Hawari_Image_Apr_2024 - 3

يستند هذا التعقيب إلى حلقة من حلقات بودكاست فلسطين بفكرٍ جديد، والتي بثتها الشبكة بتاريخ 27 أيار/مايو 2024. يمكن الاستماع إلى الحوار الكامل بالنقر هنا. يرجى ملاحظة أن الحلقة متاحة باللغة الانجليزية فقط.

في نيسان/أبريل 2024، نصبَ طلابٌ في جامعة كولومبيا خيامًا داخل الحرم الجامعي تضامنًا مع الشعب الفلسطيني – وبخاصةٍ أهل غزة الذي يتعرضون لإبادة جماعية.  كانت مطالبهم من إدارة الجامعة بسيطة: أن تُفصحَ الجامعة عن استثماراتها وأن تسحبَ الاستثمارات من الشركات المتواطئة في قمع الفلسطينيين. وسرعان ما انتشرت اعتصاماتٌ مماثلة في الخيام في كليات وجامعات في الولايات المتحدة، وفي كندا والمملكة المتحدة وأوروبا. 

وعلى الرغم من أن اعتصامات الخيام غير مسبوقة في سياق التضامن مع فلسطين، إلا أنها امتدادٌ لإرثٍ طويل من التعبئة الطلابية في الولايات المتحدة ضد الحرب والإمبريالية. ويواجه هؤلاء الطلاب اليوم، كما واجه أسلافهم في السابق، قمعًا وحشيًا من إدارات الجامعات، ومن القوى الأمنية والسياسية، حيث يتعرض المئات من الطلاب وأعضاء هيئات التدريس للإصابات والاعتقال وحتى الإيقاف عن العمل أو الدراسة في مؤسساتهم. ويواجهون حملات تشهيرية في وسائل إعلامية وعلى يد محرضين لتشويه سمعة الاحتجاجات والقائمين عليها.

يتناول هذا التعقيب هذه الموجة الجديدة من التعبئة الطلابية. ويعرضُ تفاصيل المطالب الطلابية ويُنزِلها في سياق الإرث التاريخي للتنظيم الطلابي في الولايات المتحدة. ويتناولُ التعقيبُ أيضًا العلاقةَ بين الإداريين في الجامعات والطلاب وأعضاء هيئة التدريس، ويرى بارقةَ أمل في التقارب الناشئ بين المجموعتين الأخيرتين في هذه اللحظة الفاصلة. 

المطالب الطلابية: الإفصاح وسحب الاستثمارات

في الولايات المتحدة تاريخٌ طويل من النشاط الطلابي، ولا سيما في الجامعات. فقد تجلت التعبئة الطلابية سابقًا في زمن حركة الحقوق المدنية، وحرب فيتنام، والحركة المناهضة للفصل العنصري، وحرب العراق. في كل حالةٍ من تلك الحالات، اتخذت التعبئة مسارًا مشابهًا: قوبل الناشطون الطلابيون في البداية بإدانةٍ من مديري الجامعات وردودِ فعلٍ عنيفة من الشرطة. وفي الوقت نفسه، أخذَ تأثير تحركات الطلاب ومطالبهم يشحذُ لغة الإدانة المتزايدة تجاه الولايات المتحدة وحلفائها الجيوسياسيين. وبعد سنوات، عادت الجامعات ذاتها التي سَعَت إلى كبت تلك التعبئة لتحتفيَ بطلابها السابقين، وتعترفَ بشجاعتهم، وتدعيَ بأن الزمن قد تغير منذ ذلك الحين وأن الجامعات أصبحت الآن أماكن آمنة للتنظيم القائم على العدالة.

تحقق الجامعات في الولايات المتحدة أرباحًا لاستدامة عملياتها التشغيلية من خلال استثمار ملايين الدولارات - إنْ لم يكن المليارات - في الشركات التي تدعم الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي والقمع الفلسطيني مباشرةً Share on X

امتدادًا لجهود التعبئة السابقة تلك، تتمحور جهود التنظيم الطلابي اليوم حول تواطؤ الولايات المتحدة في الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة. ويُنادي الطلاب من خلال الاحتجاجات واعتصامات الخيام بمطلبين أساسيين من جامعاتهم – ألا وهما الإفصاح وسحب الاستثمارات. ولاستيعاب تأثير هذه التعبئة وإمكاناتها، لا بد بدايةً من فهم الأساس الكامن وراء دعواتها.

تمتلك العديد من الكليات والجامعات في الولايات المتحدة وقفيات مكرسة للمساعدة في تمويل تكاليفها التشغيلية الأساسية. وتختلف تلك الوقفيات من حيث قيمتها، فتمتلك جامعة هارفارد، مثلًا، أكبر وقفية بإجمالي يصل إلى 50 مليار دولار تقريبًا. وتزيد قيمة أكبر 15 وقفًية جامعية مجتمعة عن 315 مليار دولار. والمهم في الأمر أن هذه الوقفيات تُستدام من خلال الاستثمار في الأسهم ورأس المال وغيرها من الأدوات. وترفدُ بعض هذه الاستثمارات مباشرةً الشركات التي تساعد في دعم البنية التحتية للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، بما فيها شركة تصنيع الأسلحة لوكهيد مارتن، وشركة التكنولوجيا هيوليت باكارد إنتربرايز، وشركة الاتصالات موتورولا سولوشنز. وعلى سبيل المثال، زوَّدت شركة لوكهيد مارتن إسرائيلَ بصواريخ هيلفاير وطائرات نقل، بالإضافة إلى طائرات مقاتلة من طراز إف-16 وإف-35 أثناء الإبادة الجماعية في غزة. وما انفكت شركةُ هيوليت باكارد تزوِّدُ الحكومةَ الإسرائيلية لسنوات بأنظمة مختلفة تمكِّن وزاراتها من مراقبة الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة وتخزين معلوماتهم. وفي الوقت نفسه، ما تزال موتورولا سولوشنز المورد الوحيد لتقنية اتصالات الجيل الرابع للجيش الإسرائيلي، وصمَّمت في السابق نموذجًا فريدًا لهاتف ذكي للجيش الإسرائيلي.

بالتالي، فإن الجامعات في الولايات المتحدة تحقق أرباحًا لاستدامة عملياتها التشغيلية من خلال استثمار ملايين الدولارات – إنْ لم يكن المليارات – في الشركات التي تدعم الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي والقمع الفلسطيني مباشرةً. وبناءً على ذلك، يدعو الطلاب مؤسساتهم الأكاديمية إلى سحب استثماراتها من تلك الشركات ووضع استراتيجيات استثمار تنسجم مع القيم المعلنة للجامعات.

يُعدُّ هذا المطلب جزءًا من تاريخ طويل من العمل الطلابي الداعي إلى سحب الاستثمارات والذي انتشر على نطاق واسع إبان الحركة المناهضة للفصل العنصري في عقدي السبعينات والثمانينات، حيث دعا الطلاب آنذاك إلى أن تتحرر الجامعات من إثم جنوب إفريقيا بقطع علاقاتها المالية بالشركات المنخرطة في أعمال تجارية مع نظام الفصل العنصري. وبفضل الحركة، أقدمت 155 كلية وجامعة في الولايات المتحدة وكندا على سحبِ استثماراتها من جنوب إفريقيا بين عامي 1977 و1988. وتجاوزَ تأثيرها الكليات والجامعات ليطالَ مباشرةً عملية صنع القرار في شركات أمريكية، فعلَّقت شركتا جنرال إلكتريك وبيبسيكو عملياتهما في جنوب إفريقيا حتى زالَ الفصلُ العنصري. وهكذا، أثبتت جهود سحب الاستثمارات فعاليتها منذ ما يقرب من خمسين عامًا.

مطلبا الطلاب بالإفصاح وسحب الاستثمارات يسيران يدًا بيد، حيث يجب على الجامعات أولاً أن تفصحَ عن استثماراتها أمام الملأ، ثم يجب عليها أن تسحبَ استثماراتها من تلك المتورطة مباشرةً في انتهاكات حقوق الإنسان Share on X

يقوم مطلب سحب الاستثمارات أيضًا على النداء الذي أطلقته حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، وهي إطارٌ تنظيمي تتنامى مكانته في الخطاب العام السائد. وقد اتسع انتشار الحركة كثيرًا في السنوات الأخيرة بفضل الأصوات الفلسطينية القوية في المجال العام، ولا سيما على منصات التواصل الاجتماعي. ويُعدُّ هذا تحولًا كبيرًا عمَا كانت عليه الحال في العقود الماضية، حيث كان يعلو صوت المناصرين غير الفلسطينيين على حساب تهميش الخبراء والمحللين الفلسطينيين. فضلًا على أن وحشية الإبادة الجماعية في غزة دفعت الكثيرين إلى المجازفة؛ فما كان يبدو وكأنه مجازفة مهولة في الماضي – سواء على الحياة المهنية أو السمعة أو السلامة – صار يبدو الآن ضروريًا في ظل ما يتعرض له الفلسطينيون. ويأتي هذا برغم حملات القمع المحلية والولائية والاتحادية العديدة ضد نشاط حركة المقاطعة، بما فيها سن تشريعات في 38 ولاية لمعاقبة المقاطعين. وبِتنا اليوم نشهد فلسطينيين وأمريكيين من أصولٍ فلسطينية يقودون هذه الجهود التنظيمية ويجازفون، ونرى الطلاب ماضين قِدمًا في هذا العمل الحاسم.

غير أنه لا تزال هناك عقبةٌ رئيسية أمام فاعلية هذه الدعوة، ألا وهي أنّ جلّ استثمارات الكليات والجامعات هي استثمارات خاصة. أي أنّ المؤسسات الأكاديمية ترفض عمومًا الإفصاح عن محافظها الاستثمارية؛ ويطبق العديد منها أسسًا مختلفة لإيواء الأرباح وإدارة الاستثمارات، وذلك لكي تنأى الجامعة عن التزاماتها المالية. وهكذا فإن الطلاب وأعضاء هيئة التدريس عاجزون عن المطالبة فعليًا بسحب الاستثمارات. ولهذا السبب تُعَد الدعوة إلى الإفصاح مطلبًا محوريًا في الانتفاضة الطلابية الحالية. فالشفافية المالية مبدأ ديمقراطي أساسي يجب أن تلتزم به جميع مؤسسات التعليم العالي، ولا سيما الجامعات العامة.

لذا فإن مطلبي الطلاب بالإفصاح وسحب الاستثمارات يسيران يدًا بيد، حيث يجب على الجامعات أولاً أن تفصح عن استثماراتها أمام الملأ، ثم يجب عليها أن تسحبَ استثماراتها من تلك الشركات المتورطة مباشرةً في انتهاكات حقوق الإنسان الأساسية.   

اعتصامات الخيام الطلابية: مساحات للمقاومة وبناء المستقبل

تكشف اعتصامات الخيام الطلابية عددًا من الحقائق حول الإدارات الجامعية. أولاً، تَعدُّ تلك الإدارات نفسَها القيِّم الوحيد على تلك المؤسسات، بمعزلٍ عن أعضاء هيئة التدريس والموظفين والطلاب. ويتجلى ذلك في إعلانها من جانب واحد بأن مساحات الاحتجاج غير قانونية، وفي استدعاء قوات الشرطة لإزالتها. ومن خلال بث التهديد بالعنف – أو استخدام العنف فعلًا في بعض الأحيان – تفرض الإدارات الجامعية سلطَتها كنقيض لسلطة الطلاب. وهذا يُرسِّخ علاقةً بين الطرفين مبنيةً على المطالبة بالامتثال وعلى العقاب في حال الامتناع.

يتفاعل الطلاب مع الرعب الاستثنائي باستجابة استثنائية - من خلال المطالبة بالمساءلة من مؤسساتهم ومن خلال وضع التصورات لملامح العالم البديل والعادل Share on X

بالرغم من ذلك، لا بد أن نتذكر بأن الإدارة ليست رديفًا للجامعة نفسها لأن الجامعة تتكون من كوكبة من المجموعات، بما فيها الطلاب وأعضاء هيئة التدريس والموظفين. ولكل فئة من هذه الفئات نصيبٌ ومصلحة في المؤسسة، وينبغي إذن لكلٍ منها أن تشارك وأن يكون لها تمثيل في إدارتها. وهذا بالضبط مطلبُ الطلاب: دورٌ مباشر في اتخاذ القرارات الاستثمارية، وتحديد القيم أو الأخلاقيات التي ينبغي أن تسترشد بها تلك القرارات. فمن حق الطلاب أن يشعروا بإحساس متبادل بالانتماء والقرابة مع الجامعة – أي أن يشعروا بانتمائهم إليها، وأنها ملكٌ لهم. وينطبق الشيء عينه على سائر مكونات الجامعات والكليات، وتُعدُّ المشاركة في صنع القرار المؤسسي جزءًا أساسيًا في هذه العملية.

كشفت اعتصامات الخيام الطلابية أيضًا عن ردود الأفعال المتناقضة في الجامعات تجاه الإبادة الجماعية الفلسطينية في غزة. ففي حين ترغب العديد من إدارات الجامعات في مواصلة العمل كالمعتاد وتجاهل تواطؤها، يتفاعل الطلاب مع الرعب الاستثنائي باستجابة استثنائية – من خلال المطالبة بالمساءلة من مؤسساتهم ومن خلال وضع التصورات لملامح العالم البديل والعادل. تُذكرنا اعتصامات الخيام من الخارج بمخيمات اللاجئين التي ظهرت في غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023. وفي داخلها، يعكف الطلبة على إقامة مساحات تطلعية شاملة للكافة وتشاركية وآمنة للجميع. وكسابقاتها، تزخر هذه المساحات بتبادل المهارات وموارد التعليم الشعبي، المتجذرة في روح بناء المجتمع والتحرر. وبهذه الطريقة، يرفع الطلاب سقف ما هو ممكن في الحرم الجامعي.

أدت التعبئة الطلابية الأخيرة أيضًا إلى تحفيز أعضاء هيئة التدريس والموظفين بالجامعات، وتعزيز التحالف بين هذه الفئات، ولربما يكون له تأثير دائم يتجاوز المفاوضات الحالية. وفي هذا الصدد، يحرص الكثيرون من أعضاء هيئات التدريس على دعم الطلاب من خلال المساعدة في عمليات التفاوض، ونقل الخبرة التاريخية، وتوفير الحماية الجسدية (كما تجلى في السلاسل البشرية العديدة التي شكلتها هيئات التدريس حول الطلاب المتظاهرين). وفي هذه الأوقات نتذكر بأن دور الأستاذ الجامعي لا يقتصر على الشق التربوي والتعليمي؛ بل ينطوي أيضًا على توفير بيئة ترعى الطلاب وتحميهم لكي يزدهروا فكريًا وعاطفيًا – ويتطلب ذلك في بعض الأحيان، لسوء الحظ، الوقوف بينهم وبين قوات الشرطة العنيفة. في هذه الأوقات وفي هذه المساحات، تتبدل علاقة السلطة بين الطلاب وأعضاء هيئة التدريس؛ حيث نقدم ما في وسعنا حين يُطلب منا فقط، وننزِلُ عند إرشادات المنظمين وتوجيهاتهم. والأهم من ذلك هو أننا، كأعضاء هيئة تدريس، نظل نستمد الإلهام من هؤلاء الطلبة وندين لهم إذ يواصلون إرثًا طويلًا من صنع التغيير نحو العدالة.

العضو السياساتي للشبكة سامر العطعوط أستاذٌ مشارك في قسم المجتمع وعلم الاجتماع البيئي وفي معهد نيلسون للدراسات البيئية بجامعة ويسكونسن في ماديسون. له منشورات عديدة في...
في هذه المقالة

أحدث المنشورات

 السياسة, المجتمع المدني
في ظل حرب الإبادة على غزة، والمخاوف الصهيونية من تكرار سيناريو هبة أيار في الداخل الفلسطيني المحتل، صعدت حكومة الاحتلال من قمعها للفلسطينيين في الداخل حيث اعتقلت المئات تحت ذرائع مختلفة. صاحب ذلك كله ازدياد ملحوظ في الرقابة وتجريم المحتوى الفلسطيني على المنصات الرقمية وإطلاق حملات تحريض وشيطنة ممنهجة ضد الفلسطينيين سواء على المستوى الصهيوني الرسمي أو الاجتماعي. ما الذي يفسر ضعف التحرك السياسي والاجتماعي في الداخل منذ السابع من أكتوبر مقارنة بهبة أيار؟ وكيف يمكننا كفلسطينيين في الداخل والضفة الغربية من تعميق التعاون مع بعض لمساندة غزة؟
في مختبر السياسات هذا، تنضم نور جودة وكايلي برودريك إلى المضيف طارق كيني الشوا لمناقشة بعض الدروس الأساسية التي يمكن استخلاصها من مخيمات الطلاب الأمريكيين وكيف يمكننا البناء عليها بشكل أفضل لتعزيز حركة التضامن مع فلسطين والمضي قدمًا.
 السياسة
باشرت القيادة المركزية الأمريكية يوم الجمعة 17 أيار/مايو 2024 تشغيلَ الرصيف المؤقت قبالة سواحل قطاع غزة. ومنذ الإعلان عن المشروع، أعربَ الكثيرون عن شكوكهم حول مدى فاعلية الرصيف وعن تخوفهم إزاء الخطط الأمريكية بعيدة الأجل ودور الرصيف في خدمة الأهداف الإسرائيلية. يتناول هذا التعقيب العمليات الجارية عبر الرصيف ويحلل دوافع الفاعلين الجيوسياسيين الرئيسيين من وراء بنائه. ويضعُ الرصيفَ في سياق استراتيجية إسرائيل بعيدة الأجل بشأن فلسطين، حيث يتخذ من الرصيف مدخلًا لفهم أهداف النظام الإسرائيلي الإقليمية الأشمل. وبغض عمّا إذا كان الرصيف مؤقتًا أم دائمًا، يرى الكاتب أنه لا ينبغي النظر إلى الرصيف باعتباره جهدًا إنسانيًا محضًا وقصير الأجل، وإنما كدلالة لاستمرار المساعي الإمبريالية والاستعمارية الأمريكية والإسرائيلية.
Skip to content