المواضيع
طالعوا تحليلاتنا بخصوص المجتمع المدني وسُبله في رسم ملامح المشهد الثقافي والسياسي والسياساتي.
طالعوا استشرافاتنا بخصوص تغيرات المشهد السياسي وتداعياتها على فلسطين
استزيدوا معرفةً بالسياسات والممارسات التي تحدد شكل الاقتصاد الفلسطيني
تعرَّفوا أكثر على الأوضاع الفريدة التي يعيشها اللاجئون الفلسطينيون في الشرق الأوسط
التحليلات
تحليلات متعمقة للسياسات الحالية أو المتوقعة التي تؤثر في إمكانيات التحرير الفلسطيني.
رؤى ووجهات نظر حول المسائل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتعلقة بفلسطين والفلسطينيين حول العالم.
تحليلات موجزة لسياسات محددة وخلفياتها وآثارها.
تعقيبات تضم رؤى متنوعة من محللين متعددين.
تجميعات لأعمال سابقة أنجزتها الشبكة حول موضوع محدد.
مشاريع مطوَّلة ومخصصة تسعى إلى الإجابة عن أسئلة بحثية تقع خارج نطاق تحليلاتنا المعتادة.
مبادرة بحثية معنية بالسياسات أطلقتها الشبكة: شبكة السياسات الفلسطينية.
سلسلة ندوات شهرية عبر الإنترنت تجمع خبراء فلسطينيين.
متميز
اشتركوا في نشرة الشبكة البريدية الآن لتصلكم أحدث التحليلات السياساتية الفلسطينية على بريدكم الإلكتروني:
التواطؤ العربي: شرعنة هيمنة إسرائيل وضمان إفلاتها من العقاب
مقدمة
هدفت عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/ أكتوبر إلى إحياء المقاومة الفلسطينية المسلحة، وإعادة القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام العربي والعالمي بعد أن طالها التهميش لسنوات. وقد وجهت العملية ضربةً موجعة إلى قدرة إسرائيل على الردع، وهزت صورتها كموطئ قدم استعماري مضمون، مُكلَّف بحماية المصالح الإستراتيجية الغربية. وكشفت أيضًا عن تصدعات في عَقدها الاجتماعي العسكري القائم على قدرة النظام على حماية سكانه المستوطنين. وفي حين فرضت العملية واقعًا سياسيًّا جديدًا على النظام الإسرائيلي، فإنها جاءت بكلفة باهظة على أرواح الفلسطينيين؛ إذ أسفر العدوان الإسرائيلي الإبادي على غزة عن واحدة من أبشع الأزمات الإنسانية في التاريخ الحديث.
غير أن موجة التضامن العربي المأمولة التي كان يُتوقع أن تتبع العملية لم تتحقق أو تُترجم إلى تغيرات سياساتية ملموسة. بل على العكس، كشفت هذه اللحظة عن الروابط العميقة بين بعض الأنظمة العربية ومشروع إسرائيل الاستيطاني الاستعماري، المتجذرة في المصالح المتبادلة واستدامة الأنظمة القائمة، وكشفت عن عداءٍ مشترك تجاه المقاومة الفلسطينية. ويرى التعقيب أن هذه التحالفات، التي استمرت بفعل القمع والتعاون الإستراتيجي والاقتصادي بين الأنظمة العربية وإسرائيل والتي عززتها الهيمنة الأمريكية، حوَّلت ما كان يمكن أن يُستغَل لعزل النظام الإسرائيلي إلى فرصةٍ لتكثيف توسعه الاستعماري وهيمنته الإقليمية.
التواطؤ العربي والاستسلام للتطبيع
يُعدّ الاندفاع نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل، حتى في ظل استمرار الإبادة الجماعية في غزة، أحد أبرز ملامح سياسات الأنظمة العربية التي جرّأت إسرائيل ومكّنتها من مواصلة جرائمها. ويعكس توسع التطبيع واقعَ ما بعد الانتفاضات العربية، حيث رسّخت القوى المناهضة للثورة الحكمَ الاستبدادي، وأعطت الأنظمة المتحالفة مع الولايات المتحدة الأولويةَ لبقائها هي ومصالحها الذاتية على حساب التضامن الإقليمي ونصرة القضية الفلسطينية. فرغم رسوخها في الوجدان العربي، أُقصيت القضية الفلسطينية تحت وطأة الانهيارات الاقتصادية، والقمع المتصاعد، والحروب الأهلية التي مزقت البلدان العربية، في مشهدٍ تشظّت فيه المجتمعات وتبدّلت فيه الولاءات.
لم يُرسِّخ التطبيع هيمنةَ إسرائيل إقليميًّا فحسب، وإنما وفَّر أيضًا غطاءً لعنفها المتصاعد في غزة وخارجها، بما في ذلك عدوانها الأخير غير المبرَّر على إيران وسوريا Share on X
مهَّدت هذه التحولات الإقليمية الأوسع نطاقًا السبيل لاتفاقات آبراهام للتطبيع التي انطلقت عام 2020، وظلت صامدة على نحوٍ لافت رغم الفظائع المستمرة التي يرتكبها النظام الإسرائيلي الغاشم. ودأبت الإمارات العربية المتحدة وغيرها من الدول الموقِّعة على الاتفاقات على إعطاء الأولوية للتعاون الإستراتيجي مع النظام الإسرائيلي بينما كانت الإبادة الجماعية تعصف بالأرواح الفلسطينية. وقد انتهزت حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هذه الظروف المواتية لتكثيف حملاتها العسكرية وتسريع عملية إحكام سيطرتها، بما يتوافق مع هدفه المعلن: “تغيير معالم الشرق الأوسط جذريًّا”. لم يُرسِّخ التطبيع هيمنةَ إسرائيل إقليميًّا فحسب، وإنما وفَّر أيضًا غطاءً لعنفها المتصاعد في غزة وخارجها –بما في ذلك عدوانها الأخير غير المبرَّر على إيران وسوريا- لحمايتها من أي مساءلة حقيقية.
اتفاقات آبراهام وإفلات إسرائيل من العقاب
جمعت اتفاقات آبراهام إسرائيلَ وأنظمةً عربية عدة في شراكة أمنية واقتصادية ترعاها الولايات المتحدة، الأمر الذي رسَّخ المشروع الاستيطاني الاستعماري الإسرائيلي في صميم السياسات الإقليمية. وقد رُوِّج لتلك الاتفاقات على أنها “اتفاقات سلام”، ولكنها في الواقع صفقات نفعية تُغلِّب الربح والتحالفات الجيوسياسية ذات الطابع الأمني على مبادئ العدالة والتحرر، وتكفل لإسرائيل إفلاتًا شبه مطلق من العقاب. ومن اللافت أنه خلال حملة الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل على غزة، ارتفع حجم التبادل التجاري بين الدول الموقعة على الاتفاقات وتل أبيب بنسبة 24% ليصل إلى 10 مليارات دولار، حتى مع تراجع التجارة العالمية لإسرائيل بنسبة 14%. ولا عجب أنّ إسرائيل كانت المستفيد الأكبر في ذلك.
عجَّلت اتفاقات آبراهام بثلاثة تحولات هيكلية ذات تداعيات بعيدة المدى على الديناميكيات الإقليمية وآفاق تحرير فلسطين.
مزَّقت اتفاقات آبراهام الإجماع العربي الذي كان يضع الاعتراف بالدولة الفلسطينية شرطًا للتطبيع، ما مكّن إسرائيل من تطبيع علاقاتها دبلوماسيًّا واقتصاديًّا، بينما تواصل مشروعها الاستيطاني والاحتلالي، في ظل تلاشي الموقف العربي الموحد.
رسّخت الاتفاقات قبولًا قسريًّا بالهيمنة الإسرائيلية، وأحلّت منطق التكيّف محلّ التحرّك العربي المشترك. وصارت مقاومة التطبيع، التي كانت تنبع سابقًا من قيم التضامن وحق تقرير المصير الفلسطيني، تُصوَّر اليوم على أنها غير عملية، بل معرقلة لمساعي الأنظمة الاستبدادية لتحقيق “السلام والازدهار” بما يخدم مصالحها الضيقة.
حوَّلت الاتفاقاتُ إسرائيلَ من مصدرٍ لعدم الاستقرار إلى شريك أمني رئيسي، ووضعتها في صف واحد مع الدول العربية والولايات المتحدة ضمن تحالف إقليمي في مواجهة إيران وحركات المقاومة، بما يصرف الانتباه عن فلسطين والاستعمار المستمر.
وفي الوقت نفسه، أضعف القمعُ المجتمعَ المدني العربي الذي كان يؤدي يومًا دورًا محوريًّا في تعزيز التضامن الإقليمي. وأدّت خيبات الأمل من مآلات الانتفاضات العربية إلى تقويض الرغبة في التعبئة الجماعية. وفي حين جدَّدت عملية 7 تشرين الأول/ أكتوبر الحِراك الشعبي، الذي شمل حملات مقاطعة ودعم مساعي الإغاثة وخروج مظاهراتٍ مناهضة للتطبيع، فإن هذا الزخم لم يتحول بعدُ إلى ضغط كافٍ لإحداث تغييرات سياساتية مؤثرة في الصعيد الحكومي.
في هذا السياق، كشف السابع من أكتوبر عن صدعٍ عميق بين إعادة إحياء المقاومة الفلسطينية وبين منطقةٍ راكدة سياسيًّا، مذعنةٍ للتطبيع والسياسات الأمنية والقوى المناهضة للثورة. وهكذا، أتاح التوافق بين الأنظمة العربية والأهداف الإسرائيلية شن حملة الإبادة الجماعية في غزة دون عقاب، ومنح النظام الإسرائيلي فرصة إستراتيجية لتوسيع نفوذه وعدوانه الإقليمي.
محور المقاومة والحرب على إيران
دأبَ محور المقاومة (وهو تحالف إقليمي يشمل إيران، ويضم حزب الله في لبنان، ومجموعات مسلحة عراقية مختلفة، وحماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، وأنصار الله في اليمن) على تقديم نفسه كقوة مضادة لحملة الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة وعدوانها الإقليمي الأوسع. وظلَّ المحور يوفر الدعم المادي والعسكري والمعنوي للفصائل الفلسطينية ويدعم المقاومة المسلحة في غزة لعقود، لا سيما عقب عملية السابع من أكتوبر. وعبر المعارك غير المتكافئة والعمليات المنسقة عبر جبهات متعددة، تحدى محور المقاومة التفوق العسكري التقليدي لإسرائيل، وكشف عن نقاط الضعف في وضعها الإقليمي، وألحق بها خسائر بشرية واقتصادية كبيرة.
يمثِّل التوغل الإسرائيلي في سوريا الذي تم دون مقاومة تُذكر أحدَ أكثر مراحل التمدد الاستيطاني الاستعماري الإسرائيلي سلاسةً منذ نكبة 1948 Share on Xاتبع النظام الإسرائيلي، قبل عدوانه الأخير على إيران، إستراتيجيةً تقوم على عزل كل عنصر من عناصر محور المقاومة واستهدافه على حِدة. فألحقت إسرائيل دمارًا هائلًا في غزة عبر فتكها بسكان القطاع، وأوهنت حزب الله باغتيال قياداته البارزة، بمن فيهم السيد حسن نصر الله، واستهداف قاعدته الاجتماعية. وفي اليمن، ضربت الموانئ والبنى التحتية الرئيسية بدعمٍ أمريكي.
وبموازاة ذلك، كثَّفت إسرائيلُ عملياتها السرية لاستهداف كوادر وأصولًا إيرانية، بينما كانت تُحرِّض الولايات المتحدة على شن عمل عسكري ضد البنية التحتية النووية الإيرانية. بلغ ذلك المنحنى التصعيدي ذروته بهجوم إسرائيلي مباشر على الأراضي الإيرانية، وهو ما لا ينفصل عن الإطار الجيوسياسي الأوسع للإفلات من العقاب، الذي يتيح لإسرائيل ممارسة عدوانها وتوسيعه خارج حدود فلسطين. يمثّل الهجوم على إيران، في هذا السياق، تحوُّلًا نوعيًّا نحو مواجهة بين دولتين، وهي الأولى من نوعها منذ حرب 1973، بهدف إعادة تشكيل ميزان القوى الإقليمي بما يخدم المشروع الإسرائيلي للهيمنة المطلقة. ويؤدي بالإضافة إلى ذلك دورًا خطابيًّا وسياسيًّا يهدف إلى تحويل الاهتمام عن حملة الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة في غزة. تكشف الردود العربية المكتومة، التي ترقى إلى حد الموافقة الضمنية أو العلنية أحيانًا على أفعال النظام الإسرائيلي، عن التقارب الإستراتيجي المتأصل بين هذه الأنظمة وبين الأهداف الإقليمية لإسرائيل والولايات المتحدة.
سوريا الجديدة والزحف الاستعماري الإسرائيلي
قبل الحرب الإسرائيلية على إيران، التي دامت اثني عشر يومًا، كان محور المقاومة واهنًا بالفعل بسبب إشكاليات داخلية، أبرزها الإفلاس الأخلاقي والسياسي لنظام الأسد. ففي عهد بشار الأسد، أعطت سوريا الأولوية لبقاء النظام على التزامها الأيديولوجي تجاه محور المقاومة. وتجلَّى هذا النهج الانتهازي بقوة في تقارب الأسد مع الإمارات والسعودية قُبيل انهيار نظامه، في تحوُّل إستراتيجي اعتُبِر على نطاقٍ واسع محاولةً منه للنأي بنفسه عن محور المقاومة. وكانت قد تبوأت سوريا مكانةً لا غنى عنها في المحور بفضل موقعها الجغرافي الرابط إيران بلبنان، وكممرٍ لتوريد الأسلحة، إلا أن قمع الأسد الوحشي قد عرقل ذلك الدور.
ومن زاوية أخرى، تعمدت المنابر الإعلامية الرئيسية في إضفاء صبغة طائفية على الحرب الأهلية السورية التي اندلعت بعد 2011، وصوَّرت سوريا “نظامًا يقوده العلويون” يقمع “الأغلبية السنية” بعنف. لاقت هذه السردية رواجًا في أرجاء العالم العربي، إذ اُستغلت التوترات الطائفية القائمة لتمكين معارضي محور المقاومة من إعادة تصوُّره كأداة للسيطرة الشيعية بقيادة إيران، وليس كجبهة مقاومة مشروعة لإسرائيل. ومن خلال هذا التصوير لمحور المقاومة، برَّروا التطبيع مع إسرائيل باعتباره الخيار الأقل سوءًا. ساهم هذا الخطاب المُضلل إلى تقويض الشرعية الأخلاقية للمقاومة في مُخيلة البعض، وأسهم في تطبيع توافقات إقليمية كانت لا تُقبل في السابق.
في كانون الأول/ ديسمبر 2024، تلقّى محور المقاومة ضربةً كبيرة بانهيار نظام الأسد. على مدى أكثر من عقد، ورغم الضربات الإسرائيلية التي استهدفت مواقع لإيران وحزب الله في سوريا، أبقى الأسد على تفاهم ضمني مع النظام الإسرائيلي. وتغاضى عن الضربات التي لم تستهدف البنية التحتية للنظام. غير أن سقوط الأسد قضى على هذا التفاهم، مُعرِّضًا محور المقاومة لهشاشة لوجستية وإستراتيجية. في المقابل، مكَّنت سلبية النظام السوري الجديد إسرائيلَ من تنفيذ أكبر توغل عسكري لها منذ عقود دون مقاومة، لتبلغ مستويات من الاختراق الإقليمي والإستراتيجي كانت تُعَدُّ مستحيلة في السابق.
تحت غطاء البراغماتية، أعلنت القيادة الجديدة في دمشق تكرارًا تخليها عن أي نية لمواجهة إسرائيل، متعهدةً علنًا بألا تسمحَ باستخدام الأراضي السورية لأغراض عمليات المقاومة أو نقل الأسلحة إلى حركات المقاومة المعادية لإسرائيل. أتاح هذا الموقف المبكر من الخضوع الإستراتيجي لإسرائيل فرصةً نادرة لها لتكثيف حملتها العسكرية العدوانية على امتداد الأراضي السورية، دون أن تواجه أي مساءلة تقريبًا. وفي الوقت الذي ينشغل فيه النظام بترسيخ قبضته داخليًّا والحصول على اعتراف دولي بشرعيته، سارعت إسرائيل إلى تفكيك ما تبقى من القدرات العسكرية السورية. وما يثير القلق أكثر هو أن إسرائيل وسَّعت سيطرتها الفعلية على الأرض إلى ما هو أبعد بكثير من الجولان المحتل، لتشمل مساحات واسعة من جنوب سوريا وشرقها. ويمثِّل هذا التوغل الإسرائيلي في سوريا الذي تم دون مقاومة تُذكر أحدَ أكثر مراحل التمدد الاستيطاني الاستعماري الإسرائيلي سلاسةً منذ نكبة 1948.
ومع أن الأمر بدا في بداياته وكأنه مجرد تنديد خافت بالعدوان الإسرائيلي من جانب النظام السوري، فإنه سرعان ما كشف عن واقع أشدَ خطورة. فقد أفادت تقارير حديثة بوجود لقاءات بين مسؤولين إسرائيليين وسوريين، تشير إلى احتمال السعي نحو تطبيع العلاقات. وتُعدُّ هذه المبادرة الدبلوماسية مثيرة للقلق في ظل الأجندة التوسعية المعلَنة لإسرائيل، التي تسعى إلى إضعاف سوريا وجعلها تابعة، بالتوازي مع تعزيز مشروع إسرائيل الاستيطاني الاستعماري. الأخطر من ذلك أن مسؤولين إسرائيليين صرَّحوا علنًا بضرورة استغلال الصدوع الطائفية داخل سوريا، ضمن إستراتيجية ممنهجة لتقسيم البلاد إلى مناطق طائفية تتمتع بحكم شبه ذاتي. تخدم هذه السياسة القائمة على مبدأ “فرِّق تسُد” مصلحةَ إسرائيل على المدى البعيد، من خلال الإبقاء على حالة عدم الاستقرار الإقليمي، ومنع إعادة تشكُّل دولة سورية موحدة.
ما يفاقم القلق أن الأجهزة الأمنية السورية اعتقلت قادة فلسطينيين، وتبدو مستعدة لتفكيك فصائل رئيسية ومجموعات مقاومة، لتتخلى بذلك فعليًّا عن قضية شكَّلت جزءًا محوريًّا من هوية سوريا الوطنية وأمنها القومي منذ قيام الدولة الحديثة بعد الاستعمار. للأسف، يُمثِّل هذا التغير في الموقف السياسي تراجعًا خطرًا عن المبادئ التي كانت تحدد دور سوريا الإقليمي، ويعكس استسلامًا متزايدًا أمام المشروع الاستيطاني الإسرائيلي الذي وصل إلى عمق المشرق المفكك.
بيت مشيَّد على أساسات واهية
إنّ المسعى الإسرائيلي المستمر لفرض الهيمنة الإقليمية هو قصة عدوان إبادي، وإخضاعٍ ممنهج للدول العربية عبر إعادة التموضع الدبلوماسي، واستغلال الانقسامات الإقليمية. وتلك الهيمنة المعززة بالدعم الأمريكي غير المشروط وبموافقة أنظمة عربية عديدة ترسم صورةً منيعة، ولكنها تخفي نقاط ضعفٍ جوهرية. فنفوذ إسرائيل الإقليمي يقوم على ركيزتين أساسيتين: أولهما تفوُّق عسكري كاسح مدعومٌ عسكريًّا من الولايات المتحدة، وثانيهما اتفاقات تطبيع دبلوماسي تتخطى الحقوق والتطلعات الفلسطينية.
صرّح مسؤولون إسرائيليون علنًا بضرورة استغلال الانقسامات الطائفية في سوريا، ضمن استراتيجية ممنهجة تهدف إلى تفتيت البلاد إلى كيانات طائفية ذات حكم شبه ذاتي Share on Xغير أن خلف هذه القوة الحالية هشاشةً بنيوية، فاعتماد إسرائيل على الرعاية الخارجية يجعل مصيرها رهينًا بتقلّبات السياسة الأمريكية. ومع تغيّر الأولويات في نظامٍ عالمي متحوّل، قد تفقد إسرائيل السيطرة على مسارها مع تراجع مصدر بقائها الأساسي المتمثّل في الرعاية الخارجية. وخصوصًا في ظل التحوُّل الديموغرافي الكبير الذي يحدث في الولايات المتحدة، حيث تُظهر استطلاعات الرأي أن أغلبية الأمريكيين باتوا يحملون آراءً سلبية عن إسرائيل، وهو تحول هائل بعد عقودٍ من الدعم الشعبي شبه المطلق.
علاوةً على ذلك، تُخفي الوتيرة المتسارعة للتطبيع بين الأنظمة العربية وإسرائيل هشاشةً عميقة كذلك، تنذر بانهيار وهم الاستقرار الإقليمي. فرغم التوافقات الرسمية وقمع الأنظمة، يبقى الشارع العربي متمسكًا بشدة بالقضية الفلسطينية. لا تزال شعوب المنطقة ترى في إسرائيل كيانًا استعماريًّا استيطانيًّا أجنبيًّا، له طموحات تتجاوز فلسطين بكثير. وبذلك تخاطر الأنظمة المنحازة إلى إسرائيل بإثارة رد فعل عنيف محليًّا، ولا سيما في خضم الأزمات الاقتصادية المتصاعدة والنظام العالمي المتغير الذي يؤجج حالة استياء واسعة النطاق. يتلاقى التوتر بين الأنظمة العربية ومجتمعاتها مع الديناميكيات الإقليمية المتغيرة، بينما زادت الحرب الأخيرة مع إيران من تعقيد جهود إسرائيل لتحقيق الهيمنة المطلقة دون تحدٍّ.
توسَّطَ الرئيس الأميركي دونالد ترامب لوقف إطلاق النار قبل أن تتمكن إسرائيل من تحقيق أهدافها الإستراتيجية في إيران. ونتيجة لذلك، خرج النظام الإيراني وقد تمكَّن من الصمود أمام الضغط العسكري المزدوج الذي مارسته عليه إسرائيل والولايات المتحدة. والأهم أن إيران أثبتت قدرةً هائلة على الرد، إذ ألحقت أضرارًا كبيرة بمواقع إسرائيلية حساسة، وكشفت عن نقاط ضعف في دفاعات إسرائيل الصاروخية. ومن المرجح أن تتردد أصداء ذلك في أنحاء المنطقة، لتشكِّلَ عائقًا جديًّا أمام سعي إسرائيل إلى الهيمنة المطلقة، وتقدم درسًا إستراتيجيًّا حول حدود تفوقها العسكري.
ما يلوح في الأفق
رغم أن تراجع محور المقاومة يطرح تحديات، فإنه فتح المجال أمام أشكال جديدة من المقاومة، تتمثل في صمود الشعب الفلسطيني والتضامن العالمي المتنامي في مواجهة الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة. فقد يؤدي تزايد تدخلات إسرائيل في لبنان وسوريا واليمن وإيران إلى إنهاكها، ما يصعِّب عليها الحفاظ على سيطرتها. والتاريخ يشهد أن المقاومة لا تموت، بل تعود غالبًا بأشكال أكثر صلابة، مدفوعةً بالقمع المستمر الذي تمارسه إسرائيل. ويُشير ذلك إلى أن سلوك النظام الإسرائيلي العدواني قد يقوِّض نفسه في نهاية المطاف، إذ يفضي إلى خلق مقاومة تتناسب طرديًّا مع حجم القمع.
وبالنسبة إلى الفلسطينيين تحديدًا، يشكِّل صعود إسرائيل كابوسًا وجوديًّا يهدد حاضرهم ومستقبلهم. فمن ناحية، تحولت غزة إلى أنقاضٍ، وشعبها يعاني تجويعًا وحرمان من المياه ممنهجًا وقصفًا لا يتوقف، حتى صار البقاء في حدِّ ذاته أسمى أشكال المقاومة. ومن ناحيةٍ أخرى، تعاني المجتمعات الفلسطينية في الضفة الغربية تصاعدًا في عنف المستوطنين المدعوم رسميًّا من الدولة. وبلغت ممارسات هدم المنازل ومصادرة الأراضي والاعتقالات التعسفية والمضايقات اليومية مستويات خانقة.
في الوقت نفسه، ما برحت شرعية السلطة الفلسطينية تتراجع منذ زمن بعيد نتيجةً للانقسامات الداخلية وخضوعها المفرط للإملاءات الإسرائيلية. ولكن برغم الضغوط المستمرة التي يفرضها المشهد السياسي الفلسطيني الممزق، تواصل المجتمعات المقاوَمةَ والتكيُّف بإصرار وثبات لا يتزعزعان.
رغم أن الصمود الفلسطيني لا يزال قائمًا تحت الضغوط الهائلة، فإن أسس القوة الإسرائيلية ذاتها تُخفي وهن بنيوي متجذر. فالهيمنة الإسرائيلية ليس لها أساسٌ شرعيٌّ، وإنما تعتمد على العنف والدعم الأجنبي وتواطؤ الأنظمة العربية. فالمنظومة الأمنية الإسرائيلية قائمة على القمع والتفتيت وتفتقر إلى الأساس الوحيد القادر على ضمان اندماج إقليمي دائم، ألا وهو القبول الحقيقي من شعوب المنطقة، وهو أمر يستحيل تحقيقه.
في نهاية المطاف، يتطلب المضي قدمًا وحدةً وطنية وقيادةً جريئة قادرة على تجاوز الانقسام الفلسطيني والنظام العربي المتحجر والقمعي، مع استثمار الزخم المتصاعد للتضامن العالمي الواسع مع فلسطين. لم تعُد المقاومة اليوم محصورة في الصواريخ أو الحجارة؛ فهي حاضرة بقوة في قاعات المحاكم والجامعات وفي الساحات الرقمية والثقافية حول العالم. قد لا يكون إحداث تغيير جذري مضمونًا، ولكن الأكيد أن المشروع الاستيطاني الإسرائيلي سيظل يواجه مقاومةً مستمرة. إن الهيمنة الإسرائيلية الحالية أشدُّ هشاشةً مما تبدو عليه، وهي لا تشير إلى نهاية الصراع لصالح إسرائيل، بل إلى مرحلة مضطربة ضمن نضال مستمر لم يُحسم بعدُ.
طارق دعنا
أحدث المنشورات
مجموعة لاهاي: القانون الدولي في خدمة فلسطين
الحرب الإسرائيلية على إيران: توقيت مناسب للإفلات من العقاب
العدوان على إيران وإعادة تشكيل الشرق الأوسط
نحن نبني شبكةً من أجل التحرير.
ونحن نعمل جاهدين، باعتبارنا المؤسسة الفكرية الفلسطينية العالمية الوحيدة، للاستجابة للتطورات السريعة المؤثرة في الفلسطينيين، بينما نحافظ على التزامنا بتسليط الضوء على القضايا التي قد يتم تجاهلها لولا تركيزنا عليها.