مقدمة
تسببت الإبادة الجماعية التي يرتكبها النظام الإسرائيلي بحق الفلسطينيين في غزة بدمارٍ واسع النطاق في القطاع المحاصر. وأودى القصف المكثَّف بحياة آلاف الفلسطينيين، وشرَّدَ ما يزيد على مليون آخرين. أمّا مَن نجى منهم لغاية الآن، فمعظمهم بلا كهرباء أو ما يكفي من الماء والغذاء. وتُشير التقديرات إلى أنّ قرابة نصف بنايات غزة قد تضررت أو تدمرت. ويؤكدُ الفلسطينيون مجددًا بأن لا مكان آمنًا في غزة، وأنّ هذه الهجمة الإسرائيلية الحالية ليست سوى الأخيرة من محاولات التطهير العرقي التي بدأتها منذ ما يزيد على 75 عامًا خلت.1
يتجاوز هذا المسعى حدودَ غزة، إذ شرَّدت إسرائيل في الضفة الغربية أكثر من 82 عائلة فلسطينية في المنطقة (ج) منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، واعتقلت أكثر من 2000 فلسطيني في الفترة نفسها. وأخذ المستوطنون الإسرائيليون المسلحون في الضفة الغربية يوزعون منشورات تُنذر الفلسطينيين بنكبة وشيكة أكبر، بينما قُتل ما يزيد على 130 فلسطيني على يد الجنود والمستوطنين الإسرائيليين.
لم يمر كل ذلك مرور الكرام، حيث يعكف الفلسطينيون في الشتات والمتضامنون مع النضال من أجل التحرير على التعبئة، فخرجَ مئات الآلاف احتجاجًا في مدنٍ عدة من لندن إلى بغداد وغيرهما. وأدان أكاديميون وطلاب ونقابات عمالية وغيرهم الكثيرون الإبادةَ الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين، وأحيانًا على حساب وظائفهم أو مقاعدهم الجامعية، أو تمويل منظماتهم. لقد بلغ التضامن مستوى غير مسبوق، ويدل على تحوِّل الوعي العالمي المتزايدة معارضته للمشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي.
وفي خضم هذا الوضع الطاحن وهذه اللحظة الحاسمة، يُناقش أعضاء الشبكة، طارق كيني الشوا وفتحي نمر ويارا هواري وعلاء الترتير، مجريات الأحداث منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، ويضعونها في سياق الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي المستمر والمقاومة الفلسطينية.
عملية لم تأت من فراغ
طارق كيني الشوا
اخترقت كتائب القسام – الجناح المسلح لحركة حماس – في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، الحاجز العسكري المنيع في ظاهره والذي يحبس الفلسطينيين في غزة منذ ما يزيد على 16 عامًا.
نفذت الكتائب عمليةً دقيقة تغلبت فيها على الدفاعات الإسرائيلية، وسلبت قواعدها العسكرية، وسيطرت لفترة وجيزة على مستوطنات إسرائيلية عدة. قُتل ما يزيد على 1300 إسرائيلي إبان الهجوم، بمن فيهم جنودٌ ومدنيون، وأخذ المقاتلون الفلسطينيون أكثر من 200 رهينة إلى غزة.
لقد كانت العملية المسماة بعملية طوفان الأقصى غير مسبوقة بالفعل. غير أن تصنيفها بأنها “غير مبررة” – وهو المصطلح الذي أسرع إلى تبنيه حلفاء إسرائيل في الغرب وتردد صداه في وسائل الإعلام الرئيسية عندهم – يعكس محاولةً متعمدةً للتستر على الظروف القاسية التي حتمت وقوع هذا الرد العنيف.
الشاب البالغ من العمر 23 عامًا في غزة شهِدَ حتى اليوم ست عمليات عسكرية إسرائيلية كبرى، ومقتل أكثر من 14000 إنسان من أبناء مجتمعه بسبب الهجمات الإسرائيلية Share on X
غزة من أكثر الأماكن اكتظاظًا بالسكان على وجه الأرض، وكثيرًا ما توصف بأنها أكبر سجن مفتوح في العالم. يعيش في قطاع غزة ما ينوف على 2.2 مليون نسمة، معظمهم من اللاجئين الذين أجبرتهم الميليشيات الإسرائيلية الوحشية على الفرار من ديارهم في عام 1948. سيطرت إسرائيل سيطرةً تامة على القطاع في عام 1967، وحصرت سكانه في قطعة أرض معزولة عن سائر فلسطين والعالم. وبسبب المقاومة الفلسطينية المستمرة، انسحبت إسرائيل من غزة في 2005، وضربت عليه حصارًا خانقًا استمر منذ ذلك الحين.
يعيش الفلسطينيون في غزة حالةً مستمرة من الاستفزازات والانتهاكات في ظل الحصار الإسرائيلي الذي يأتي بعد عقود من الاحتلال الاستعماري. الشاب البالغ من العمر 23 عامًا في غزة قد شهِدَ حتى اليوم ست عمليات عسكرية إسرائيلية كبرى، ومقتل أكثر من 14000 إنسان من أبناء مجتمعه بسبب الهجمات الإسرائيلية. وتسببت تلك العمليات بتأثير نفسي مدمر، ولا سيما عند الأطفال، الذين يشكلون قرابة نصف سكان غزة، حيث يعاني 9 من كل 10 أطفال في غزة صدمات نفسية منهكة ناجمة عن الصراع. ولم يغادر معظمهم القطاع قط بسبب القيود الصارمة التي تفرضها إسرائيل ومصر، التي تحدُّ غزة من الجنوب.
في الأشهر الستة الأولى من عام 2023 فقط، حُرم زهاء 400 طفل في غزة تصاريحَ السفر إلى الضفة الغربية لتلقي الرعاية الصحية الضرورية، ما أدى إلى وفاة الكثيرين منهم. وفي الفترة بين عامي 2007 و2010، اتبعت السلطات الإسرائيلية معادلة حساب السعرات الحرارية لاحتياجات الفلسطينيين الغذائية في غزة لضمان حصولهم على الحد الأدنى فقط الذي يُجنِّبهم المجاعة. وأدت الهجمات الإسرائيلية المتكررة إلى تدمير البنية التحتية في غزة، وبات التيار الكهربائي يصل إلى السكان بما لا يزيد عن 13 ساعة يوميًا. وفي الوقت نفسه، يعاني نصف السكان تقريبًا من البطالة التي تتجاوز نسبتها في أوساط الشباب 70%.
لا يملك الفلسطينيون في غزة سبيلًا سياسيًا وهم يتعرضون للعقاب لأنهم تجرأوا على مقاومة سجنهم. وإبان مسيرة العودة الكبرى في عام 2018، على سبيل المثال، قتلت القوات الإسرائيلية 223 متظاهرًا، وشوهت آلافًا آخرين أثناء مطالبتهم بحقهم في العودة وإنهاء الحصار. وكان الرد الساحق على الاحتجاجات دليلًا آخرًا على أن المسألة لم تكمن يومًا في أسلوب المقاومة، وإنما في حقيقة أن الفلسطينيين تجرأوا أصلًا على مقاومة ما يتعرضون له من قمع.
وفي حين أن الأسباب المباشرة التي ساقتها حماس لتبرير عمليتها تمثلت في الاجتياحات الإسرائيلية للمسجد الأقصى وإرهاب المستوطنين ضد الفلسطينيين في مختلف أنحاء الضفة الغربية، فإن الاستفزازات الحقيقية أعمق من ذلك بكثير. لقد كان حجم عملية طوفان الأقصى مفاجئًا للكثيرين، ولكنه رد فعل متوقع من شعبٍ لم يعرف سوى أهوال التطهير العرقي والإبادة الجماعية والحكم الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي طوال حياته. والحقيقة تستحق التكرار: لقد أدرك فلسطينيون كُثُر أن النظام الإسرائيلي لا يفهم سوى لغة العنف والقوة. وما دام الفلسطينيون يعيشون حالةً مستمرة من القمع والاستفزاز، فإن المقاومة المسلحة ستظل أمرًا محتومًا.
دور المجتمع الدولي في إبادة الفلسطينيين
فتحي نمر
اتَّبعَ النظامُ الإسرائيلي ومجتمع المانحين الدوليين لسنوات مقاربة “إدارة الصراع” في تعاملهم مع الفلسطينيين. تتخلى هذه المقاربة عن التظاهر بالسعي إلى التوصل إلى حلٍ سياسي، وتركز في المقابل على استدامة “أمن” النظام الإسرائيلي و”مكافأة” الفلسطينيين بحوافز اقتصادية محدودة. وبهذا يستمر الاحتلال الاستعماري بلا هوادة؛ وما دام الفلسطينيون يتحملون وطأة العنف، فإن الوضع الراهن سيُعدُّ مستدامًا.
أَغدقت الدولُ الغربية والهيئات المتعددة الأطراف على الفلسطينيين المساعدات التنموية غير السياسية التي تُعِين فعليًا الاحتلال والحصار الإسرائيلي وتعفي النظام الإسرائيلي من التزاماته بموجب القانون الدولي. وقامت تلك الجهات نفسها بتسليح أجهزة أمن السلطة الفلسطينية وتدريبها ومساندتها في قمعها الوحشي لشعبها خدمةً للوضع الراهن لأجل غير مسمى.
بسبب هذه الحقائق، لا يمكننا أن نتحدث عن المجتمع الدولي باعتباره متواطئًا وحسب في قمع الفلسطينيين، بل باعتباره مشاركًا نشطًا في الاستعمار الصهيوني لفلسطين Share on X
لقد ظلّ موقف الغرب ثابتًا بغض النظر عن تحرك الفلسطينيين أو عدم تحركهم. فعندما يستخدم الفلسطينيون الوسائل غير عنيفة، مثل المقاطعة والمسِيرات، فإن الغرب يشيطنُ جهودهم ويدينها، وفي الآخر يتجاهلها. وعلى العكس من ذلك، فإن تصرفات النظام الإسرائيلي مهما بلغت من الخسة والانحطاط، كإمطار أحياء سكنية بالفسفور الأبيض وحرق قرى فلسطينية، تحظى بمكافآت سخية وحماية من أي عواقب ملموسة.
ومع ذلك لا يكتفي المجتمع الدولي بحماية النظام الإسرائيلي من العواقب، بل يسعى لترسيخ المشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي في المنطقة من خلال سلسلة من معاهدات التطبيع، التي قادتها أولاً إدارة ترامب ثم استكملتها إدارة بايدن. ومن الجدير بالذكر أن تلك المعاهدات لا تتضمن أي التزام تجاه تعزيز الحقوق الفلسطينية، وقطعًا ليس تجاه التحرير. وهكذا انضمت العديد من الدول العربية، بما فيها المغرب والإمارات العربية المتحدة والبحرين، إلى الغرب في التخلي عن النضال الفلسطيني من أجل مصلحتها الاقتصادية الخاصة.
بسبب هذه الحقائق، لا يمكننا أن نتحدث عن المجتمع الدولي باعتباره متواطئًا وحسب في قمع الفلسطينيين، بل باعتباره مشاركًا نشطًا في الاستعمار الصهيوني لفلسطين، بما في ذلك الإبادة الجماعية التي ترتكب حاليًا في غزة. لقد تجرأ النظام الإسرائيلي على فعل ما يشاء بسبب عقود من الإفلات من العقاب، حيث يعلم أنه لن يواجه أي عواقب على الفظائع التي يرتكبها. ومصداق ذلك أنه لم تكن ثمة مقاومة حقيقية للتطهير العرقي في غزة، بل على العكس من ذلك، صدرت بيانات تضامن من دول عديدة تؤكد حق إسرائيل في قطع المياه والكهرباء عن الأراضي المحاصرة وذبح الفلسطينيين بحرية.
لقد أثبتت عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حماس أن النضال الفلسطيني لا يمكن ترويضه بالأساليب الفاشلة التي يتبعها النظام الإسرائيلي، حيث كشفت للعالم ما يعلمه الكثير من الفلسطينيين منذ زمن بعيد، ألا وهو أن المساعدات الدولية ليست بديلاً عن التحرير؛ وأن الوضع الراهن المتمثل في الاحتلال والفصل العنصري غير قابل للاستدامة؛ وأن الفلسطينيين لن يموتوا بهدوء وهم ينتظرون من العالم أن يتذكر وجودهم. للفلسطينيين، كسائر الشعوب المستعمرة، الحق الأصيل في التحرر من القيود والحدود الاستعمارية، بغض النظر عن اعتراضات النظام الدولي المعني بتجريدهم من ممتلكاتهم.
ولاء الغرب التفوقي العنصري الأبيض للنظام الإسرائيلي
يارا هواري
يشعر الكثيرون في هذه اللحظة من الاستعمار المستمر لفلسطين بالرعب والحزن العميق، وبالغضب الشديد أيضًا الذي أثاره الردُ الغربي المتمثل في دعمه الثابت للنظام الإسرائيلي، وتحريضه على الحرب، وتشجيعه المبتهج لقصف غزة.
فتارةً زَعم كاذبًا زعيم حزب العمال البريطاني والمحامي السابق في مجال حقوق الإنسان، كير ستارمر، أن للنظام الإسرائيلي الحق في حرمان الفلسطينيين في غزة من المياه والكهرباء على إثر عملية حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر. وفي تارةٍ أخرى، وقفت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إلى جانب الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ إظهارًا لتضامنها، وأعلنت أن “لإسرائيل الحق والواجب في الرد على أعمال الحرب التي شنتها حماس” في الوقت الذي كان فيه الجيش الإسرائيلي يقصف الفلسطينيين الفارين من شمال غزة. وبالمثل، تعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن بولائه الراسخ للنظام الإسرائيلي، حتى إنه سرَّع إرسال شحنات من الذخيرة للمساعدة في حملة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزة.
لقد ضاعفَ هؤلاء الفاعلون المتنفذون عالميًا ولاءهم للمشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي في خضم الخطاب العنصري السافر المجرِّد من الإنسانية الذي تنشره القيادة الإسرائيلية حاليًا. وعلى سبيل المثال، أشار وزير الدفاع، يوآف غالانت، إلى الفلسطينيين بأنهم “حيوانات بشرية“، بينما دعا ساسة ووزراء إسرائيليون آخرون علنًا إلى التطهير العرقي. يظهر مقطع فيديو نُشر يوم 13 تشرين الأول /أكتوبر أحد قدامى المحاربين الإسرائيليين الذين شاركوا في مذبحة دير ياسين عام 1948، وهو يشجع الجنود على “محو ذاكرة” الفلسطينيين وعائلاتهم. وبعد مرور عشرة أيام على الهجوم الإسرائيلي، وصف حساب نتنياهو على موقع X الهجوم بأنه “صراع بين أبناء النور وأبناء الظلام، بين الإنسانية وشريعة الغاب” (وقد حُذف هذا المنشور لاحقًا).
إن الاستعارات الحيوانية واستعارات النور في مقابل الشر متجذرةٌ بعمق في مذهب التفوق الأبيض الذي يرى في الفلسطينيين في أحسن الأحوال مخلوقاتٍ يجب ذبحها وفي أسوأ الأحوال منابع للشر المتأصل. لم يجد هذا الخطاب معارضةً تُذكَر من القيادات الغربية أو وسائلها الإعلامية الرئيسية، بل وجد مَن يردده من السياسيين كتبرير لانتهاكات القانون الدولي. وحتى مَنْ يُسمَون بالحلفاء يُصرِّون على إدامة روايات مُجحفة وعنصرية تعمل على إخفاء التفاوت الهائل في القوة بين المستعمِر والمستعمَر، وتجعل قيمة الحياة الإسرائيلية أغلى بكثير من حياة الفلسطينيين. وفي جميع الأحوال، فإن التفوق الأبيض هو العامل المؤثر.
إن الاستعارات الحيوانية واستعارات النور في مقابل الشر متجذرةٌ بعمق في مذهب التفوق الأبيض الذي يرى في الفلسطينيين في أحسن الأحوال مخلوقاتٍ يجب ذبحها وفي أسوأ الأحوال منابع للشر المتأصل Share on X
تجدر الإشارة إلى وجود عددٍ قليل من الشخصيات السياسية في الغرب وقفوا في وجه هذا الخطاب اللاإنساني، ومنهم القائمة بأعمال وزير الحقوق الاجتماعية الإسباني، أيوني بيلارا، التي اتهمت النظام الإسرائيلي بالتخطيط للإبادة الجماعية وطالبت بتقديم نتنياهو إلى المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب. وأيضًا النائب المحافظ في المملكة المتحدة، كريسبين بلانت، الذي أصدرَ مذكرةً بنيته محاكمة مسؤولين بريطانيين، بمن فيهم ستارمر، بتهمة التواطؤ في جرائم الحرب الإسرائيلية. ومع ذلك، فإن مقيدات القانون الدولي الذي تستند إليه هذه الاعتراضات أوضح من أي وقت مضى – ليس فقط بسبب افتقار أقوى الدول إلى الإرادة السياسية لمحاسبة إسرائيل، بل أيضًا لأن القانون الدولي نفسه لا يتصدى للسبب الجذري للعنف، ألا وهو الاستعمار الاستيطاني الصهيوني.
سوف يتم التوصل في نهاية المطاف إلى وقف إطلاق النار، وسيتوقف مطر القنابل على غزة، وربما يُرفع الحصار، بل وربما يُحاكَمُ مجرمو الحرب الإسرائيليون. ومع ذلك لن ينال الفلسطينيون الحرية. قد يكون هذا كافيًا بالنسبة إلى بعض حلفائنا، لكنه لن يرضي الفلسطينيين. لذا فإن هذه اللحظة الصعبة هي أيضًا لحظة مفصلية في نضال التحرر الفلسطيني إذ تتطلب الإصرار على أن إفهام الغير بأن نضالنا ليس نضالًا مناهضًا للاستعمار وحسب، بل مناهضٌ للعنصرية أيضًا. يجب على الفلسطينيين أن يوطِّنوا نضالَهم مع نضالات المجتمعات الأخرى التي تقاتل ضد الاستعمار الاستيطاني والتفوق الأبيض، اللذين تقوم عليهما العديد من البلدان والأيديولوجيات والمؤسسات الدولية على حدٍ سواء.
اختراق الحواجز الاستعمارية
علاء الترتير
لا يكتفي استعمار الشعوب الأصلية والسكان الأصليين بحصرهم مكانيًا، بل يحصرهم نفسيًا أيضًا. إنّ القمع والقهر الاستعماري المستمر ومحاولات المحو تعيد توجيه طاقات المناضلين من أجل التحرر إلى اللحظة الراهنة، وتعوق القدرة على تصور أشكال المستقبل البديل.
لقد كان اختراق الجدار الاستعماري الإسرائيلي الذي يطوِّق غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر لحظةً مفصلية في النضال الفلسطيني من أجل التحرير، حيث كان بمثابة تحدٍ مهول للتفاوت في القوة بين النظام الإسرائيلي المستعمِر، والشعب الفلسطيني المستعمَر. وأعطى لمحةً للكيفية التي قد يتسنى من خلالها إعادة رسم الخرائط وتحديد المناطق الجغرافية في عملية النضال من أجل التحرير، والكيفية التي يمكن من خلالها تغيير الوضع الراهن المُجحف. والأهم من ذلك أنها لبرهة جعلت ما كان مستحيلًا تصوره في السابق أمرًا ممكنًا – وهو أن الحدود التي يفرضها النظام الإسرائيلي ضعيفة وزائلة، مثل النظام نفسه.
ظلت الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية والجهات الفاعلة الأجنبية المهيمنة تحدد لِما يزيد على ثلاثين عامًا حدودَ الإمكانيات والمخيلة الفلسطينية. فجرَّموا المقاومة الفلسطينية بجميع أشكالها، وفي الوقت نفسه صرفوا انتباه الفلسطينيين إلى قضايا هامشية، من بيروقراطيةٍ متضخمة إلى حكمٍ استبدادي. نشأ الكثير من تلك الأمور التي حولت انتباه الفلسطينيين بسبب اتفاقات أوسلو لعام 1993 التي فَرضَت بالقوة الجبرية إطارًا وَعَدَ بإقامة دولة للفلسطينيين، ولكنه في الواقع حرمهم حقوقَهم الأساسية والتحرر الجمعي.
بالرغم من أن النتائج البعيدة لهذه اللحظة لا تزال مجهولة، إلا أن من الواضح تمامًا أن الافتراضات الراسخة حول الهيمنة المستمرة منذ عقود لهذه الجهات قد اهتزت. فما عادت فكرة إبقاء الفلسطينيين وإدارتهم تحت الحصار والاحتلال العسكري إلى أجل غير مسمى أمرًا مسلَّمًا به. إنَّ هذا التحول في الديناميات الاستعمارية أمرٌ مهم، لأسباب ليس أقلها الشعور بالأمل الذي يغرسه في نفوس الفلسطينيين برغم آلامنا المتصاعدة ومعاناتنا المتزايدة بسبب الفظائع التي يرتكبها النظام الإسرائيلي.
وعلى الرغم من أن هذه اللحظة غير مسبوقة من نواحٍ عدة – بما في ذلك عواقبها العنيفة – إلا أن علينا أن نعي أيضًا بأن هذه اللحظة لم تأت من فراغ ولم تكن حادثةً معزولة. بل هي أحدَثُ تحرِّك في سلسلة طويلة من التحركات التي تحدت المشروع الاستعماري على مدى السنوات الخمس والسبعين الماضية. ومن أمثلة تلك التحركات في السنوات القليلة الماضية انتفاضة الوحدة، والفرار من سجن جلبوع، وإضرابات السجناء عن الطعام، وحملة إنقاذ حي الشيخ جراح، وحتى سلسلة التقارير التي تدين الفصل العنصري الإسرائيلي، وهذه التحركات المقاوِمة سلسلةٌ مترابطة تشكِّل فهمنا لِما تنطوي عليه مواجهة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي بجميع مستوياته.
ما عادت فكرة إبقاء الفلسطينيين وإدارتهم تحت الحصار والاحتلال العسكري إلى أجل غير مسمى أمرًا مسلَّمًا به Share on X
وعلى الرغم من استمرار الجدل النقدي حول التكتيكات المستخدمة في بعض هذه التحركات داخل المجتمع الفلسطيني، إلا أن كل واحدة منها تُسهِمُ بلا شك في توسيع مخيلة السكان الأصليين فيما يتعلق بالنضال ضد الاستعمار. وفي حين أن النظامَ الإسرائيلي وحلفاءه دأبوا على تقليص الحدود الفلسطينية وتقليص إمكانية العودة، فإن هذه المقاومة تُذكرنا بأن جميع الحواجز – سواء جدران السجون أو الحدود الجغرافية أو الحدود النفسية – مرنة ويمكن تدميرها في نهاية المطاف.
وبالطبع، كل هذا يأتي على وقْع الدمار الشامل في غزة، حيث قتل الجيش الإسرائيلي الآلاف وأصاب أعدادًا متزايدة من الجرحى. إن حجمَ الضرر والدمار لا يمكن استيعابه، وسيتعين على الفلسطينيين – ولا سيما القاطنين في غزة – أن يواجهوا عواقب حملة الإبادة الجماعية الأخيرة التي ينفذها النظام الإسرائيلي لسنوات قادمة. وبينما نعمل على إعادة كتابة ما نحن قادرون عليه، يجب ألا نغفل عن قوة هذا التحول في النموذج القائم، ويجب علينا استخدامه كمدخَل لإعادة تصور ملامح المستقبل الخالي من الاستعمار.
- لقراءة هذا النص باللغة الفرنسية اضغط/ي هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.