المواضيع
طالعوا تحليلاتنا بخصوص المجتمع المدني وسُبله في رسم ملامح المشهد الثقافي والسياسي والسياساتي.
طالعوا استشرافاتنا بخصوص تغيرات المشهد السياسي وتداعياتها على فلسطين
استزيدوا معرفةً بالسياسات والممارسات التي تحدد شكل الاقتصاد الفلسطيني
تعرَّفوا أكثر على الأوضاع الفريدة التي يعيشها اللاجئون الفلسطينيون في الشرق الأوسط
التحليلات
تحليلات متعمقة للسياسات الحالية أو المتوقعة التي تؤثر في إمكانيات التحرير الفلسطيني.
رؤى ووجهات نظر حول المسائل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتعلقة بفلسطين والفلسطينيين حول العالم.
تحليلات موجزة لسياسات محددة وخلفياتها وآثارها.
تعقيبات تضم رؤى متنوعة من محللين متعددين.
تجميعات لأعمال سابقة أنجزتها الشبكة حول موضوع محدد.
مشاريع مطوَّلة ومخصصة تسعى إلى الإجابة عن أسئلة بحثية تقع خارج نطاق تحليلاتنا المعتادة.
مبادرة بحثية معنية بالسياسات أطلقتها الشبكة: شبكة السياسات الفلسطينية.
سلسلة ندوات شهرية عبر الإنترنت تجمع خبراء فلسطينيين.
متميز
اشتركوا في نشرة الشبكة البريدية الآن لتصلكم أحدث التحليلات السياساتية الفلسطينية على بريدكم الإلكتروني:
المعارضة الفلسطينية للضمان الاجتماعي: ثورة أم انتكاسة
نظرة عامة
الضمان الاجتماعي هو شبكةُ أمانٍ تحمي العمال والموظفين في حالات المرض والإصابة والعجز، ومصدرُ دخلٍ بعد التقاعد. تعود نشأة الضمان الاجتماعي إلى أواخر القرن التاسع عشر حين فرضت ألمانيا نظام الضمان الاجتماعي الإلزامي الأول في العالم كاستجابة للعمال المُطالبين بمساواة أكبر في الاقتصاد الألماني الرأسمالي. وانضمت الحركات الاجتماعية والقوى العمالية حول العالم إلى هذا النضال، واكتسب العمال على مر العقود حقوقًا أكثر فأكثر.1
أمّا اليوم، فقد بات الضمان الاجتماعي أحد الحقوق الإنسانية الاقتصادية بحسب المادة 22 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الذي وقّعت عليه السلطة الفلسطينية وأصبحت بذلك مُلزمةً بالوفاء بالحقوق التي تكفلها تلك المواثيق.
ومع أن السلطة الفلسطينية ظلت تحاول تأسيس نظام ضمان اجتماعي في الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عقود، إلا أن جهودها جوبهت بمعارضة من جهات مختلفة. وكان آخرُها احتجاجَ المجتمع المدني والقطاع الخاص والعمال على قانون الضمان الاجتماعي الذي وضعته السلطة الفلسطينية في 2016، وكانت الاحتجاجات صاخبةً لدرجة أن قرارًا رئاسيًا صدر في حزيران/يونيو 2019 يوقف تنفيذ القانون.
فلماذا يحارب الفلسطينيون، بمن فيهم العمال، حقًا حاربَ لأجله على مر التاريخ عمالٌ آخرون حول العالم؟
يحاول هذا التعقيبُ الإجابةَ على هذا السؤال من خلال تفحُّص الطبيعة النيوليبرالية لنظام الضمان الاجتماعي المقتَرح وسوء إدارة السلطة الفلسطينية للمال العام وأزمتها المالية الحالية. ويطرحُ التعقيبُ في الختام أفكارًا حول شكل قانون الضمان الاجتماعي الذي سيعود بالنفع على الفلسطينيين والخطوات الضرورية لتحقيقه.
الضمان الاجتماعي في الأرض الفلسطينية المحتلة
عندما تشكلت السلطة الفلسطينية بموجب اتفاقات أوسلو في العام 1993، شَرعَ المجلس التشريعي الفلسطيني في إعداد مشاريع القوانين المختلفة بما فيها النسخة الأولى من قانون الضمان الاجتماعي. سُنَّ القانون في نهاية المطاف في العام 2003 وكان سيدخل حيز التنفيذ في العام 2007، بيد أن البنك الدولي أوصى ذلك العام بألا تقوم السلطة الفلسطينية بتفعيل القانون لقلة التمويل اللازم لاستدامة الصندوق وارتفاع تكاليف التنفيذ. وعلاوةً على ذلك، عارضَ جُلُّ القطاع الخاص الفلسطيني القانون لأنه يفرض على أرباب العمل أن يدفعوا اشتراكات لصندوق الضمان الاجتماعي، ما يرتِّب عليهم أعباءً إضافية.
اتبعت السلطةُ الفلسطينية توصيةَ البنك الدولي وألغت القانون بقرارٍ رئاسي في العام 2007. وخمَّن المحللون بأن إلغاء القانون كان نتيجة الضغط الذي مارسه البنك الدولي ومنظمات أجنبية أخرى داعمة للقطاع الخاص بالإضافة إلى الضغط الذي مارسه القطاع الخاص الفلسطيني نفسه.2
أمّا المحاولة الثانية لسنِّ قانون ضمان اجتماعي في الأرض الفلسطينية المحتلة فقد كانت أكثر جدلًا من سابقتها، حيث صيغ قانون الضمان الاجتماعي لسنة 2016 بموجب القرار رقم 6 وبمساعدة منظمة العمل الدولية في إطار عملية وصفها الكثيرون بأنها افتقرت إلى الشفافية ومشاركة المجتمع الفلسطيني، إذ لم يتم التشاور مع النقابات المهنية ولا مع القطاع الخاص. ويعتقد فراس جابر، الباحث في مرصد السياسات الاجتماعية والاقتصادية، بأن انتقادات المجتمع المدني لعملية صياغة القانون انبثقت من غياب العدالة والنزاهة والمساواة.
كشف القانون الجديد أيضًا عن رغبة السلطة الفلسطينية في التمكن من الوصول إلى رواتب العمال، حيث إن المادة السابعة (البند 4) من بروتوكول باريس الصادر في 1994 والحاكم للعلاقة الاقتصادية بين إسرائيل والأرض الفلسطينية المحتلة، تنظِّم استقطاعات الضمان الاجتماعي من أُجور الفلسطينيين العاملين في إسرائيل. وتنص المادة على تحويل تلك الاستقطاعات إلى السلطة الفلسطينية حال إنشاء صندوق للضمان الاجتماعي. وأشار العديد من المنتقدين إلى أن إمكانية وصول السلطة الفلسطينية إلى أُجور العمال كانت عاملًا رئيسيًا وراء محاولاتها الرامية لفرض قانون الضمان الاجتماعي في المناطق التي تسيطر عليها.
تجاهلت السلطة الفلسطينية في بادئ الأمر المعارضة لهذا القانون. ولكن بعدما تزايد الحنق الشعبي، أطلقت السلطةُ عمليةً تشاورية تتوجت بإعلان القرار بقانون رقم 19 لسنة 2016 بشأن الضمان الاجتماعي. وكانت هذه النسخة من القانون أفضل من سابقتها، حيث إنها جعلت السلطة الفلسطينية ضامنةً للصندوق، فصارت ملزمةً بتغطية أي عجزٍ مالي محتمل. وكَفِلَ القانونُ الجديد للمرأةِ الحقَ في إجازة الأمومة بعد دفع أول ثلاث أقساط للصندوق، مقارنةً بست أقساط بموجب القانون السابق.
نصَّ القانونُ السابق أيضًا على تحويل أموال العاملين من حسابات التوفير، وبرامج التقاعد، وبرامج التأمين الصحي إلى صندوق تكميلي بغرض استثمارها. وقد عارضَ العمال هذا الترتيب لأن الصندوق التكميلي كان مقررًا أن يكون منفصلًا عن نظام الضمان الاجتماعي وبالتالي أكثر عرضةً لمخاطر السوق. وفي المقابل، لم ينص القانون الجديد على تحويل هذه الأموال إلى صندوق تكميلي، بل أبقاها في مؤسسات العمال. ونصَّ على أن الصندوق التكميلي سيكون اختياريًا للعمال، وستُحال إدارته إلى نظام الضمان الاجتماعي.
وبالرغم من هذه التعديلات، تنامت المعارضة لهذا القانون من جانب القطاع الخاص الفلسطيني والعاملين فيه، حيث ظل الشاغل الرئيس الذي يؤرق القطاع الخاص قائمًا، وهو أنه سيُضطر بموجب القانون إلى دفع اشتراكات للصندوق، وإلى دفع الحد الأدنى للأجور. فوفقًا لبيانات الحكومة الفلسطينية، يتقاضى 16% من القوى العاملة الفلسطينية في الضفة الغربية أجرًا يقل عن الحد الأدنى الرسمي. ويُرجح أن تكون هذه النسبة أعلى نظرًا لتقاعس السلطة الفلسطينية عن الإشراف وإنفاذ القانون.
إن خصخصة الضمان الاجتماعي وتسليمه لقطاعٍ عالي المخاطر ومدفوعٍ باعتبارات الربح تحتمل مخاطر كثيرة Share on Xتطلب القانون الجديد من أرباب العمل في القطاع الخاص دفعَ مكافأة نهاية الخدمة لموظفيهم. فبموجب قانون العمل الفلسطيني، يحق للعامل الحصولُ على مستحقات نهاية الخدمة بمقدار راتب شهر عن كل سنة عملَ فيها عند رب العمل. ولأن قانون الضمان الاجتماعي سوف ينسخ هذه المادة، فإن أرباب العمل سيضطرون إلى دفع مكافأة نهاية الخدمة كاملةً لموظفيهم – كما لو أنهم توقفوا عن العمل – وذلك لكي يبدأ نظام الاشتراكات والمكافآت الجديد.
العديد من المشاريع التجارية الصغيرة والمتوسطة والكبيرة كانت ستنهار بسبب عدم قدرتها على تسديد هذه المبالغ الكبيرة. وبالطبع، لم يكن أرباب العمل في القطاع الخاص سعيدين بأي من هذه الترتيبات التي من شأنها أن تقللَ أرباحَهم وتزيد نفقاتهم، بل وقد تدفعهم إلى إغلاق مصالحهم التجارية. وبالمثل، قام العمال الفلسطينيون بإضرابات واحتجاجات كثيرة. وبالرغم من احتمال أن يكونَ أربابُ العمل هم من شجعوا عمالهم على الاحتجاج انطلاقًا من مصالحهم، فإن هذا لا ينبغي أن ينفي مصلحةَ العمال أنفسهم في معارضة القانون. وقد تكللت المعارضة بالنجاح، حيث صدر قرار رئاسي بتاريخ 28 حزيران/يونيو 2019 يُجمد تنفيذ القانون.
فلماذا إذن حاربَ العمال الفلسطينيون حقًا كان سيعود عليهم بالنفع في ظاهره؟ تكمن الإجابة على هذا التساؤل في الطبيعة النيوليبرالية للقانون، وفي انعدام ثقة العامة في السلطة الفلسطينية.
خصخصة الضمان الاجتماعي
يتسم إطار عمل قانون الضمان الاجتماعي بأنه نيوليبرالي، وبموجبه ستضطلع السلطة الفلسطينية حصرًا بإدارة الصندوق ولن تساهم فيه، وإنما ستستثمر أمواله في القطاع الخاص.3 غير أن خصخصة الضمان الاجتماعي على هذه الشاكلة فشلت فشلًا ذريعًا حتى في الدول ذات السيادة والأكثر استقرارًا من الناحية الاقتصادية، كما حدث في شيلي النيوليبرالية ذات يوم.
كانت شيلي في يوم من الأيام، كالأرض الفلسطينية المحتلة الآن، مختبرًا لتجريب الأيديولوجيات الأمريكية النيوليبرالية، حيث أنشأت الحكومة الشيلية نظامَ ضمان اجتماعي مُخصخَص تموِّله اشتراكات الموظفين والعاملين فقط. وهذا يشبه إلى حدٍ كبير النظام المقترح في الأرض الفلسطينية المحتلة، الذي يفرض أيضًا على أرباب العمل المساهمة في الصندوق. أُودعت الاشتراكات المدفوعة في شيلي في حسابات خاصة في القطاع الخاص. ومع الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008، انخفضت قيمة تلك الحسابات بمقدار 30-35%، ما اقتضى الشروع في عملية إصلاح واسعة النطاق.
إن خصخصة نظام الضمان الاجتماعي وتسليمه لقطاعٍ عالي المخاطر ومدفوعٍ باعتبارات الربح تحتمل مخاطر كثيرة. ولا بد للمرء، في حالة الاقتصاد الفلسطيني، أن يأخذَ في الاعتبار العواملَ الخارجية والداخلية الفريدة المؤثرة فيه. وعلى غرار الانهيار المالي في وول ستريت، نجدُ أن النمو الحالي في الاقتصاد الفلسطيني مدفوعٌ بالتوسع غير المستدام في القروض المقدمة للسلطة الفلسطينية وموظفيها والقطاع الخاص.
تُطبق المصارف الفلسطينية، كما كانت المصارف الأمريكية قبل 2008، نُظَم تصنيف ائتمانيةً وإقراضيةً متساهلة. فالمتأمل في شوارع رام الله، العاصمة الإدارية للسلطة الفلسطينية، سيرى انتشار المقاهي الفخمة والفلل الفاخرة والسيارات الفارهة الممولة من خلال التوسع في منح القروض. ويعتقد محللون كثيرون بأن انفجار فقاعة الدَّين في الأرض الفلسطينية المحتلة ليست سوى مسألة وقت.
يخضع الاقتصادُ الفلسطيني كذلك إلى رحمة المحتل الإسرائيلي الذي يتحكم بالحدود والتجارة وعائدات المقاصة الفلسطينية والموارد الطبيعية. فحين كان العمال الفلسطينيون يحتجون على قانون الضمان الاجتماعي، كانت الاقتحامات والمداهمات الإسرائيلية على مدن الضفة الغربية، ولاسيما رام الله، تذكرنا بالمسيطر الحقيقي على الأرض الفلسطينية المحتلة.
وهكذا إذا تدهور الوضع الأمني، فإن المداهمات الإسرائيلية المصحوبة بحظر التجول سوف تُكبِّد الاقتصاد الفلسطيني عوائد ضائعة بالملايين أو حتى المليارات. وأي خسارة من هذا النوع، سواء بسبب انفجار فقاعة الدَّين أو الاحتلال الإسرائيلي، سوف تؤثر في صناديق الضمان الاجتماعي المقترحة التي ستودع في المصارف الفلسطينية وتُستَثمر في الاقتصاد الفلسطيني.
يدرك الفلسطينيون هذا الوضع جيدًا، ولذلك عبَّروا عن غضبهم واستيائهم من القانون – حتى بعد تعهد السلطة الفلسطينية بضمان الأموال. فانعدام الثقة المتجذر عند العامة إزاء كفاءة السلطة في المجالين السياسي والاقتصادي هو الذي حفَّز المعارضة الشعبية.
سُلطةٌ فاسدة وغير كفؤة
أشارت دراسة مسحية في 2017 إلى أن فساد السلطة الفلسطينية من وجهة نظر الفلسطينيين هي ثاني أكبر مشكلة يواجهونها بعد الأزمة الاقتصادية التي جاءت في المركز الأول وقبل مشكلة الاحتلال الذي حلَّ في المركز الثالث. ولهذا ليس مستغربًا أن يؤكد الكثير من الفلسطينيين أن انعدام الثقة الشعبية في السلطة الفلسطينية هو سببٌ أساسي لرفضهم قانون الضمان الاجتماعي.
يُعزى هذا الوضع لعدة أسباب منها أن السلطة الفلسطينية مبنية على الأبوية الجديدة، بحسب مروة فطافطة وهو “نموذج هجين تتوفر بموجبه هياكلُ الدولة وقوانينُها وأنظمتُها رسميًا لكنها تظل معطلةً بسبب السياسات غير الرسمية وشبكات المحسوبية وعلاقات النسب والقبلية.” وبالتالي فإن المناصب العامة غالبًا ما تُوكلُ إلى شاغليها بناءً على مقدار ولائهم للمتربعين على قمة الهرم السياسي وليس استنادًا إلى جدارتهم وأحقيتهم. وفي هذا النظام، يستخدم المسؤولون مناصبهم العامة لتحقيق مكاسبَ شخصيةٍ، وغالبًا ما يوظفونها كوسيلةٍ لوضع يدهم على موارد الدولة وتقوية شوكتهم ونفوذهم.4
أساليب السلطة الفلسطينية في البقاء على قيد الحياة والاستمرار أشبه بلعبة الروليت الروسية، وأن المسألةَ مسألةُ وقت قبل أن تنفد حظوظها Share on Xوعلى سبيل المثال، يوثق تقرير أصدره الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة (أمان) ثمان حالات لتهرُّب مسؤولين من دفع الجمارك والضرائب المترتبة على مركبات خاصة اشتروها. وقد بلغت قيمة الأموال العامة الضائعة 357,000 دولار أمريكي، والتي لولا التهرب من دفعها لدخلت في حساب الخزينة العامة. وهذه المبالغ كانت كافية، كما يشير التقرير، لتغطية ثلاثة أشهر من تكاليف برنامج تنفذه وزارة التنمية الاجتماعية وتستفيد منه ماليًا 1670 أسرة محتاجة.
يتجلى عجز السلطة الفلسطينية عن إدارة صناديق الشعب الفلسطيني وضمانها في إقدامها في 2016 على اقتراض نحو ملياري دولار أمريكي من صندوق التقاعد الرسمي، ما أصاب الصندوق بعجزٍ مالي، وفاقم انعدام ثقة العامة بقيادتهم.
تُظهر الأزمة المالية الراهنة أيضًا قِصرَ نظر السلطة الفلسطينية في سياساتها الاقتصادية. ففي السنوات الأخيرة، ابتعدت السلطة الفلسطينية عن مساعدات المانحين وأصبحت أكثر اعتمادًا على عائدات المقاصة وعلى الاقتراض. وفي حين أن الابتعاد عن مساعدات المانحين قد يكون مستصوبًا، إلا أن هذه السياسات غير مستدامة، إذ ركزت فيها السلطة الفلسطينية على زيادة الواردات وجني العائدات من ضرائب الاستيراد لتلبية الطلب في السوق بدلًا من الاستثمار في اقتصادٍ انتاجي محلي ليصبح مصدرًا رئيسيًا للعائدات من خلال الضرائب المحلية. ويرى ياسر صلاح بأن توجه السلطة الفلسطينية لجني العائدات من ضرائب الاستيراد كمصدرٍ رئيسي للدخل ينم عن توجهها الربحي قصير النظر وعجزها عن وضع سياسات تنموية بعيدة الأجل.
اتضحت مخاطر هذا التوجه في شباط/فبراير 2019 حين طبَّقت الحكومة الإسرائيلية قانونًا في تموز/يوليو 2018 تقتطع السلطات الإسرائيلية بموجبه نحو 6% (بالإضافة إلى 3% تقتطعها بموجب اتفاقات أوسلو) من عائدات المقاصة التي تجبيها بالنيابة عن السلطة الفلسطينية – وهذا المبلغ تعده السلطات مساويًا لما تدفعه السلطة الفلسطينية لأسر الشهداء والأسرى الفلسطينيين. وكردٍ على هذا الإجراء، رفضت السلطة الفلسطينية تحويلات عائدات المقاصة التي تشكل 65% من دخلها وتغطي ما يزيد على نصف نفقاتها. وأخذت السلطة تقترض من المصارف المحلية لتفي بالتزاماتها الأساسية وتدفع رواتب موظفي القطاع العام، ومع ذلك لم تقدر إلا على دفع 50%–60% فقط من رواتب الموظفين العموميين.
تشكك هذه الأزمة بقدرة السلطة الفلسطينية والاقتصاد الفلسطيني على الحياة والاستمرار. وليس مستغربًا أن تكون الشعارات الرئيسية للحملة المناهضة لقانون الضمان الاجتماعي على شاكلة: “هالضمان ما الو ضمان” و”الضمان غير مضمون”. فالسلطة الفلسطينية أثبتت عجزها عن تأمين ظروف معيشية عادلة ومؤاتية للفلسطينيين، بل وأظهرت أن أساليبها في البقاء على قيد الحياة والاستمرار أشبه بلعبة الروليت الروسية، وأن المسألةَ مسألةُ وقت قبل أن تنفد حظوظها.
وهكذا فإن غضب الشارع العام الفلسطيني على قانون الضمان الاجتماعي نابعٌ من رغبة السلطة الفلسطينية في الوصول إلى رواتب شعبها، ومن عجزها عن ضمانة الصندوق، ومن سجلها الحافل في سوء إدارة المال العام. فما الذي يمكن فعله لتصويب المسار؟
سُبل المضي قدمًا: المساءلة والديمقراطية
إن قانون الضمان الاجتماعي الذي سيعود بالنفع على الشعب الفلسطيني يجب أن يكون مختلفًا عن القانون الذي اقترحته السلطة الفلسطينية. فلا ينبغي أن يعتمد على آليات الاستثمار الخاص عالية المخاطر. بل لا ينبغي للربح أن يكون من العوامل المرعية، لأنه ينبغي للقانون أن يُعنى بالأساس بتوفير حقوق الضمان الاجتماعي الحقيقية للعمال الفلسطينيين. لذا ينبغي أن يكون الاستثمار اختياريًا، وأن تكون النقابات المهنية الأحرى بإدارة الصندوق.
وينبغي لصندوق الضمان الاجتماعي أن يستمد اشتراكاته من السلطة الفلسطينية وضريبة الدخل (مع استثناء أصحاب الدخول المتدنية من الدفع)، وأرباب العمل الذين ستعتمد مبالغ اشتراكاتهم على أرباحهم إذا زادت عن الحد الأدنى المطلوب، أي إذا كان رب العمل يجني أرباحًا أكثر من رب عمل آخر، فينبغي للأول أن يدفع أكثر من الثاني.
إن قدرة الفلسطينيين على قيادةِ حملةٍ ناجحة لمناهضة سياسةٍ من سياسات السلطة الفلسطينية قد يكون بدايةَ حركةٍ حقوقية تدعو إلى إحداث تغييرات جذرية في نظام فاسد وقاصر Share on Xإن تهيئة الظروف المواتية لهذا القانون تتطلب تغييرات جذرية. أولًا، ينبغي للسلطة الفلسطينية أن تدفع باتجاه عقد انتخابات رئاسية وبرلمانية وأن تُطلق حملةً وطنية لمحاربة الفساد على المستويين المؤسسي والفردي. فلا يمكن مساءلة المسؤولين أمام الناخبين في غياب الديمقراطية. ومن دون جهود حقيقية لمحاربة الفساد العام، فإن الوضع الراهن سيظل على حاله على الأرجح. وبالرغم من أن هذه الإصلاحات لن تُغير حقيقة أن الأرض الفلسطينية المحتلة ترزح تحت احتلال عسكري، إلا أن الجهود الصادقة التي ستبذلها السلطة الفلسطينية لتحسين وضعها ستخلق على الأرجح ثقةً عند العامة ودعمًا شعبيًا للسياسات المستقبلية.
هناك حاجةٌ أيضًا لإبرام اتفاق مصالحة بين الحزبين الحاكمين المسيطرين، فتح وحماس. فالانقسام المستمر منذ ما يزيد على 12 عامًا يقف عقبةً كبرى أمام مشروع شبه الدولة الذي ترعاه السلطة الفلسطينية. فكان ينبغي للسلطة التي تقودها فتح أن تحترمَ قرار الشعب الفلسطيني حين فازت حركة حماس بالانتخابات التشريعية في 2006، وكان عليها ألا تنصاع للضغوط الدولية التي مورست لمقاطعة حماس. وينبغي للسلطة الفلسطينية اليوم أن تُصلح خطأها التاريخي بأنْ تنخرط في العمل السياسي مع حماس.
لقد نجحت الحملةُ ضد قانون الضمان الاجتماعي في تجميد القانون. ولربما يدل هذا الإنجاز الكبير على ما هو أهم، ألا وهو ولادة حركة جديدة من رحم الشارع الفلسطيني. فكما كتب ماجد العاروري، كان الشارع الفلسطيني قبل قانون الضمان الاجتماعي “يهوهو” ولا يعض. إن قدرة الفلسطينيين على قيادةِ حملةٍ ناجحة لمناهضة سياسةٍ من سياسات السلطة الفلسطينية قد يكون بدايةَ حركةٍ حقوقية تدعو إلى إحداث تغييرات جذرية في نظام فاسد وقاصر.
كرم عمر
أحدث المنشورات
عودة ترامب وتداعياتها على النضال الفلسطيني
تصور جديد لفلسطين بعد عام من الإبادة الجماعية
محور سياساتي: عام من الإبادة الجماعية في غزة
نحن نبني شبكةً من أجل التحرير.
ونحن نعمل جاهدين، باعتبارنا المؤسسة الفكرية الفلسطينية العالمية الوحيدة، للاستجابة للتطورات السريعة المؤثرة في الفلسطينيين، بينما نحافظ على التزامنا بتسليط الضوء على القضايا التي قد يتم تجاهلها لولا تركيزنا عليها.