تُسلِّط الكثير من منظمات المجتمع المدني الضوءَ على دورِ السياحة في شرعنة السرقات الإسرائيلية لأراضي الضفة الغربية أو تعزيزها، بيد أن منظماتٍ قليلةً تُبين كيف أن استثمارات السلطة الفلسطينية في مجال السياحة يمكن أيضًا أن تقوِّض المطالَبات الفلسطينية بتقرير المصير. فاستثمارات السلطة في رام الله، ولا سيما في المباني والنُصُب التذكارية الحكومية، تُرسِّخ الأجندة الإسرائيلية الرامية إلى إنكار حق الفلسطينيين في إقامة عاصمتهم في القدس.1
ما انفك الفلسطينيون طوال تاريخهم الاستعماري يؤكدون رسميًا بأن القدس هي عاصمة فلسطين. وبالرغم من أن السلطة الفلسطينية تُعرب عن هذا الموقف في مناسبات متكررة، إلا أنها تركز الكثيرَ من استثماراتها في رام الله، المقر الإداري المؤقت للسلطة الفلسطينية. ورغم افتقارها إلى الولاية القانونية على القدس الشرقية، فإن استثماراتها في رام الله تطمس هذا الوضع المؤقت. فالمواقع التي شُيِّدت تخليدًا لمواقفَ مفصلية في التاريخ الوطني، مثل النُصُب التذكارية، وكذلك تركُّز مقار الهيئات الحكومية ذات الهيبة المعمارية توحي في عمومها على أن رام الله هي المدينة العاصمة. وفي هذا الصدد، تقول الأكاديمية والمخطِّطة الحضرية الفلسطينية أنوار جابر إن “متناقضة رام الله كمركزٍ حكومي” وكموئلٍ لهذه الاستثمارات يمكن أن يتعارض مع الرؤية الوطنية الفلسطينية إزاء القدس.2
متناقضة رام الله
يُطلَق على المقر الحالي للسلطة الفلسطينية اسم المقاطعة، ويقع في مركز مدينة رام الله. كان المبنى في أربعينات العقد الماضي سجنًا بريطانيًا، ثم تحول إلى مجمَّع عسكري إبان فترة الحكم الأردني، ثم حولته السلطات الإسرائيلية إلى سجنٍ وقاعدةٍ عسكرية في أعقاب 1967، ثم سلمته إلى السلطة الفلسطينية بعد إبرام اتفاقات أوسلو في 1994. وأثناء الانتفاضة الثانية، حاصر الجيشُ الإسرائيلي الرئيسَ الفلسطيني ياسر عرفات في المقاطعة، وتهدَّم جزء كبير من المجمَّع. وفي 2004، دُفن عرفات في المقاطعة بعدما رفض رئيسُ الوزارء الإسرائيلي آنذاك، آرييل شارون، تحقيق رغبته بأن يُدفَن في القدس. وقامت السلطة الفلسطينية لاحقًا ببناء نصب تذكاري ومتحف في المقاطعة، ما أضفى على المكان أهميةً وطنيةً مادية.
تتكامل الاستثمارات الحكومية الرامية إلى تطوير رام الله مع الرؤية الفياضية النيوليبرالية تجاه بناء الدولة، نسبةً إلى رئيس الوزارء الأسبق سلام فياض، الذي أدار أثناء ولايته الممتدة بين 2007 و2013 مجموعةً من هذه المشاريع. وهناك الكثيرون ممن ينتقدون السياسة الفياضية بسبب اللامساواة التي نشرتها، وحيز الحرية الذي أوهمت الفلسطينيين بوجوده في رام الله، بأساليبَ عدةٍ كان من بينها جذب القطاع الخاص للاستثمار في المؤسسات الثقافية، حيث افتُتحت منذ 2007 في المدينة خمسةُ متاحفَ جديدةٍ على الأقل، ومواقعُ عديدةٌ أخرى ذات أهميةٍ ثقافية. وفي الوقت نفسه، كانت السلطات الإسرائيلية تُغلق المؤسسات الثقافية الفلسطينية في القدس الشرقية.
تُعد رام الله أيضًا من المدن الفلسطينية القليلة التي يستطيع السائحون زيارتها ضمن رحلات ترعاها جهات صهيونية تهدف إلى إظهار “الصراع” من منظور “ثنائي الجانب.” غير أن الازدهارَ الظاهر على رام الله نتيجة الاستثمارات الاقتصادية والثقافية الوطنية الواسعة النطاق والذي يرسمُ صورةً ورديةً لزائري المدينة يقترن في الواقع بالتنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والجيش الإسرائيلي، وليس ممكنًا بدونه، إلى درجة أن إسرائيل تفرض على الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن يحصل على إذن عسكري منها للسفر.
استثمارات السلطة الفلسطينية المادية في رام الله تُرسِّخ الأجندة الإسرائيلية التي تُنكر حقَّ الفلسطينيين في إقامة عاصمةٍ في القدس Share on X
وعلاوةً على ذلك، وبالرغم من صلاحيات السيطرة المدنية والعسكرية الممنوحة للسلطة الفلسطينية في رام الله، الواقعة ضمن المنطقة (أ) بموجب اتفاقات أوسلو، إلا أن الجيش الإسرائيلي يُنفذ في أحيانٍ كثيرة مداهماتٍ ليليةً واعتقالاتٍ جماعيةً مفاجئة في المدينة تبدد الوهم باستثنائية رام الله من سياق الاحتلال الإسرائيلي الأوسع. وهكذا يمكن أن يُنظر إلى السلطة الفلسطينية، في أقل تقدير، كشريكٍ ضمني في القمع الإسرائيلي الواقع على الحقوق الفلسطينية وتقرير المصير.
وفي الوقت ذاته، تُنشئ الاستثمارات المادية الاقتصادية والحكومية والثقافية في رام الله “وقائعَ على الأرض” يمكن أن تطغى على مطالبات الفلسطينيين بإقامة عاصمتهم في القدس، فثمة آثارٌ كُبرى لتلك الاستثمارات على الشكل المستقبلي للدولة التي ستشمل الفلسطينيين. تنص صفقة القرن التي يسميها ترامب “خطة سلام” على توفير 50 مليار دولار للأقتصاد الفلسطيني إذا وافق القادة الفلسطينيون على بنود الصفقة المُذلَّة التي تشترط التنازل عن أراضٍ أكثر لإسرئيل والتخلي عن الدعوى الفلسطينية المرفوعة أمام المحكمة الجنائية الدولية ضد جرائم الحرب الإسرائيلية. وتهدف تلك الاستثمارات حسب المقترحات إلى دعم الاقتصاد فقط في المناطق الفلسطينية التي ستسمح إسرائيل والولايات المتحدة بوجودها وبتنميتها بموجب الخطة.
وفي حين تدَّعي الخطة، مثلًا، إقامةَ عاصمةٍ فلسطينية على أجزاءَ من القدس الشرقية مقطَّعةٍ أصلًا بجدار الفصل الإسرائيلي، فإنها تُعطي لإسرائيل المدينةَ القديمةَ والمسجدَ الأقصى، قلب القدس الشرقية الذي تعدهُ السلطةُ الفلسطينية عاصمتها والذي يضم منازل مئات الألوف من المقدسيين الفلسطينيين. وهكذا، فإن الاستثمارات المعروضة على السلطة الفلسطينية في مقترح ترامب تسعى إلى النيل من مطالبات الفلسطينيين الشرعية بأرضهم، ولا سيما القدس.
وبالرغم من أن السلطة الفلسطينية ترفض الخطة علانية، إلا أن استثماراتها التي ترتقي بمنزلة رام الله إلى أكثر من كونها قاعدةً حكومية مؤقتة وتستديم التنسيق الأمني مع إسرائيل تقوِّض موقف السلطة الرافض، تمامًا مثلما ظل التنسيقُ الأمني يقوِّض السيادةَ الفلسطينية منذ اتفاقات أوسلو وطوال مرحلة التطوير الحضري لرام الله.
توصيات سياساتية
- ينبغي للمجتمع المدني الفلسطيني، في إطار تصوره وتخطيطه للدولة المستقبلية التي ينعُم فيها بالحرية وتقرير المصير والسيطرة على مواقع الذاكرة الجمعية، أن يُسائل الحكومة الفلسطينية عن دور استثماراتها في تقويض الإجماع الفلسطيني بشأن القدس.
- ينبغي للمجتمع المدني الفلسطيني أن يدعو إلى إقامة مواقع للذاكرة الجمعية ومؤشرات على التنمية في القدس الشرقية، ولا سيما في ظل تضافر جهود إسرائيل ومجموعات المستوطنين للاستيلاء على المزيد من الأراضي هناك.
- ينبغي لمنظمات المجتمع المدني الراغبة في التضامن مع تقرير المصير الفلسطيني أن تنظر بعينٍ ناقدة إلى السياحة في رام الله باعتبارها عاصمة فلسطينية مزيفة، وأن تدركَ في الوقت نفسه أهمية دعم المصالح التجارية الفلسطينية في المدينة.
- ينبغي للمنظمات المتضامنة مع فلسطين أن تخصِّص جهودًا وموارد منسَّقة لدعم المساعي المبذولة في القدس الشرقية إلى المحافظة على المكان ودعم صمود سكان المدينة الفلسطينيين الأصليين.
- لقراءة هذا النص باللغة الفرنسية، اضغط/ي هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.
- تستند هذه المذكرة إلى أعمال الأكاديمية والمعمارية والمخططة الحضرية الفلسطينية، أنوار جابر، وأطروحتها لنيل درجة الدكتوراه في الهندسة المعمارية من جامعة كامبريدج، بالإضافة إلى مقابلة شخصية معها. وفكرة “متناقضة رام الله” مستعارةٌ كذلك من أعمال ليزا تراكي.