Article - Gaza Between Occupation, Division, and COVID-19: Confronting Total Collapse

المقدمة

لطالما تميّزت غزة بين مناطق فلسطين المختلفة، وتبرز خصوصيتها حاليًا في وقوعها بين ثلاثة متغيرات رئيسية تفاقم الانهيارَ الذي تشهده غزة وهي الاحتلال الإسرائيلي، والانقسام الفلسطيني، وجائحة كوفيد-19. وتطرح هذه الحالة تساؤلات ذات بعد اجتماعي-سياسي حول أثر المسببات في الانهيار الاجتماعي، والتغيرات التي طرأت على عوامل المثابرة والصمود لدى فلسطيني غزة.1

بالرغم من محاولات سكان غزة في استحداث فرص النجاة، وصناعة التوازن في البنية الاجتماعية، إلا أنّ أثر المسبّبات خلق تشوّهًا في قيم الصمود لدى الغزيين، الذين يعانون الهشاشةَ المجتمعية إلى درجةٍ أوصلتهم إلى مرحلة اللايقين، ووضعًا مضطربًا جعلهم يعيشون في جماعات متخيلة متشبثة بطوق الخيال للنجاة.

يساهم هذا التعقيب في قراءة وضع غزة بين المتغيرات الرئيسية الثلاثة، ويستكشف التحولاتِ الاجتماعيةَ الجارية في مجتمع غزة المدني للتصدي للانهيار، والتي تشمل مبادرات اجتماعية مثل مسيرات العودة الكبرى، وحراك “بدنا نعيش”، وغيرها من المبادرات عبر قنوات التواصل الاجتماعي. ويختم التعقيب بوصف مستقبلي لغزة يعكس واقعها من خلال مقابلات مع نشطاء وشباب يعيشون هذا الواقع منذ صغرهم.  

غزة بين الاحتلال والانقسام 

تبلغ مساحة غزة 360 كم مربع، وتعادل 1.3% من مساحة فلسطين الكلية. وقُدِّر عدد سكانها في 2020 بحوالي 2.05 مليون نسمة، منهم 1.04 مليون ذكر و1.01 مليون أنثى، وتعد البُقعة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في العالم حيث يبلغ المعدل 5,600 نسمة لكل كم مربع.

يعيش سكان غزة الأوضاع الكارثية بالمعنى والسياق الكامل بسبب الحصار الإسرائيلي المفروض منذ 14 سنة، ناهيك عن ثلاثة حروب دامية في الأعوام 2014, 2012, 2008 سقط فيها ما يقارب من 3800 شهيد، فضلًا على التصعيد العسكري الإسرائيلي المتكرر والمدمر بين الحين والآخر، كما أن الاوضاع المعيشية والاقتصادية في غزة في أدنى مستوياتها، إذ وصلت نسبة البطالة إبان جائحة كوفيد-19 إلى أكثر من 70%.

ونظرًاً لفرض العقوبات من قبل السلطة الفلسطينية على غزة، وزيادة الضرائب من قبل حكومة الأمر الواقع في غزة، ووجود أزمتي الكهرباء والمياه، وانعدام الأمن الغدائي، تراجعت مستويات الاستثمار وضعفت القوة الشرائية في غزة، بالإضافة إلى وصول نسبة الفقر فيها إلى أكثر من 53%، وهذه المؤشرات تدل على الآثار التي سببها الاحتلال الإسرائيلي والانقسام الفلسطيني بين حماس والسلطة الذي أعاق التنمية الاجتماعية والسياسية في غزة، الأمر الذي يعطينا احتمالاً منطقيًا وقاتمًا لمستقبل غزة المثقل بالمخاطر والتفكك المستمر.

وفي الإشارة مجددًا إلى مستقبل غزة، أصدرت اليونيسف ووكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) تقريرًا في 2012 يحمل عنوان “غزة 2020 لا تصلح للعيش” ، توقعَ أن يرتفعَ عددُ سكان القطاع من 1.6 مليون نسمة إلى 2.1 مليون نسمة بحلول 2020، الأمر الذي سيؤدي لكثافة سكانية تزيد على 5800 نسمة لكل كم مربع مع العلم بأن هذا العدد ازداد أكثر مما كان يتوقعه التقرير.

يبين التقرير أيضًا بأن البنية التحتية الخاصة بالكهرباء والمياه والصرف الصحي والخدمات البلدية والاجتماعية لا تواكب احتياجات السكان المتزايدين، ولكنه لم يُدخل في حساباته الكوارث الطبيعية أو الأوبئة كما نشهد في المرحلة الحالية من تفشي جائحة كوفيد-19، ولم تكن الحرب الدامية التي تعرضت لها غزة في 2014 قد وقعت عندما صدر التقرير قبل تسعة سنوات، وهذا يدفعنا لنتصوّر بأن غزة كانت منذ سنوات ولا تزال في وضع انهياري غير قابل للعيش بتاتًا، وبنظرة أوسع يمكن القول بأن غزة في مرحلة “ما بعد الانهيار”.

غزة كانت منذ سنوات ولا تزال في وضع انهياري غير قابل للعيش بتاتًا، ... ويمكن القول بأن غزة في مرحلة 'ما بعد الانهيار' Share on X

لقد نجح النظام الإسرائيلي ليس فقط في محاصرة فلسطيني غزة، بل أيضًا في إبراز صورتهم دوليًا كشعب معاد، وبالفعل، قتلت إسرائيلُ مئات المتظاهرين الفلسطينيين السلميين في مسيرات العودة الكبرى. وحتى يومنا هذا، تتحكم إسرائيل في استيراد المعدات الطبية الحيوية وغيرها من المواد ذات الأهمية لمجموعة متنوعة من القطاعات في غزة وتقيِّدها، كما تفرض قيودًا صارمة على حركة البضائع عمومًا. ومع استمرار القصف العسكري، تمكنت من تدمير البنية التحتية في غزة. ويقيد النظام الإسرائيلي إلى جانب القيود المادية حرية حركة الغزيين، ويحبسهم فعليًا في منطقة يستمر في تدميرها.

تترتب على الانقسام المستمر في القيادة الفلسطينية بين حماس وبين السلطة تداعياتٌ خطيرةٌ على سكان غزة، حيث تم الفصل كاملًا بين المؤسسات الحاكمة في غزة والضفة الغربية مع إنشاء سلطتين وحكومتين منفصلتين، وأدى الانقسام الى إضفاء الطابع المؤسسي على السياسات الحزبية، الامر الذي دمّر بشكل فعال المشروع الوطني الفلسطيني، مما قلّل من مصداقية قيادة التحرير لدى الفلسطينيين، وقلص ثقتهم في فاعلية النضال وجدواه، وخاصة بين فلسطيني غزة. وتسبب أيضًا تقسيم القيادة إلى معسكرين سلطويين في تدهور الحريات العامة والحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لسكان غزة.

غزة خلال جائحة كوفيد-19

أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة عن تسجيل أول إصابتين بفيروس كوفيد-19 بتاريخ 22 آذار/مارس 2020 لدى مسافرين عائدين من باكستان إلى غزة، وعلى إثر ذلك أعلنت الحكومة عن إغلاق الأسواق الشعبية والصالات والمساجد والمطاعم والمقاهي وغالبية المحال التجارية. وبعد قرابة الشهرين سمحت بإعادة فتح مجمل المنشآت التجارية مع مراعاة الالتزام بالتدابير الوقائية والتباعد الاجتماعي. وفي نهاية شهر آب/أغسطس ، اكتشفت وزارة الصحة أربع إصابات بالفيروس داخل المجتمع دون معرفة مصدرها وأعلنت لاحقًا عن إصابة المزيد.

على إثر الاصابات داخل المجتمع، أعلنت وزارة الداخلية حالة الطوارئ وحظر تجول لمدة يومين في غزة وشملت العزل الصحي لجميع محافظات غزة وإغلاق شامل، ثم خففت قيود الإغلاق بعدها نظرًا لحالة التصعيد العسكري الإسرائيلي وقتها والتراجع الحاد في إمدادات الكهرباء، كما لم تنظر حكومة الأمر الواقع إلى انعكاسات الإغلاق السابق وأثره على المجتمع خاصة عمال المياومة، ودون اقتراح لمساعدتهم ودعمهم ماديًا، ناهيك عن تقييد دخول المسحات الطبية للأراضي الفلسطينية من جانب الاحتلال.

ولقد تجاوز عدد المصابين بالفيروس في غزة 45,000 إصابة منذ ظهور فيروس كوفيد-19 مطلع عام 2020. ووفقاً لمحمود عبد الهادي، المختص في دراسة مؤسسات المجتمع المدني، على الرغم من تواجد عدة مبادرات إنسانية إغاثية، تمثلت في حملات مجتمعية لامركزية، وأيضًا مؤسسات مجتمع مدني ومؤسسات دولية، ووزارات تابعة لحكومة حماس وصندوق وقفة عز، إلا أن غالبية المساعدات تركزت في بداية الجائحة وداخل مراكز العزل. وأفاد عبد الهادي أن المساعدات قلّت جدًا مقارنة بالمساعدات في شهر آذار/مارس ، مما يعزز تفاقم الأزمة بتزايد عدد الإصابات التي تؤثر في قدرات الفرق الطبية وجهود إدارة الأزمة، الأمر الذي يزيد من سياسات الإغلاق ويصنع تأثيرًاً على سكان غزة.

انعكاس الانهيار على فلسطيني غزة

من الحالة اليومية التي انتقلت من مقاومة إلى عصيان مدني يمكن أن نفهم أدوار الغزيين في محاولاتهم للنجاة، حيث تمثلت ثلاثة خيارات سلوكية بفعلهم الاجتماعي وهي الانسحاب أو الاستسلام أو المواجهة، فموضوع الانسحاب هو الشخص الذي حاول تغيير واقعه واستعادة حقوقه ولكن لم يستطع ولم يملك خيارًا سواء الهروب بعد اغتيال كل آليات الفعل لديه، وفي غزة يعدّ ذلك هو السفر، ويلاحظ حقيقةً بأن هذا البعد تحديدًا هو الأعلى نسبيًا بين شباب غزة.

أمّا سلوك “الاستسلام” فهو التعايش مع واقعه دون تقبله الجزئي للوضع، وسلوك “الاستسلام” يولد شعورًا بالهزيمة والإخفاق والإدانة الذاتية من خلال رؤية بانورامية للتحوّلات بعد المحاولات التي يبتكرها الغزي خاصة الشباب، نرى أنّ الكثير منهم أصبحوا كائنات عائمة دون وجود أدنى رغبة بالحياة.

وفي خيار المواجهة يستمر الفلسطيني الغزي في التعامل مع الأمر الواقع بكل الوسائل السلمية والمسلحة أو من خلال أنشطة توعوية وخدمة المجتمع والإغاثة، ويدور بين العجز الوقتي والفعل المستمر.

زادت جائحة كوفيد-19 الأمورَ تعقيدًا، ليس فقط على صعيد الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والسياسية، وإنما على صعيد الأوضاع الاجتماعية أيضًا، والمقصود هنا هو كشف هشاشة المجتمع، حيث زاد ظهور نمط الفردية على الفلسطينيين الغزيين، كما زاد القلق والتخبط واللايقين، وفقر المشاركة السياسية والاجتماعية واندثار القيم الاجتماعية، وأحدثت الجائحة فراغًا سياسيًا عامًا، وضبابية حول القرارات الفلسطينية.

نرى أنّ الكثير من (شباب غزة) أصبحوا كائنات عائمة دون وجود أدنى رغبة بالحياة Share on X

وفي هذه الأيام، تعيش غزة ككائن مقهور ضمن ملامح “شبه حياتية” ولا تتضمن أي عوامل صمود وطنية أو لاوطنية، وصولاً إلى الانكفاء على الذات والطباع العلائقية بين المجتمع.

ببساطة أصبح الفلسطينيون في غزة يطاردهم البؤس الاجتماعي والعنف والحروب في كل شبر في حياتهم، فقد ازدادت التفاوتات الاجتماعية واخُتصرت المراتب الاجتماعية، ولم يعد للمهمشين أو المحرومين في الطبقات الدنيا أي حقوق، بل أصبحوا معلّقين.

التصدي للانهيار

مسيرات العودة الكبرى

يفتخر سكان غزة بمسيرات العودة الكبرى التي ابتدأت في عام 2018، إذ يعتبرها البعض أداةً نضالية جديدة ضد الاحتلال، وبالرغم من أن الهيئة المسؤولة عن المسيرات قررت توقيف المسيرات بتاريخ 26/12/2019 واقتصارها على المناسبات الوطنية، إلا أنها كانت فاعلية شعبية واسعة ضمّت أفرادًا وعوائل بالجملة وتأثيرها المجتمعي لا يزال ملموسًا.

اعتبرت غالبية الفلسطينيين الغزيين بأن يوم الجمعة هو الروتين الاعتيادي للذهاب إلى الحدود الشرقية المتاخمة للأرض المحتلة، وافتتاح حكايات حق العودة وفنتازيا الرجوع إلى البلاد، حيث إن ما يقرب من 70٪ من سكان غزة هم من اللاجئين النازحين داخليًا من الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1948. وفي الواقع ، سار سكان غزة أيام الجمعة للعودة إلى ديارهم.

امتازت المسيرات بسلميتها وشموليتها وكونها لاحزبية ولامركزية، بل كانت قائمة على رغبة الفلسطينيين في الحصول على حقوقهم دون المواجهة أو الاحتكاك المباشر مع جيش الاحتلال، إلا أن الاحتلال لم يفهم ذلك، فعلى مدار عامي 2018 و 2019، قتل الاحتلال 214 فلسطينيًا بينهم 46 طفلاً وأصاب أكثر من 36 ألفًا بينهم 8800 طفل. ولا يزال العديد من المصابين في حاجة ماسة إلى رعاية إعادة التأهيل.

ولكن من جانب آخر، استحالت المسيرات من أداةٍ نضالية إلى أداةِ مساومة سياسية حيث أُضيف شعار “كسر الحصار” إلى شعار المسيرات الأساسي الذي تمحور حول العودة مما مهّد للحكومة الإسرائيلية أن تعتدي على المشاركين في المسيرات، كما انسحبت بعض القوى السياسية من المسيرات مثل حركتي فتح والجبهة الديمقراطية بسبب تغيير أهدافها.

ومن الناحية السياسية، استفادت حركة حماس من نواتج المسيرات الإيجابية حيث كُشف أنها دخلت في محادثات غير معلنة مع إسرائيل حول التهدئة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، وقام السفير القطري محمد العمادي للمرة الأولى بزيارة إلى مخيمات مسيرات العودة في شرق غزة بتاريخ 9/11/2018، وكان السفير قد جاء بأموال المنحة القطرية البالغة 15 مليون دولار بعد موافقة إسرائيل على إدخالها، بهدف صرف رواتب موظفي حماس، والذي تلاها بدء تدفق الوقود لمحطة توليد الكهرباء في 10/11/2018. 

اعتمد الفلسطينيون في غزة على قيادتهم في السعي لتحقيق المصالحة السياسية وعدم مساومة الاحتلال وتبنّي مسيرات العودة لإحقاق حق العودة، ولكن سرعان ما خيّبت طموحاتهم. ويدلل سلوك حركة حماس السياسي نحو جماهير غزة في المسيرات على حالة ضياع الهوية الوطنية والتوجهات القيمية لحق العودة.

حراك “بدنا نعيش”

سئم سكان غزة من سوء الأوضاع المعيشية والأمر الواقع، فانتقلت الحياة اليومية من مقاومة إلى العصيان المدني والتمرّد، وفي هذا السياق خرجت شرارة حراك “بدنا نعيش” الذي بدأ في 14 آذار/مارس لعام 2019 بحث سكان غزة على النزول إلى الميادين العامة. كانت رمزية الحراك هي الخروج بأدوات المطبخ كدلالة على طابع الحراك، وفوجئ المشاركون بالحراك بالممارسات العنيفة من قوات الأمن التابعة لحماس التي شنَّت حملة اعتقالات لعوائل وصحفيين وحقوقيين، بل واستغلت الحراك لإطلاق مظاهرات بجانب الحراك مدعية أنها تعاني من أزمة الرواتب وعقوبات السلطة على غزة.

وبناءً على معلوماتٍ تقدّمَ بها النشطاء في حراك “بدنا نعيش،” صُدم العديد من المعتقلين أثناء تحقيق قوات الأمن معهم من سؤال متعلق بفكرة “الخيانة والعمالة” وتداول عبارة “انت ضد المقاومة!” بالرغم من تحدثهم حول البطالة والغلاء والضرائب، ولم يخرج النشطاء بالحراك ضد حركة حماس أو مع السلطة الفلسطينية، إنما لأنفسهم فقط.

يعطي رد الفعل هذا على الحراك دلالات واضحة عن كمية القمع المُمارَس على الحريات العامة لسكان غزة واختزال النشطاء المشاركين بأنهم “ضد المقاومة”. وحقيقةً، هذه مسألة عميقة على صعيد المجتمع الفلسطيني، فعند توجيه تهمة “العمالة” لناشط، ينتقل الأمر إلى المحاكم العسكرية في غزة والمصير عدمي ومجهول.

تدلّ نتائج الحراك وتداعياته على أزمة النسق الأمني في غزة، وسيادة الحكم الشمولي الذي تتبناه حركة حماس وأجهزتها، فتعطي نفسها الأحقية فوق المواطنين من باب أنها تدافع عنهم في مواجهة الاحتلال، وحقيقةً أن هذا الدافع أو القاعدة التي تحملها، صَنعت هشاشة في عامل الصمود، أي بمعنى أنها مأسسة تسيّس المقاومة وأنها فئوية وحصرية لجماعة ما. 

اللجوء إلى قنوات التواصل الاجتماعي

كأي شعب في العالم، أصبح سكان غزة يتداولون الأخبار من خلال أدوات التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك والتويتر، والتي تشمل منشورات وتغريدات تهزل بالأخبار السياسية في مزحات ونكت، وأصبح بعض سكان غزة يقودون حركات اجتماعية عفوية بدون شعارات في هذا الفضاء الشبكي.

ومع كثرة القمع لحرية التعبير أثناء ممارسة الحراكات في غزة، لجأت الجماهير في غزة إلى أدوات التواصل الاجتماعي للتشهير بالسلطات من مختلف الأطياف السياسية علنًا، فأصبح “التشهير العلني” لدى سكان غزة بمثابة سلاح رقمي توعوي وتعبير عن غضب مشترك، وحقيقة أن هذا ما نشاهده عند تعرض فتيات للعنف من قبل عوائلهم أو حالات لابتزاز مواطنين سياسيًا أو اجتماعيًا.

أطلقت مجموعةٌ من نشطاء غزيين مؤخرًا حملةً إلكترونية ضد الشركة الفلسطينية الخلوية جوال باسم “تسقط جوال” احتجاجًا على غلاء أسعار خدماتها وعدم مراعاتها لظروف غزة المحاصرة، ويدلل هذا على التمكن من الحصول على حصانة اجتماعية غير مقرونة بالسلطات، كما وتمنح هذه الوسائل تغطية المعطيات الكاملة عن حوار الشارع في غزة، وتعبير حقيقي عن حقوقهم المهمشة، وهذا من شأنه أن يعزز مؤشر البنيوية في التوازن المجتمعي والعودة إلى الحالة السابقة كجماعة مرئية، واضمحلال نمط الفردانية.

عززت الجائحة مبدأ الحركة الصهيونية 'فرق تسد' ... وساهم الانقسام الفلسطيني في رسوخ التفكك وحالة الأنومي أو 'اللامعيارية' وهشاشة المجتمع Share on X

انعدم الحراكُ الاجتماعي في الشارع بفضل الاحتجاج الإلكتروني، حيث لم تعد هناك طريقة التفافية للإفلات من القمع، ولكن من الصعب اعتبار قنوات التواصل الاجتماعية قوية، خاصة مع الاحتلال، ويجب عدم الاستغناء عن الموارد المادية والتحرك في الميادين.

كما أن الاحتجاج الإلكتروني صنعَ صبغة وصيغة خطاب جديد لغزة بعد الفراغ السياسي وعدم الرهان على التغير السياسي، ولكن سرعان ما سمح بالإغراق الثقافي الاستهلاكي وجعل هذا الملاذ الاحتجاجي إلى مول رقمي للغزيين، وهو الأكثر اهتمامًا لدى بعضهم. وساهم هذا الواقع في خلق بيئة تعاني من الخمول الثقافي والافتقار الإبداعي، وأخذت قيم الاستهلاك تسود المجتمع بدلاً من قيم العمل الاجتماعي مثل العمل التطوعي وغيره من الأعمال المنتجة، الأمر الذي يضاعف من البيئة الطاردة للمواهب والإنتاج التي خلقها الانقسام السياسي بالأساس.

صورة لمستقبل غزة

قال أحد المشاركين في لقاء تفاكري عقد في27 تشرين الثاني/نوفمبر 2020مع مجموعة من الشباب والصبايا الجامعيين الذين ولدوا في عام 2000 وفوق، حول “تحولات القيم الاجتماعية والسياسية الفلسطينية،” أن “الوطن ضيّق، وراحت علينا.” فهذا هو الجيل الذي عاش طفولته بالحروب الدامية، ووعى جميعهم على الانقسام وتدنت حرياتهم شيئًا فشيئًا، فالحاضر لديه مضطرب والمستقبل مشوّش، أو أنهم يشاهدون عالمًا مشبعًا بالإحباط والخطر والفقدان.

يمرّ سكان غزة بين عنصرية الاحتلال وعنصرية السلطة الفلسطينية وعنصرية حركة حماس، حيث عززت الجائحة مبدأ الحركة الصهيونية “فرق تسد” في جميع سياساتها وأدواتها الإحتلالية، وساهم الانقسام الفلسطيني في رسوخ التفكك وحالة الأنومي أو “اللامعيارية” وهشاشة المجتمع. ومع تداعيات جائحة كوفيد-19 زادت هذه المعادلة، وكشفت دور هذه المتغيرات الثلاثة (الاحتلال، الانقسام، كوفيد-19) في خلق حالة من الازدواجية لدى الإنسان الفلسطيني في غزة بين ما يعيشه في مجتمع يحمل الذاكرة التاريخية والهوية الوطنية وبين ما استحدثه في ظاهرة “اللايقين” لكي يعيش بسلام لحظي.

كمحاكاة اجتماعية في غزة مبسطة، لا يمكن أن نفكر سواء باعتبار غزة تمر بمرحلة انتقالية تعج بالاضطراب واللاوضوح، ولكن هذه المرحلة طالت زمنيًا وكسرت العقد، ولا نرى سواء صورة استباقية مستقبلية من تحول غزة من قضية سياسية إلى قضية إنسانية وتحور اهتمام الناس إلى المصلحة الفردية وإغفال المصلحة العامة، وكأنه صراعٌ على حق البقاء بين الضحايا أنفسهم، وهذا من شأنه أن يمزق إنسانيتهم ​​المشتركة.

ما برح الفلسطينيون في غزة يتخيلون العودة إلى بلادهم وديارهم، خاصةً بعد مسيرات العودة الكبرى، حتى إنْ لم تمتلك الأجيال الحالية الذكريات الواقعية للوطن مثل الكثير من آبائهم وأجدادهم، فكما قال غسان كنفاني “أفتش عن فلسطين الحقيقية، فلسطين التي هي أكثر من ذاكرة”. ولكن في ظل منظومة الانهيار في غزة وتقييد مصير الإنسان بالإقصاء والصدمة، أصبح ذلك الفرد قلقًا من يومه وخائفًا من غده، فلا يستطيع أن يؤسس ديمومة حياته وعيشه وعمله، وأصبح حق العودة بالنسبة له مجرد فنتازيا.

  1. لقراءة هذا النص باللغة اليونانية أو باللغة الفرنسية، اضغط/ي هنا أو هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.
يعمل علي عبد الوهاب كمحلل بيانات ومساعد تقييم ومتابعة في مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي في غزة، وهو حاصل على درجة بكالوريس في علوم الحاسوب، ومهتم...

أحدث المنشورات

 السياسة
بعد عام من المعاناة تحت وطأة العنف والدمار المستمرين ، يقف الفلسطينيون عند لحظة مفصلية. تتناول يارا هواري، في هذا التعقيب، الخسائر الهائلة التي تكبدها الشعب الفلسطيني منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 والفرص المنبثقة عنها للعمل نحو مستقبل خالٍ من القمع الاستعماري الاستيطاني. وترى أنّ الوقت قد حان الآن لكي تتحول الحركة من رد الفعل إلى تحديد أولوياتها الخاصة. وكجزء من هذا التحول، تحدد يارا ثلاث خطوات ضرورية: تجاوز التعويل على القانون الدولي، وتعميق الروابط مع الجنوب العالمي، وتخصيص الموارد لاستكشاف الرؤى الثورية لمستقبل متحرر.
Al-Shabaka Yara Hawari
يارا هواري· 22 أكتوبر 2024
منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، قتلت القوات الإسرائيلية ما يزيد عن 40,000 فلسطيني في غزة، وجرحت 100,000 آخرين، وشرَّدت كامل سكان المنطقة المحتلة تقريبًا. وفي ذات الوقت شرَعَ النظام الإسرائيلي في أكبر اجتياح للضفة الغربية منذ الانتفاضة الثانية مما أدى إلى استشهاد ما يزيد عن 600 فلسطيني واعتقال 10,900 آخرين. كما وسعت إسرائيل نطاق هجومها الإبادي الجماعي في لبنان، مما أسفر عن مقتل ما يزيد على ألف شخص ونزوح أكثر من مليون آخرين. يسلط هذا المحور السياساتي الضوء على مساعي الشبكة في الاستجابة لهذه التطورات على مدار العام الماضي، من وضع أحداث السابع من أكتوبر في سياق أوسع للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، إلى استجواب آلة الحرب الإسرائيلية متعددة الأوجه، إلى تقييم العلاقات الإقليمية المتغيرة بسرعة. هذه المجموعة من الأعمال تعكس جهد الشبكة المستمر في تقديم رؤية فورية للوضع الفلسطيني.
لا تنفك شركات الأسلحة البريطانية تتربّح من بيع الأسلحة لإسرائيل من خلال التراخيص الصادرة من الحكومة البريطانية، حيث بلغ إجمالي هذه الصادرات منذ العام 2008 ما يقدر بنحو 740 مليون دولار، وهي ما تزال مستمرة حتى في ظل الإبادة الجماعية الجارية في غزة. يشعر البعض بتفاؤل حذر إزاء احتمال فرض حظر على الأسلحة بعد فوز حزب العمال في انتخابات يوليو/تموز 2024، وبعدَ أن وعدَ بالانسجام مع القانون الدولي. في سبتمبر/أيلول 2024، علقت الحكومة البريطانية 30 ترخيصاً من أصل 350 ترخيصاً لتصدير الأسلحة إلى إسرائيل. ويرى الناشطون وجماعات حقوق الإنسان أن مثل هذا القرار محدود للغاية. وبناء على ذلك، تُفصِّل هذه المذكرة السياساتية الالتزامات القانونية الدولية الواقعة على عاتق بريطانيا وكذلك المناورات الحكومية الممكنة فيما يتصل بمبيعات الأسلحة لإسرائيل.
شهد الحموري· 15 سبتمبر 2024
Skip to content