صفقة القرن.. معضلة غزة وأُمنية رابين
لم تكن صرخة رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اسحق رابين، بأن يبتلع البحر غزة، مجرد أمنية عفوية أطلقها في فورة غضب، من عناد غزة وما لعبته في افشال السياسات الإسرائيلية التي بدأت قبل احتلالها في العام 1967.
غزة كانت، وما زالت، رأس الحربة في مواجهة كافة المخططات التي رسمت لتصفية القضية الفلسطينية مبكراً ، وهذا يعود إلي ثلاثة محددات رئيسية، الاول أنها واقعة جغرافيا في منطقة تقاطع نيران ما بين الأمن القومي المصري الذي يبدأ من جبال الخليل بحسب دراسات الأمن القومي المصري، و"الأمن القومي الإسرائيلي" الذي يبدأ من قناة السويس بحسب دراسات الأمن القومي الإسرائيلي ، وبالتالي فإن هذه المساحة الشاسعة تقع في وسطها غزة، أما الثاني فيتمثل في كون غزة فقيرة الموارد، كثيفة السكان، والثالث يتجسد في كون أغلب سكان القطاع هم من اللاجئين الذي طردوا وشردوا من أرضهم خلال عمليات التطهير العرقي التي مارستها العصابات الصهيونية آنذاك، إذ يشكل اللاجئون في القطاع ما نسبته 75%، من إجمالي عدد السكان، يضاف لذلك خاصية تميز اللاجئ الفلسطيني في غزة عن بقية أقرانه من اللاجئين الفلسطينيين في أنه يستطيع أن يرى قراه التي هجر منها بالعين المجردة، وهو ما يجعل مسألة الهوية والكيانية حاضرة بقوة في الضمير والوجدان لدى الفلسطيني في غزة.
هذه المحددات دفعت غزة لأن تأخذ منذ البداية زمام المبادرة في المقاومة والنضال في التاريخ الفلسطيني المعاصر. فمن غزة أعلن قيام حكومة عموم فلسطين في نهاية أربعينات القرن الماضي، وعلى أرضها كانت بداية تشكيل منظمة التحرير عقب زيارة أحمد الشقيري لها وخطابه هناك، ومنها كانت بدايات تشكيل أغلب فصائل الكفاح المسلح في ستينات القرن الماضي.
وتاريخياً، وقفت غزة سداً منيعاً بجماهيرها في وجه مشاريع التوطين ومقترحات التسوية في خمسينات القرن الماضي، وكان لمعين بسيسو ورفاقه من اليساريين والوطنين الدور الأبرز في التصدي لمشروع التوطين في سيناء.
حاولت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ عام 1967، وعلى مدار عشرين عاماً، حتى اندلاع انتفاضة الحجارة في العام 1987، تطويع غزة وسكانها من خلال استراتيجية الجسور المفتوحة التي انتهجها الساسة في إسرائيل. وعملت اسرائيل من خلال هذه الاستراتيجية إلى تخفيض نسبة العداء بين الفلسطينيين والاحتلال إلى أدنى درجاته، وتوظيف أشكال من التطبيع الاقتصادي من خلال فتح أسواق العمل الإسرائيلية أمام الفلسطينيون لبناء علاقات اجتماعية هدفها في نهاية المطاف إيهام الفلسطيني بحتمية الرضا والقبول بواقع الاحتلال والتعايش معه.