياسية، ثقافةً ونظامًا.

 

  1. تتوفر كافة إصدارات الشبكة باللغتين العربية والانجليزية (اضغط/ي هنا لمطالعة النص بالإنجليزية). لقراءة هذا النص باللغة الفرنسية، اضغط/ي هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.
مروة فطافطة كاتبة وباحثة فلسطينية، ومحللة سياساتية في الشبكة، مقيمة في برلين. تدير حاليًا عمل مؤسسة أكسس ناو في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مجال...
يعمل علي عبد الوهاب كمحلل بيانات ومساعد تقييم ومتابعة في مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي في غزة، وهو حاصل على درجة بكالوريس في علوم الحاسوب، ومهتم...
عضوة الشبكة دانا الكرد حاصلة على درجة الدكتوراه في الحوكمة والعلوم السياسية من جامعة تكساس في أوستن. وهي متخصصة في السياسة المقارنة والعلاقات الدولية. تتحرى...
طارق بقعوني هو رئيس مجلس إدارة الشبكة. عَمِلَ زميلًا سياساتيًا للشبكة في الولايات المتحدة في الفترة 2016-2017. وعَمِلَ في رام الله لدى مجموعة الأزمات الدولية...
إيناس عبد الرازق هي المديرة التنفيذية للهيئة الفلسطينية للدبلوماسية العامة (PIPD) ومنصته الرقمية Rabet ، وهي منظمة فلسطينية مستقلة تركز على التعبئة العالمية والحملات الرقمية...
في هذه المقالة

أحدث المنشورات

 السياسة
بعد عام من المعاناة تحت وطأة العنف والدمار المستمرين ، يقف الفلسطينيون عند لحظة مفصلية. تتناول يارا هواري، في هذا التعقيب، الخسائر الهائلة التي تكبدها الشعب الفلسطيني منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 والفرص المنبثقة عنها للعمل نحو مستقبل خالٍ من القمع الاستعماري الاستيطاني. وترى أنّ الوقت قد حان الآن لكي تتحول الحركة من رد الفعل إلى تحديد أولوياتها الخاصة. وكجزء من هذا التحول، تحدد يارا ثلاث خطوات ضرورية: تجاوز التعويل على القانون الدولي، وتعميق الروابط مع الجنوب العالمي، وتخصيص الموارد لاستكشاف الرؤى الثورية لمستقبل متحرر.
Al-Shabaka Yara Hawari
يارا هواري· 22 أكتوبر 2024
منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، قتلت القوات الإسرائيلية ما يزيد عن 40,000 فلسطيني في غزة، وجرحت 100,000 آخرين، وشرَّدت كامل سكان المنطقة المحتلة تقريبًا. وفي ذات الوقت شرَعَ النظام الإسرائيلي في أكبر اجتياح للضفة الغربية منذ الانتفاضة الثانية مما أدى إلى استشهاد ما يزيد عن 600 فلسطيني واعتقال 10,900 آخرين. كما وسعت إسرائيل نطاق هجومها الإبادي الجماعي في لبنان، مما أسفر عن مقتل ما يزيد على ألف شخص ونزوح أكثر من مليون آخرين. يسلط هذا المحور السياساتي الضوء على مساعي الشبكة في الاستجابة لهذه التطورات على مدار العام الماضي، من وضع أحداث السابع من أكتوبر في سياق أوسع للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، إلى استجواب آلة الحرب الإسرائيلية متعددة الأوجه، إلى تقييم العلاقات الإقليمية المتغيرة بسرعة. هذه المجموعة من الأعمال تعكس جهد الشبكة المستمر في تقديم رؤية فورية للوضع الفلسطيني.
لا تنفك شركات الأسلحة البريطانية تتربّح من بيع الأسلحة لإسرائيل من خلال التراخيص الصادرة من الحكومة البريطانية، حيث بلغ إجمالي هذه الصادرات منذ العام 2008 ما يقدر بنحو 740 مليون دولار، وهي ما تزال مستمرة حتى في ظل الإبادة الجماعية الجارية في غزة. يشعر البعض بتفاؤل حذر إزاء احتمال فرض حظر على الأسلحة بعد فوز حزب العمال في انتخابات يوليو/تموز 2024، وبعدَ أن وعدَ بالانسجام مع القانون الدولي. في سبتمبر/أيلول 2024، علقت الحكومة البريطانية 30 ترخيصاً من أصل 350 ترخيصاً لتصدير الأسلحة إلى إسرائيل. ويرى الناشطون وجماعات حقوق الإنسان أن مثل هذا القرار محدود للغاية. وبناء على ذلك، تُفصِّل هذه المذكرة السياساتية الالتزامات القانونية الدولية الواقعة على عاتق بريطانيا وكذلك المناورات الحكومية الممكنة فيما يتصل بمبيعات الأسلحة لإسرائيل.
شهد الحموري· 15 سبتمبر 2024
Skip to content