المواضيع
طالعوا تحليلاتنا بخصوص المجتمع المدني وسُبله في رسم ملامح المشهد الثقافي والسياسي والسياساتي.
طالعوا استشرافاتنا بخصوص تغيرات المشهد السياسي وتداعياتها على فلسطين
استزيدوا معرفةً بالسياسات والممارسات التي تحدد شكل الاقتصاد الفلسطيني
تعرَّفوا أكثر على الأوضاع الفريدة التي يعيشها اللاجئون الفلسطينيون في الشرق الأوسط
التحليلات
تحليلات متعمقة للسياسات الحالية أو المتوقعة التي تؤثر في إمكانيات التحرير الفلسطيني.
رؤى ووجهات نظر حول المسائل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتعلقة بفلسطين والفلسطينيين حول العالم.
تحليلات موجزة لسياسات محددة وخلفياتها وآثارها.
تعقيبات تضم رؤى متنوعة من محللين متعددين.
تجميعات لأعمال سابقة أنجزتها الشبكة حول موضوع محدد.
مشاريع مطوَّلة ومخصصة تسعى إلى الإجابة عن أسئلة بحثية تقع خارج نطاق تحليلاتنا المعتادة.
مبادرة بحثية معنية بالسياسات أطلقتها الشبكة: شبكة السياسات الفلسطينية.
سلسلة ندوات شهرية عبر الإنترنت تجمع خبراء فلسطينيين.
متميز
اشتركوا في نشرة الشبكة البريدية الآن لتصلكم أحدث التحليلات السياساتية الفلسطينية على بريدكم الإلكتروني:
فلسطينيون في الطريق إلى دمشق
شعبٌ مؤقت
اجتهد بعض أهالي حي الخالدية الحمصي المحاصر في يومٍ حار من صيف 2011 في التعرف إلى هوية جثتين تعودان لرجلين. وكان ثمة خطبٌ غير عادي في تلكما الجثتين، حتى قياسًا بالمعايير المريعة للقتل وسفك الدماء في سوريا اليوم، حيث كانتا هيكلين عظميين يعلوهما زيٌّ عسكري بالٍ ومهترئ ويحيط بهما بعض المتعلقات الشخصية. وكانت قذيفةٌ طائشةٌ قد نبشت الأرض وكشفت عن الجثتين من ضمن ما ألحقته من أضرارٍ جانبية، إذ أدى تساقط قذائف الجيش السوري على الحي الثائر إلى إخراج الجثتين من قبرهما المؤقت غير المعلَّم. وفي نهاية المطاف، قرر الأهالي أن المتعلقات تعود بالتأكيد إلى حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، وأن الزي العسكري كان فلسطينيًا. مَثَلُ الفلسطينيين في سوريا هذه الأيام– كما معظم السوريين – كمثل هذه الهياكل المدفونة التي اجتُثَّت من جوف التغييب على حين غِرة طالبةً من يلتفت إليها.1
يقطن في سوريا نحو نصف مليون لاجئ فلسطيني وُلِد جُلّهم في ظل نظامٍ ديكتاتوري يضطهدهم ويضطهد شعبه باسم الوحدة العربية والممانعة في وجه الصهيونية والإمبريالية. وقد باعَدَ نفيُهم القسري القديم بين جغرافية حياتهم اليومية المعاشة وتلك المحبوسة في خيالهم الجمعي. فهم يعرفون شوارع حمص وحلب ودرعا ودمشق كراحة اليد بينما يرفرف علم الأمم المتحدة فوق مدارسهم المسميةِ بأسماء قراهم وبلداتهم في فلسطين.
وكما هي حال أشقائهم السوريين، يمكن تنسيب اللاجئ الفلسطيني، حالما يبلغ الصف العاشر، تلقائيًا لعضوية حزب البعث. ويحمل الفلسطينيون هوياتٍ شخصية مطابقة لتلك الخاصة بالسوريين لولا عبارة “إقامة مؤقتة” المكتوبة بالخط الأحمر على صدر الهوية. كما إن وثائق سفرهم تكاد تكون مطابقة لجواز السفر السوري لو لم تكن زرقة غلافها أفتح قليلاً من الجواز ولو لم تصرخ العبارة المذهبّة “وثيقة سفر للاجئين الفلسطينيين” في وجه حاملها بثلاث لغات. يحيا الكثير من الفلسطينيين في سوريا حياةً مؤقتة في تجمعات عمرانية مكتظة لا زالت تُسمى تجاوزًا “مخيمات”. يتابعون أخبار جنين وغزة كما لو كانت أخبارهم، رغم أنه لم يُسمح لهم أن يطؤوها قط. يُحيون ذكرى المذابح والانتصارات والهزائم الفلسطينية. ويُجبَرون على الخروج في المسيرات احتفاءً بالنظام السوري وانتصاراته. وتقيم في معظم المخيمات أذنابٌ فلسطينيةٌ للنظام، ويمقت اللاجئون اضطرارهم لطلب التصاريح من هؤلاء الأذناب لغرض الزواج أو العمل أو السفر، ولكنهم سرعان ما تعلموا المثل السوري القائل: “بوس اليد اللي بتضربك وادعي عليها بالكسر.”
تم دمج الفلسطينيين، قانونًا، على نحو حسن في النظام القضائي وهم يحظون في جل معاملاتهم بالمساواة مع السوريين. ومعظم حقوق اللاجئين الفلسطينيين مكفولةٌ بموجب تعديلات قانونية يعود تاريخها إلى ما قبل نظام البعث. وبعضها يرجع إلى التعديلات البرلمانية التي أجريت في 1956؛ ومنها ما يعود إلى الحقبة الناصرية في زمن الوحدة مع مصر مثل إصدار وثائق السفر للفلسطينيين في سوريا. ويُحسب لنظام البعث أنه لم يُبطِل تلك الحقوق حينما تولى السلطة. غير أن المنطق الكامن وراء الوضع القانوني للفلسطينيين يقوم على ما تبقى من الأبوية المتوارثة من زمنٍ نصَّبت فيه الدول العربية نفسها وصيةً على مصير الشعب الفلسطيني. ويقول هذا المنطق: ما لم يُذكَّر الفلسطينيون على الدوام بهشاشة وضعهم فإنهم سينسون أرضَهم وقضيتهم. وهكذا، فإنهم يتمتعون بمعظم الحقوق المدنية التي يمارسها أشقاؤهم السوريون، ولكنهم لا يملكون حق التصويت أو حمل جواز سفرٍ سوري. وهم مطالبون كذلك بأداء الخدمة العسكرية أسوةً بالسوريين، وهم عادةً ما يؤدون الخدمة إمّا في جيش التحرير الفلسطيني الموالي لسوريا أو في الجيش السوري.
أما على أرض الواقع، فإن نظام البعث يمارس التمييز على قدم المساواة ضد كل مَن لا يلتزم بالرواية الرسمية. ولا أحد يمتلك حقوقًا فعلية في ظل نظام استبدادي. حتى ليمكن القول إن الثورة اندلعت لأن غالبية السوريين لا يشعرون أنهم مدمَجون كما يجب في أُطر الدولة السورية.
الدكتاتورية من وجهة نظر اللاجئ الفلسطيني
إن التساوي في المعاناة السياسية لا يعني التساوي اجتماعيًا بين أصحاب المعاناة. فالسوريون يميزون ضد الفلسطينيين بطرقٍ لا تختلف عن تمييزهم ضد أبناء جلدتهم السوريين. فكل شخص في سوريا تقريبًا، كما في بقية بلدان شرق المتوسط، يعتبر نفسه البروفيسور هيغنز، أستاذ علم الصوتيات في مسرحية “پغماليون” لجورج برنارد شو والذي يستطيع أن يميز لهجة المتحدث ويحدد منبته ضمن دائرة قطرها ستة أميال. فالسوريون قادرون على اكتشاف أدق الفروق في اللهجات؛ وهم لا يحتاجون لأكثر من مَدٍ أو قَصرٍ في نطق حرفٍ صائت واحدٍ ليضعوا كليمهم تلقائيًا في خانة “الآخر.” فبالنسبة لباقي الفلسطينيين، تلونت لهجة فلسطيني سوريا باللهجة السورية إلى حد ما، غير أن السوريين يلحظون الفروق الطفيفة في لهجة هؤلاء الفلسطينيين والتي تشي بأنهم ليسوا سوريين أُصلاء (اللهم باستثناء محافظة درعا). ويمكن لتمايزات كهذه أن تسبب لصاحبها عواقب وخيمة في بلدٍ لا بد فيه من امتلاك المعارف و”الواسطات” للتعامل مع كل صغيرة وكبيرة تمسك بها أجهزة الدولة الأمنية المبثوثة في كل مكان. فكون المرء ليس من الأُصلاء يعني أن بوسعه العيش في مدينةٍ ما طوال عمره من دون أن يؤدي ذلك لاعتباره “ابن بلد” أو لأنْ يتمتع بالامتيازات الضمنيةِ المحروسةِ حراسةً وثيقةً والممنوحةِ بموجب مسميات كهذه.
إن استمرار الحكم الاستبدادي الهمجي قرابة نصف قرنٍ من الزمان يعني أن الذاكرةَ المُعاشَة ذاكرة ساخطة على النظام بسبب جرائمه ولكنها ساخطة أكثر على الذات لجُبنها من النظام وعجزها أمامه. لقد خضع معظم السوريين لعملية تدجين، ممّا يعني تسرّب الاضطهاد عبر الطبقات طبقةً طبقة، فكلٌ مُضطَهَدٌ وكلٌ لمَن هو دونه مُضطَهِد. أمّا اللاجئ فيقبع في أسفل طبقة. في مقابل كلّ فلسطيني عاملٍ ورسّام وممثل وعضو حزبي، هناك على الأقل متسربان من المدرسة محرومان وعاطلان عن العمل. وخلف كل قصة زواجٍ بين فلسطيني وسوري، هناك قصة فرارٍ أو حبٍ موؤود لأن أحد الطرفين “شقفة فلسطيني.” وهذه المشاكل هي مشاكل سورية صرفةٌ متفشيةٌ في أوساط السوريين كافة. ولا مناص من التعرض لها بالنسبة للفلسطينيين غير أنهم عادةً ما يكونون أقلَ قدرةً على المناورة والتعامل معها مقارنةً بالسوريين على اعتبار أنهم ليسوا من أهل البلد.
تُشيِّد الدكتاتورية ما يسميه السوريون “جدار الخوف.” جدار عماده الاقتصاص الوحشي على يد أجهزة الأمن أو المخابرات. وما من شيء يعجز هذا الجدار عن استيعابه، إذ يذكر أحد السجناء السياسيين السوريين في مذكراته أن زميلًا له في السجن ظل قيد الاحتجاز لأكثر من عقدٍ من الزمن بسبب حُلم حَلِمه. وهكذا، يصبح الصمت ضرورةً للحفاظ على الذات وتُضحِي اللامبالاة والخمول نهج المواطن العادي بينما تنمو طحالب الجهل على جدار الخوف.
يضطر الفلسطينيون إلى الانتقال من مدارس وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) إلى المدارس الحكومية في الصف العاشر. وأذكر أن أحدهم سألني في يومي الأول في مدرستي الثانوية الجديدة: “وهل تعود إلى فلسطين كل يوم بعد المدرسة؟” فضحكت وقلت “لا. نحن نعيش على بُعد خمس دقائق مشيًا من هنا.” واتضح لاحقًا أن منزلي كان في الواقع أقرب إلى المدرسة من منزله. فالسذاجة في سؤاله لم تكن بسبب صغر سننا في ذلك الوقت وحسب. فقد كان سوريًا، وكنت أنا على الأرجح أولَ فلسطيني يلتقيه في حياته. لقد كانت فلسطين في المخيلة الجمعية لسوريا البعث موضوعًا، وفي أحسن الأحوال، مكانًا – وإنْ كان عزيزًا على القلب – فإنه بعيدٌ دومًا عن الواقع الذي يعيشه غالبية السوريين. فلم يكن الجهل الذي نمَّ عنه سؤالُ صديقي علامةً على الجهل بالسياسة الإقليمية أو بأن جاليةً فلسطينية كبيرةً من لاجئي الجيلين الثاني والثالث كانت تعيش وسط السوريين، بل كان عَرَضًا من أعراض الحياة في ظل الدكتاتورية ألا وهو تقييد معرفة المرء بحيِّه ومدينته.
حظر الحكم الاستبدادي معظم التساؤلات، وكانت الإجابة على الأسئلة القليلة المباحة جاهزةً في جعبة الدولة. واقتضى الحكم الاستبدادي أيضًا أن يصبح المجتمع السوري المعروف بتنوعه الكبير متماثلًا ورتيبًا. وكانت المحصلة اختزالَ كلِّ ما في البلد تقريبًا في كاريكاتير نمطي. فالمدمشقيون، بالنسبة لباقي السوريين، هم أهل العاصمة الماكرون، وحمص مدينة “المجاذيب” بينما لا تُرجى زيارة حماة إلا لتذوق حلاوة الجبن، ووحدهم العلويون ينطقون القافَ قافًا ويشربون المتة. وعلى ذلك كان الفلسطينيون ضحايا بعيدين مكانيًا يُشاد بذكرهم يوميًا على شاشة التلفزيون الرسمي وفي المقررات المدرسية.
ألقت الثورة بمعظم السوريين اليوم في دهشة كبيرة. فكما حماصنة الخالدية، يحاول السوريون مشدوهين أن يستوعبوا ماهيةَ ما تكشف فجأة. لسان حالهم يُسِرُّ كيف أنهم لم يعرفوا بلداتهم أو قراهم أو جيرانهم قط، ناهيك عن الفلسطينيين المقيمين بين ظهرانيهم؟ لقد سمعوا عن أماكن مثل جرجناز وعامودة وكفرنبل لأول مرةٍ إبان أشهر الثورة السبعة عشر. أمّا الأماكن التي ظنّوا أنهم يعرفونها فهي لم تتمثل حيةً لهم إلا من خلال مقاطع الفيديو التي تعرضها قنوات الأخبار الإقليمية نقلًا عن موقع اليوتيوب.
كان لثقافة الجهل التي نشرها نظام البعث آثارٌ مدمرةٌ على المجتمع السوري بعمومه. ولمّا تناول النظامُ البعثي العلاقةَ مع الفلسطينيين، دفن كل الانتماءات التاريخية الحقيقية وصلات القرابة بين الفلسطينيين والسوريين تحت أكوامٍ من الخطابات الرسمية عن الأخوة ورفقة الدرب العربية، وهي خطابات سرعان ما غدت جوفاء خاوية من أي معنى مع مرور الزمن. وباقتران ثقافة الجهل بعنصر الخوف، تفشى انعدام الثقة بين المواطنين. ودائمًا ما تكون معاناة الأقليات المحرومة، كالأكراد والفلسطينيين، في ظل مثل هذه الظروف أشدَّ من غيرها.
زمن الثورة
تمخض الوضع المتقلقل الذي وجد الفلسطينيون أنفسهم فيه إبان الثورة السورية عن مصطلحٍ رائج هو “الحياد الإيجابي”، وهو مصطلح يحمل معاني متناقضةً ليست جديدةً تمامًا على الفلسطينيين، ويستحضر في الأذهان رواية “المتشائل” للكاتب الفلسطيني إميل حبيبي. وهي تضع الفلسطينيين أمام متناقضة المستحيل/الممكن. فالفلسطينيون، من ناحية، سوريون بحكم تجاربهم المعاشة، يتفهمون القمع الذي ثار ضده السوريون ويشعرون به لأنهم أيضًا ذاقوا مرارته. ومن ناحية أخرى، فإن وضعهم الرسمي المتمثل في كونهم من غير المواطنين، وما آل إليه مصير غيرهم من الجاليات الفلسطينية الراسخة في أعقاب اضطرابات إقليمية (في ليبيا 1990، الكويت 1991، العراق 2003، لبنان 1975، 1982، 2006) إنما يذكِّرهم بهشاشة كينونتهم. ففي ظل معارضة إسرائيل منذ عقود لإعادة هؤلاء الفلسطينيين إلى ديار أسلافهم في الجليل، يخضع هؤلاء الفلسطينيون خارج سوريا لمعاملةٍ بوصفهم عديمي الجنسية، ومعظم الدول معتادة على منعهم من الدخول إلى أراضيها.
يمكن القول، من وجهة نظر فلسطينية بحتة، إنه لطالما كان لدى الفلسطينيين سببٌ أوجَه للانتفاض على نظام الأسد مقارنةً بأشقائهم السوريين. فالنظام اضطهدهم باسم الوحدة العربية وباسم الدفاع عن قضيتهم. وبين تمادي النظام في الاستبداد والإمعان التاريخي لوكالة الأونروا في كبت أي تسييس للاجئين، لم تستطع المخيمات أن توفر ملاذًا سياسيًا للفلسطينيين، ممّا أدى إلى جمودٍ شبه تام في أي نشاط سياسي مُجدٍ داخل المجتمع الفلسطيني صاحب التاريخ الطويل في التنظيم والذي يواجه معضلات وجودية كل يوم.
ظل نظام البعث لعقودٍ يقوِّض أي خيار جذري أو عسكري متاحٍ للفلسطينيين في سوريا باسم انتظار اللحظة المواتية التي لن تحين. وبذريعة معارضة اتفاقات أوسلو، قام النظام بسورنة التمثيل السياسي الفلسطيني داخل سوريا، واختزل معظمه في نسخةٍ فلسطينية من دميته المتمثلة في الجبهة الوطنية التقدمية. وعلى غرار البرلمان السوري الذي بات ختّامًا وبصّاما على إملاءات النظام، تم تدجين الفصائل الفلسطينية في دمشق من حيث طبيعتها وتركيبتها لتستوعب الاحتياجات السياسية للنظام. وغدت شرعية هذه الفصائل في نهاية المطاف تُستمد من فائدتها الاستراتيجية الإقليمية لنظام البعث بدلًا من التمثيل المحلي الحقيقي لمِزاج العامة في شوارع وأزِقة المخيمات في حمص ودرعا وحماة. ونجح هذا التحالف بين قيادة الفصائل الفلسطينية في سوريا ونظام البعث في إبقاء الطرفين في السلطة وإحباط التطلعات التي تصبو إليها جماهير كلِّ منهما.
ظل الفلسطينيون، بوجه عام، ورقةً طائعة في يد نظام البعث يتصرف بها متى شاء وكيفما ارتأى. ففي الأسابيع الأولى من عمر الانتفاضة، سارع النظام إلى عرض روايته المعاكسة. فشرعت الناشطةُ النسوية وأستاذة الأدب سابقًا والمتحدثة الرئاسية حاليًا، بثينة شعبان، بالتخويف من الفلسطينيين (الأجانب) وإثارة مشاعر الكره لهم عند مخاطبتها الصحفيين، حيث لم تجد شعبان سوى الجالية الفلسطينية الصغيرة البائسة القاطنة في مدينة اللاذقية الساحلية للتضحية بها بوصف أفرادها دخلاء مواربين يعملون على إثارة العنف في البلاد.
ولمّا حوصر النظام بفعل الضغوط الداخلية التي فرضها المتظاهرون السلميون في الأشهر الأولى من عمر الثورة، أشار النظام إلى أحد الفصائل الفلسطينية المحسوبة عليه داخل مخيم اليرموك، وفي خطوةٍ غير مسبوقة في تاريخه الحديث، بأنه لن يقف في وجه أي مسيرةٍ متجهةٍ نحو حدودها مع الجولان المحتل. فتوافد اللاجئون الفلسطينيون العُزَّل بالمئات في الذكرى الثالثة والستين للنكبة واخترقوا السياج الحدودي. وكان إطلاق النار عليهم إجراءً متوقعًا، ولقي أربعة فلسطينيين حتفهم في مغامرةٍ إعلاميةٍ لم تنجح بعد كل ما جرى في تحسين صورة النظام المتداعي. وفي الأونة الأخيرة، حاول النظام (وفشل إلى حد بعيد) في تجنيد فلسطينيين في صفوف الشبيحة في حمص ودمشق لقمع السوريين وبني جلدتهم الفلسطينيين وتخويفهم.
فلسطين والفلسطينيون في الثورة
يمكن التصريح بأن الثورة السورية أحرزت انتصارها الثقافي حتى قبل أن ترجح كفتها عسكريًا. فحماسة الرسوم الكاريكاتورية والشعارات والمقاطع التمثيلية الهزلية التي أُنتجت إبان الثورة تبرهن على أن العقليةَ قد تحررت بالفعل من المحاكاة الببغائية للخطاب الرسمي الحزبي. ومن السمات الرئيسية التي اتسم بها الإنتاج الثقافي للمدن والبلدات والقرى السورية المحاصرة استلهامُه وتأثره بثقافة المقاومة الفلسطينية صاحبة التاريخ الطويل. فأثناء حصار حي بابا عمرو، أصبحت شعارات من قبيل “باقون ما بقي الزعتر والزيتون” و”حاصر حصارك” جزءًا ثابتًا في تقارير المجلس الثوري لمدينة حمص المبثوثة عبر سكايب. وأخذ رسامو الجرافيك السوريون في الداخل والخارج يعرضون على صفحاتهم على موقع فيسبوك أعمالًا فنيةً متضمنةً أشعارًا لمحمود درويش عن المقاومة الشعبية وفي خلفيتها صورٌ فوتوغرافية كصورة برج الساعة في مدينة حمص الذي بات رمزًا مشهورًا للثورة. واشتملت أعمالٌ فنيةٌ أخرى على رسوم كاريكاتورية لناجي العلي بعد تعديلها للتهكم على نظام البعث.2 ولعل إحدى المفارقات العديدة لهذه الثورة هو نجاح نظام البعث أخيرًا في جلب معاناة الفلسطينيين إلى داخل بيوت السوريين؛ ولكن هذه المرة على نحوٍ أكثرَ قُربًا وأشد وقعًا من نشرات الأخبار الرسمية.
وعلى أرض الواقع، وقف آلاف الفلسطينيين فرادى وجماعات على اختلاف قدراتهم إلى جانب أشقائهم السوريين في وجه النظام. وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، قُتل 150 فلسطينيًا إبان الثورة؛ ويصل العدد وفقًا لصحيفة زمان الوصل الإلكترونية إلى 300.3
ولا بد لنا عند الخوض في مسألة المشاركة الفلسطينية في الثورة أن نأخذ بعين الاعتبار وضع هؤلاء الفلسطينيين.
ثمة عاملان ما انفكا يعرقلان إجراء تقييم صادقٍ لأوضاع الفلسطينيين في سوريا وهما عامل لبنان وعامل مخيم اليرموك. فالمعاملة المقيتة والسيئة التي يلقاها الفلسطينيون في لبنان على يد الدولة اللبنانية تجعل من المخيمات المتواضعة المخدومة بتمديدات المياه وشبكات المجاري تبدو وكأنها مساكنُ مرفهةٌ. لذا فإن استخدام الظروف المعيشية للفلسطينيين في لبنان كمقياسٍ لمجتمعات اللاجئين الفلسطينيين الأخرى (أو أي لاجئين) ينطوي على قدر ليس بضئيلٍ من التضليل.
ومن الناحية الأخرى، يُعتبر النشاط التجاري في مخيم اليرموك استثناءً لقاعدة الوجود الفلسطيني في سوريا. فشوارعه الضيقة ولكن المزدهرة نسبيًا تموه مسمياته العديدة: مخيم اليرموك، حي اليرموك، ضاحية اليرموك. وتخفي أيضًا أجزاءَه الأفقر والهويات المتعددة لساكنيه. يعيش نحو 150,000 فلسطيني في مخيم اليرموك، أي أقل من نصف عدد سكانه؛ أو ربع عدد ساكنيه بحسب بعض التقديرات. أمّا باقي السكان فهم خليطٌ من السوريين المنحدرين من أنحاء أخرى من سوريا أو العاصمة دمشق، حيث وجدوا في المخيم سكنًا ميسورًا أو فرص عملٍ في أزقته وشوارعه. فقربه النسبي ووقوعه ضمن نظام المواصلات في المدينة أضفى عليه حيويةً وسمةَ التغير المستمر. وبعد العام 2003، استقبل اللاجئون القدامى لاجئين جددًا قادمين من العراق انتقلوا لاحقًا إلى السكن في مساكن أبعد وأرخص أجرًا خارج مخيم اليرموك. وظل المخيم ملاذًا آمنًا لأفواج النازحين القادمين في الآونة الأخيرة من حيي التضامن والحجر الأسود المجاورين. وما فتئ المخيم يتعرض لمحاولات من أجل عسكرته على يد أحمد جبريل، زعيم القيادة العامة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في دمشق، وطارق الخضراء، رئيس جيش التحرير الفلسطيني في سوريا، بوجه خاص وآخرين غيرهما. ولقي نحو 20 من أهل المخيم حتفهم في قصفٍ بقذائف الهاون في آب/أغسطس 2012. ونظرًا للتركيبة الاجتماعية المتنوعة لمخيم اليرموك، فإن من الصعب بمكان لفئةٍ سياسيةٍ واحدة أن تدعي ملكيته. ومن المؤكد أن حجم المخيم وأهميته السياسية سوف تزداد في الفترة القادمة.
يتركز نصف الفلسطينيين في سوريا تقريبًا في مخيمات مكتظةٍ سكانيًا لا تزيد مساحة الواحد منها على نصف كيلومتر مربعٍ تقريبًا. ومعظم هذه المخيمات معزولة (يقع مخيم النيرب على بُعد 15 دقيقة بالسيارة من مدينة حلب) وبعضها مسيَّج في بعض الحالات (تحيط أسوار جامعة البعث وأبينة مدينتها الجامعية بمخيم العائدين بحمص من جهتين). وهذا يجعل الفلسطينيين أهدافًا يسهل على القوة العسكرية الساحقة للجيش السوري استهدافها متى ما أظهروا أدنى علامات التعاطف مع الثورة كما يتضح ممّا جرى لمخيم درعا للاجئين مؤخرًا. فمنذ الأيام الأولى للثورة، لقي فلسطينيون حتفهم بينما كانوا يحاولون تهريب الغذاء والمستلزمات الطبية للسوريين المحاصرين في مدينة درعا.4 وبسبب صمود المخيم في دعم الثورة، صب الجيش السوري جام غضبه عليه. ولا يزال مخيم درعا هدفًا للتوغلات العسكرية المتكررة (حزيران/يونيو – آب/أغسطس 2012)، ويتعرض ساكنوه للاعتقال والتعذيب والإعدام دون محاكمة. أمّا ما تبقى منه فلا يزال منحازًا للثورة.
شنّ الجيش السوري في شباط/فبراير 2012 حملةً شعواءَ على حي بابا عمرو في حمص وآوى مخيم العائدين المجاور حينها المئات من أبناء الحي الفقراء المذعورين الفارين للنجاة بأرواحهم. واستقبل مشفى بيسان في المخيم، وهو المستشفى الوحيد العامل في المدينة حينها، الجرحى والمصابين القادمين من بابا عمرو وقدّم لهم العلاج، حيث خاطرَ الأطباء والممرضون في المستشفى بحياتهم لإنقاذ القادمين من حي بابا عمرو والأحياء الأخرى. وفي وقت لاحق، سلّمت الأجهزة الأمنية شبيحتها الفلسطينيين المقيمين في المخيم قائمةً بأسماء ما يزيد على 100 فلسطيني مطلوبين على خلفية تهمٍ تتراوح بين “حمل السلاح” و”معالجة المصابين.” ولا يزال هذا المخيم الصغير يقبع على شفا المدينة الممزقة ولا أحد يدري ما إذا كانت أسواره ستكون شاهدًا على بقائه أم تدميره.
البوصلة تضل الطريق إلى دمشق
الثورة السورية هي واحدة من أبرز القضايا الخلافية التي تواجه الفلسطينيين منذ توقيع اتفاقات أوسلو. ويكمن جزء من المشكلة في افتراض أن الفضل الثوري (الحقيقي أو المتصَور/العسكري أو الخطابي) من الحقبة الماضية يمكن أن يُضفي شرعيةً على أفعالٍ يتعذر تبريرها. وعلاوةً على ذلك، نجحت توليفةٌ عجيبةٌ قوامها الإعلام السوري الرسمي، والطائفية الضمنية بين دول المنطقة والصريحة داخل سوريا، بالإضافة إلى المصالح الدولية في إلقاء ظلال الشك والريبة على كفاحٍ عادل من أجل الحرية. فكانت سوريا خصمًا غير تقليدي وغير ملائم. فمن ناحية، نفَضَ بعض الفلسطينيين المقيمين في دمشق الغبارَ عن بوصلاتهم الثورية العتيقة وأعلنوا أن فلسطين هي القطب. فالصديق هو مَن أشار باتجاهها؛ وأعداؤه هم حتمًا أعداء الفلسطينيين. ومن ناحية أخرى، قدّمت سوريا، بالنسبة لساسة رام الله، فرصةً نادرةً ومجانية لإحراز نقاط ثورية دون الحاجة إلى نفض الغبار عن أسلحتهم الثورية. ويستند كلا الطرفين في موقفهما إلى مصالح سياسيةٍ آنيةٍ جليةٍ.
إن سقطات بعض المثقفين الفلسطينيين المتواجدين خارج سوريا ولا سيما ضمن الحدود (الفكرية والفعلية) للإمبراطورية الغربية تعتبر خطيرةً جدًا وإنْ كان تأثيرها هامشيًا. فبالنسبة لأولئك المثقفين، يمكن لمناهضة الإمبريالية أن تفوق بأحقيتها وأولويتها مشاريع مناهِضةً أساسيةً أخرى يعتبرها أصحابها أكثر أهميةً. وحين تعتبر تلك الشريحة النضالَ من أجل الكرامة والحرية في سوريا أقلَ قيمةً من النضال ضد الإمبريالية، فإنها تخفق في فهم وتحليل ما يزيد على 60 عامًا من التاريخ المعقد لسوريا ما بعد الاستقلال. وفي الوقت الذي يصرف هؤلاء الأكاديميون جل جهدهم ووقتهم في نقد مظاهر تعميم القيم الأخلاقية الذي تمارسه المؤسسات الأكاديمية الأمريكية والأوروبية على باقي المعمورة، تجدهم يقعون في الزلة ذاتها عندما يعمِّمون غريمهم الأبرز (الإمبراطورية الغربية) على أنه الخصم الأول والأهم للجميع. وإلى أنْ يقتنع الثوار السوريون بوجهة نظر أولئك المثقفين، فسيبقى وعيهم مزيفًا، ونضالهم عقيمًا، ودماؤهم بخسة.
وعود من العاصفة
يذوق فلسطينيو سوريا مرارة اللجوء مجددًا في الأردن ولبنان. وثائق سفرهم السورية خارج سوريا لا قيمة لها. هم يتساءلون كيف أن الأقدمية، وإنْ كانت حسنةً تُرجى في أحوالٍ أخرى، لا تجلب في اللجوء سوى مزيدٍ من البلوى وسوء المعاملة بدلًا من الاحترام والتفهم. يتساءلون عن السبب في منح أشقائهم السوريين اللاجئين حرية الحركة في الأردن، على الأقل في بادئ الأمر، بينما يُحتجَزون هم في معسكر إقامة جبريةٍ بائس يُسمى “سايبر سيتي.”5 ويتساءلون أيضًا “هل سيتذكر سوريو الغد مرارة اللجوء؟”
وبينما تتهدم الدولة السورية على نفسها وينمسخ النظام الحاكم ميليشيا ماحقةً (انظر التقرير الأخير لمجموعة الأزمات الدولية)، فإن الفلسطينيين مقبلون على المصير المبهم نفسه الذي ينتظر سوريا. فهم، وإنْ نجحوا لغاية الآن في مواجهة التصنيف الطائفي المتنامي وفي الوقوف إلى جانب الثورة بقدر الإمكان، لن يستطيعوا في نهاية المطاف الاستمرارَ على موقفهم المتمثل في “الحياد الإيجابي” وسيتعين على هذا الحياد أن يتخذ نبرةً إيجابيةً أعلى. فهل سيظل موقفهم إيجابيًا؟ أم هل سيخضع للسرونة أو يصبح طائفيًا أو مسلحًا؟ تعتمد الإجابة إلى حدٍ بعيد على ما إذا كانت الثورة ستنجح في إسقاط الميليشيا صاحبة القوة الجوية. وإذا نجحت الثورة في ذلك، فكم من الأهداف السامية المعلنة سيصمد بعد الصفقات التي تبرمها الثورة على طول الطريق المؤدية إلى القصر المتربع على جبل قاسيون؟
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=461233163907984&set=a.205022496195720.49356.204979942866642&type=1&theater
https://docs.google.com/file/d/0B7KDBYy7Jj2HQ3JaUUZXR3VFZU0/edit
http://www.trust.org/trustlaw/news/jordan-bias-at-the-syrian-border/
أحمد دياب
أحدث المنشورات
عودة ترامب وتداعياتها على النضال الفلسطيني
تصور جديد لفلسطين بعد عام من الإبادة الجماعية
محور سياساتي: عام من الإبادة الجماعية في غزة
نحن نبني شبكةً من أجل التحرير.
ونحن نعمل جاهدين، باعتبارنا المؤسسة الفكرية الفلسطينية العالمية الوحيدة، للاستجابة للتطورات السريعة المؤثرة في الفلسطينيين، بينما نحافظ على التزامنا بتسليط الضوء على القضايا التي قد يتم تجاهلها لولا تركيزنا عليها.