نظرة عامة
عقدت الشبكة نقاشًا على مائدة مستديرة يتناول ورقة الموقف التي كتبتها نورا عريقات بعنوان “البحث عن قيادة ذات استراتيجية تتجاوز المفاوضات العقيمة.” وفيه، يتحاور مستشارو الشبكة لشؤون السياسيات والمشارِكة الضيف على الشبكة، لبنى قطامي، حول اللجنة الوطنية للمقاطعة، وقضيتي التمثيل وتقرير المصير، والظرف الاستعماري، ومستقبل الصراع. يفتتح حيد عيد النقاش بانتقاد الكاتبة لإغفالها الدور البارز الذي تضطلع به الحركات الإسلامية في سكرتاريا اللجنة الوطنية للمقاطعة. وينتقد أيضًا اللجنة الوطنية للمقاطعة لأنها لا تنتقد علنًا سياسات منظمة التحرير الفلسطينية التي تحيد عن مبادئ اللجنة، كقرار منظمة التحرير لصالح المشاركة في مفاوضات عمان المنعقدة مؤخرًا. أمّا سماح سبعاوي، فتقول إن تطلع الفلسطينيين إلى تقرير مصيرهم يمكن تحقيقه ضمن سياق نداء المقاطعة، مشيرةً إلى أن تقرير المصير لا يقدم برنامجًا سياسيًا محددًا ولا يُملي نتيجةً نهائية. وفي المقابل، تعزو لبنى قطامي السبب الأكبر الكامن وراء معضلات النضال المقيِّدة للشعب الفلسطيني إلى العجز عن إعادة تصور التاريخ الذي انتهى بهذا الشعب إلى هذه الحال. وتقول إنه “لن يسعنا، إلا بدراسةِ هذا التاريخ، أن نفهم الكيفية والسبب في تعرّض نضالنا من أجل التحرير إلى الاحتكار، والاختطاف، والتخريب، والاختزال في مناقشات حول القيادة الشرعية، والتمثيل، والمفاوضات على مناطق لا تشكل سوى جزءٍ يسيرٍ من أرض فلسطين التاريخية وتستبعد الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني.”
وفي الردّ على هذه المداخلات، تشير نورا عريقات إلى أن المشاركين أساؤوا فهم ورقتها ولم يتطرقوا إلى شواغلها التي تتعلق بتشتت الجسم الوطني الفلسطيني والإخفاق في بلورة رؤية سياسية للتوصل إلى حل. وتقول إنه ينبغي للفلسطينيين أن يتبنوا حل الدولة الواحدة كرؤيةٍ سياسيةٍ ترمي إلى تحقيق المساواة بين الجميع بغض النظر عن هوياتهم القومية والإثنية والدينية والعرقية.
حيدر عيد
لا شك أن مقالة نورا عريقات تحث على التفكير العميق الناقد البناء الموجه للقيادة الفلسطينية اليمينية العلمانية. وتتطرق أيضًا إلى غياب برنامج سياسي للجنة الوطنية للمقاطعة، كما تتناول حركات الشتات المختلفة التي تحاول أن تملأ فراغ غياب منظمة التحرير وإحلالها بالجسم الهلامي الغريب للسلطة الوطنية الفلسطينية. وأنا أتفق مع هذا التوصيف، ولكن المقال يتجنب، وبشكل واضح، بروز التيار الإسلامي، ممثلا بحركة حماس والأداء الانتخابي المميز لها! ولا يوجد أي محاولة، في المقال، للإجابة عن أسباب تنامي هذا التيار على الرغم من تمثيله في سكرتاريا اللجنة الوطنية للمقاطعة ضمن هيئة العمل الوطني والإسلامي! المقالة تجنبت وبشكل كامل طرح أسئلة حول هذا الموضوع على الرغم من أهميته القصوى في السياق النضالي.
ولا شك أن المأخذ في بداية المقالة على العودة للمفاوضات، أو ما أسميه محاولة “إحياء أوسلو”، وتجاوب السلطة الوطنية الفلسطينية مع مطلب الرباعية المنحازة دون لبس لإسرائيل، التي لم تنفذ تعهدها في وقف الاستيطان، يأتي في سياق نهج محدد متبع منذ فترة زمنية يبرز فيها عام 1993 كنقطة تحول نحو عملية تراكمية أدت في المحصلة النهائية إلى ما وصلنا إليه اليوم.
وفي هذا السياق، ومن منطلق النقد الذاتي الذي يجب علينا كنشطاء مقاطعة أن نمارسه، وفي إطار الأسئلة التي طرحتها نورا، هل لقاء عمان المنعقد بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية/السلطة الوطنية الفلسطينية هو محاولة لإعادة تسويق اتفاقيات أوسلو، ولكن بثوب جديد هذه المرة؟ وهل يعتبر ذلك “تطبيعًا”، تبعا للتعريف المجمع عليه وطنيًا والذي صاغته اللجنة الوطنية للمقاطعة؟ ولماذا تتجنب اللجنة اتخاذ موقف واضح من هذه المفاوضات العبثية والتي تتعارض، حرفيا، مع كل ما تمثله اللجنة؟ فكيف تطالب الجميع بعدم التطبيع وفي الوقت نفسه تتجنب اتخاذ موقف واضح هجومي من العودة إلى المفاوضات؟ أليست السلطة الوطنية تجسيدا ملموسا للتطبيع؟ وهل هذا هو ثمن المحافظة على بقاء التيار السياسي الذي ينتمي له المفاوضون في إطار اللجنة الوطنية للمقاطعة؟ وهل لا تتناقض العودة للمفاوضات مع الموقف الرسمي المتقدم جدا الذي أبدته حركة فتح قبل أسبوعين في بيان واضح عن موقفها من التطبيع؟ وما هو موقف حركة فتح؟ هل هو ذلك الذي يعبر عنه أعضاء اللجنة المركزية الذين توجهوا للحوار في عمان؟ أم هو موقف ممثل الحركة في اللجنة الوطنية للمقاطعة؟
ولا شك أن التوتر الذي تطرقت له نورا والمنبثق من افتقار اللجنة الوطنية للمقاطعة إلى برنامج سياسي وتركيزها على برنامج حقوقي جدير بالنقاش في إطار سكرتاريا اللجنة. ولكن النقطة المثيرة للاستغراب هي فصل نورا بين تحالفات الشتات واللجنة الوطنية مع إغفال أن الأخيرة هي المرجعية لحركات المقاطعة الدولية، والتلميح، من الممكن عن غير مقصود، أن هناك توترا بين “الداخل والخارج”. وأنا أعتقد أن المقارنة الجيدة مع التجربة الجنوب أفريقية تناست دور الجبهة الديمقراطية المتحدة والتي تواجدت على الأرض مع وجود تمثيل لحزب المؤتمر الوطني وباقي الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، بالضبط مثل اللجنة الوطنية للمقاطعة. وقد اعتمدت الجبهة على عمودين رئيسين للنضال، من ضمن أربعة أعمدة، ألا وهي التعبئة الجماهيرية وحملة المقاطعة. ويشهد التاريخ أن هذا النهج قد ساهم بشكل هائل في إنهاء نظام التفرقة العنصرية. وفي تصوري أن اللجنة الوطنية قد وعت هذا الدرس التاريخي من جنوب أفريقيا.
سماح سبعاوي
تطرح مقالة نورا عريقات المثيرة للفكر العديد من الأسئلة التي ينبغي للفلسطينيين الإجابة عليها في هذا الوقت الحاسم. ورغم اتفاقي مع طرحها العام الذي يُبرز ضرورة وجود قيادة فلسطينية تمثل آمال الفلسطينيين كافة وتطلعاتهم داخل فلسطين التاريخية وفي الشتات، تراودني بعض المخاوف إزاء بعض الحُجج التي ساقتها بشأن تقرير المصير، ودور اللجنة الوطنية للمقاطعة، والمنافع المترتبة على اتباع مقاربة حقوقية في النضال الفلسطيني.
أنا أرى أن تطلّع الفلسطينيين إلى تقرير مصيرهم يمكن تحقيقه في سياق نداء المقاطعة. تقرير المصير هو أحد مبادئ القانون الدولي، ممّا يعني أن للأمم الحق في اختيار صِفتها السياسية وإعلان سيادتها دون تدخلات خارجية. ومع ذلك، فإن من الأهمية بمكان أن ندرك بأن هذا المبدأ لا يقدم برنامجًا سياسيًا محددًا ولا يُملي نتيجةً نهائية. ولهذا السبب بالذات يمكن تطبيق تقرير المصير في سياق دولةٍ فلسطينية مستقلة أو سياقٍ فدرالي أو سياق دولةٍ ثنائية القومية أو سياق دولةٍ واحدة. وفي الواقع، إن الإبهام الذي يسِمُ تطبيق مبدأ تقرير المصير لم يغِب عن بال السلطة الفلسطينية التي ما انفكت تستعمله في خطابها أثناء التفاوض مع إسرائيل للخروج بدولةٍ فلسطينية منزوعة السلاح وغير متصلةٍ جغرافيًا، وهي دولةٌ شبهها كثيرون ببانتوستانات جنوب إفريقيا إبان الفصل العنصري (والتي سوَّغها أيضًا الحديث إلى خطاب تقرير المصير). لذا، فإن من الأهمية بمكان أن ندرك بأن تقرير المصير يحتاج إلى تعريفٍ واضح ضمن السياق الفلسطيني كي لا نترك أي مجالٍ للإبهام الراهن الذي قد يُكلِّف الفلسطينيين حقوقَهم وحريتهم. وهذا هو عينه ما يقوم به نداء المقاطعة. فهو يقدم برنامجًا أكثر وضوحًا يكفل حقوق الفلسطينيين وحريتهم والمساواة بينهم، ولا يتعدى في الوقت نفسه على المبدأ العام المتمثل في تقرير المصير.
توجّه نورا النقد إلى اللجنة الوطنية للمقاطعة لأن اللجنة لا تطالب بولايةٍ مكافئةٍ لولاية منظمة التحرير الفلسطينية، غير أني أرى في ذلك خطوةً استراتيجيةً اتخذتها اللجنة لكي تنأى بنفسها عن الصراع التقليدي على السلطة الذي ما فتئ يعرقل جهود التحرير الفلسطينية، وتضمنَ وحدة المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل، وتعيدَ حركة التحرير إلى مسارها الصحيح. أنا أتفق مع نورا بأن نداء المقاطعة يتيح لجماعات التضامن أن “تعزز مقاربةً حقوقيةً للمناصرة والدعوة” دون مساءلتها عن الناتج السياسي المترتب على جهودهم في المناصرة والدعوة. بيد أني أعتقد أيضًا أن ذلك هو الدور الذي ينبغي لجماعات التضامن أن تضطلع به على وجه التحديد. فلا ينبغي أن يتحدد الناتج السياسي لأي حركة تحررية بفعل التضامن الخارجي، بل عليه أن يتمخض من رحم مقاومة الشعب المنخرط في النضال.
وختامًا، أقول إن المقاربةَ الحقوقيةَ، رغم أنها قد لا تقدم برنامجًا سياسيًا واضحًا في إطار السياق الفلسطيني-الإسرائيلي، ضروريةٌ بسبب مرونتها من أجل إعادة إيلاء التركيز إلى حيث ينبغي، أي إلى الانتهاكات الجسيمة التي ترتكبها إسرائيل ضد حقوق الإنسان الفلسطيني. إن الحرص على قيام هذه الحركة على الخطاب المستند إلى المبادئ العالمية المتمثلة بالحقوق والعدل والمساواة والحرية سوف يكون بمثابة بوصلة توجهنا وتقودنا إلى ما يمكن أن يكون نتيجةً سياسيةً مثاليةً.
لبنى قطامي
أعتقد أن الأسئلة التي تثيرها ورقة نورا هي أسئلةٌ مشروعة، ومع ذلك فإن جُلَّها يتناول الأصوات المعارضة المتعالية داخل الشبكات والهيئات الجديدة العابرة للحدود الوطنية التي منها ما يدّعي ومنها ما لا يدّعي “تمثيلَه” للشعب الفلسطيني. فمن الأجدى، بدلًا من التركيز على هذه المبادرات والشبكات، التركيزُ على “تيارٍ” ما فتئ يسود المشهد السياسي الفلسطيني فيما يتعلق بحركة تحريرٍ فلسطينية مرتقبة. وفي رأيي أن هذا التيار يخاطر بتهميش القضية الفلسطينية وتوصيفها في إطار نموذجٍ معيب. فهو يفترض وجود ظاهرة سياسية عفوية تتمثل في التضامن الدولي وصحوة الجماهير الفلسطينية التي أدركت “فجأةً” بأن التمثيل، أو الانعدام المتصوَّر لذلك التمثيل، هو مشكلتنا الرئيسية. إن مقاربتي للإجابة على هذه الأسئلة مستوحاةٌ إلى حدٍ كبير من محاضرة ألقاها الدكتور سيف دعنا في المدرسة الصيفية الدولية التي نظمتها حركة الشباب الفلسطيني في العام 2011.
يرجع السبب الأكبر في طريقة فهمنا الحالية لواقعنا الراهن، وفشل مشروع التحرير الفلسطيني، ومعضلات النضال السياسية الراهنة المقيدة لشعبنا إلى عجزنا عن إعادة تصور التاريخ الذي انتهى بنا إلى هذه الحال. أنا أُكِنّ الإعجاب الكثير لمرشدتي نورا عريقات، ولإسلوبها في تبيان الخطابات التي يتبناها الفاعلون السياسيون المختلفون في السياسة الفلسطينية العابرة للحدود الوطنية وتحديد سياقاتها، غير أني أؤمن بأن معضلتنا السياسية تكمن في غير ذلك، كما أبيّن أدناه. وعندما نجابه هذه القضايا – كمثقفين وكجيلٍ شابٍ ملتزمٍ بالتحرير وإحقاق العدالة – فإننا نتولى المسؤولية ونتجنب التعرض للتهميش بسبب الغَبش الذي يغشى نظرَتَنا لنضالنا وتاريخنا.
1) ظرفنا الاستعماري: علينا، كجيلٍ شاب، أن ندرك بأن وضعنا هو نتيجة لاستمرار تاريخٍ قامَ قبلَنا وأرسى أُسس المناخ السياسي الذي نحياه الآن. ولن يسعنا، إلا بدراسةِ هذا التاريخ، أن نفهم الكيفية والسبب في تعرّض نضالنا من أجل التحرير إلى الاحتكار، والاختطاف، والتخريب، والاختزال في مناقشات حول القيادة الشرعية، والتمثيل، والمفاوضات على مناطق لا تشكل سوى جزءٍ يسيرٍ من أرض فلسطين التاريخية وتستبعد الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني. وبعبارةٍ أبسط، علينا أن ننظر إلى نضالنا من منظور سياسي أشمل من خلال تحليلٍ أكثر دقةٍ لتاريخنا بُغية فهم التفكك الذي أصاب مشروع التحرر الوطني الفلسطيني في نهاية المطاف. وإذا ما أدركنا أن تاريخنا يسبق واقعنا الراهن، فإن الحلول والتحليلات المرحلية لن تكون على الأرجح قصيرة النظر وقاصرة.
2) التمثيل: لا نزال نشهد منذ العام 2006 موجةً من الهيئات والشبكات الجديدة الصاعدة للتصدي لإخفاق القيادة الفلسطينية الرسمية المزمن على صعيد تلبية احتياجات شعبنا الملحة وتمثيل تطلعاته الوطنية. ومن دون دراسة متأنية لِما تنطوي عليه حركةٌ مُعادٌ تفعليها بالنسبة لشعبنا، فإن هذه المبادرات ستساهم على الأرجح في زيادة استقطاب الفلسطينيين ودفعهم للاعتقاد بأن معضلتنا السياسية تكمن كليًا في نفوذ أفراد معينيين داخل القيادة الفلسطينية. وعلى ضوء هذه المعرفة، فإن مفاهيم الشرعية والمصداقية والتمثيل تساهم في الواقع في تشتيت الشعب الفلسطيني أكثر فأكثر. وبالنظر إلى الاستخدامات الحالية لعبارات “الوحدة” و”المصالحة” و”التمثيل،” يظهر أنها كلمات وحسب وليست المبادئ الموحَّدة الضرورية لنضالنا وحركتنا.
3) المقاربة الحقوقية: ما انفك الفلسطينيون في الشتات يُولون تركيزهم إلى حقوق الإنسان والمناصرة والدعوة باعتبارها البديل الوحيد للتغلب على مخاوفهم بشأن التمثيل والشرعية وعلى بعدهم المكاني عن فلسطين. تتسم بساطة الإطار الحقوقي بأنها ملموسة وحقيقية وشعبية ومقبولة وآخذة بالانتشار في مجتمعات الشتات الفلسطيني. غير أن المقاربة الحقوقية تحشر الموجات الصاعدة من الناشطين الفلسطينيين الشباب في أطر العمل من أجل فلسطين الموضوعة سابقًا والتي تتبنى نماذج الهيمنة الغربية بشأن الطريقة التي ينبغي لنا من خلالها أن ننظر إلى نضالنا؛ أي بنظرةٍ متسمةٍ بالذاتية لطرفٍ خارجي متضامنٍ مع الفلسطينيين. فصِفة الذاتية هذه تحول بيننا، كجيلٍ جديد، وبين وضع تصورٍ نظري وعملي لحركة تحررٍ عابرة للحدود الوطنية.
4) مشروع التحرير: نحن بحاجة إلى خطابٍ لا يجمع بين سعينا للشرعية وعزمنا على نيل الحرية، ولا يخلط بين أدواتنا المستخدمة في المناصرة والدعوة وأهدافنا المتمثلة في الثورة، ولا يلقي اللوم على معضلتنا السياسية الداخلية وكأنها السبب الرئيس لمعاناة شعبنا. فمن دون الشعب الفلسطيني، على اختلاف فصائله قديمةً وجديدةً، لن نستطيع أن نبني مشروعًا سياسيًا للتحرر يأخذ في الحسبان تطلعات شعبنا ومواطن قوته وضعفه وأوضاعه الراهنة. فحينما نستطيع أن (نُعيد) بناء مشروعٍ تحرري مركزي عابرٍ للحدود الوطنية و(نعيد) تنظيمه و(نعيد) تفعليه، فإن المواضع الأخرى كلَّها ستصبح هيّنة ويسيرة.
نورا عريقات
إن هذا النقاش يُسعدني ويمُدّني بالنشاط، وأدرك بأن النقد الموجه لمقالتي ليس إلا غيضًا من فيض المحاورات التي لا نجريها مع بعضنا. وسواء كانت مداخلات محاوريّ الأعزاء إيجابيةً أم سلبيةً، فإنها لا تتطرق إلى شواغلي التي سآتي على شرحها أدناه. ولمّا كانت المساحة المتاحة في هذا المقام محدودةً للتعمق في هذه المواضيع، فإني سوف أتناولها بإسهاب في ورقة مستقلةٍ مقبلة.
إن أكثر ما يشغلني، ولا سيما بعد قيام عملية السلام، هو تشتت الجسم الوطني الفلسطيني بوتيرة منتظمة وافتقار الحراك الداعي إلى تقرير المصير إلى رؤيةٍ سياسيةٍ للتوصل إلى حل. فقد نجمت عن ذلك ظروفٌ عديدة أدت إلى نشوء تظلمات وشكاوى متمايزة ومتباينة، وبرزت المصالح الذاتية في أوساط الجسم الوطني الفلسطيني على أساس الموقع الجغرافي والحالة المدنية.
تتوقف تظلمات الفلسطينيين على موقعهم الجغرافي (أي غزة، والضفة الغربية، والقدس الشرقية، وإسرائيل، والعالم العربي، وما وراء ذلك) وحالتهم السياسية (أي مواطنون من الدرجة الثانية، ومقيمون، ومدنيون تحت الاحتلال، ولاجئون، ومواطنون في دول أخرى). لقد قزَّمت هذه التباينات العمل الجماعي داخل الجسم الوطني الفلسطيني ككل. ومع ذلك، وبينما أفرزت الظروف المحلية تظلمات موضعية مختلفة، فإن تلك التظلمات ما نزلت بكل مجتمع إلا بسبب قوميته الفلسطينية. وحتى حينما تتشابه الظروف التي تعانيها المجتمعات الفلسطينية، تظل تلك المجتمعات عاجزةً عن التنظيم الجماعي نظرًا لكونها مشتتةً ومجزأةً بسبب الحدود وبطاقات الهوية.
لقد أفرز التشتت الجغرافي والمدني مصالح ذاتيةً متنوعةً قائمةً على المنافع المالية والسياسية المتأتية من صناعة عملية السلام ومشروع بناء الدولة، ممّا يعرقل العمل الجماعي. ففي غزة يوجد المئات الجُدد من أصحاب الملايين الذين تكسّبوا من صناعة الأنفاق وبالتالي من الحصار. وفي المنطقة “ألف،” يجني رجال الأعمال الفلسطينيون أرباحًا كبيرةً من المستجدات في دويلاتنا حيث تتسنى لهم السيطرة على الاقتصاد ولا سيما على العقارات.
لقد أعاقت التظلمات المختلفة والمصالح الذاتية المتنوعة، مجتمعةً، قدرةَ الشعب الفلسطيني على بلورة رؤيةٍ سياسيةٍ ترتكز إلى استراتيجية للتحرر الوطني. وأدى هذا الوضع إلى فراغٍ أخذت تملؤه الحركات غير المتصلة فيما بينها في الشتات والعابرة للحدود الوطنية الساعية إلى معالجة تشتت الجسم الوطني الفلسطيني وإقامة حركةٍ حقوقيةٍ عالميةٍ مبنيةٍ على طراز المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات بهدف ممارسة ضغوطات على دولة الفصل العنصري الإسرائيلية. وفي حين أن الجهود الرامية إلى معالجة تشتت الجسم الوطني الفلسطيني هي جهودٌ طيبةٌ وجديرةٌ بالإعجاب، فإن كونها جهودًا وليدةً ومحدودةً يدل على عجز حركات الشتات عن معالجة التشتت الوطني من الخارج. أما بالنسبة لجهودها في بناء حركة حقوقيةٍ عالميةٍ تقوم على المقاطعة، فإن اللجنة الوطنية للمقاطعة، رغم كونها الجسم الفلسطيني الأكثر “تمثيلًا” في الوقت الراهن، تمتلك أهدافًا قائمةً على الحقوق وليس الحلول وهذا يعني أنه ليس بوسعها أن تكون منبرًا يلتقي فيه الفلسطينيون لمناقشة رؤيةٍ سياسية وبلورتها من أجل تقرير مصيرهم. لذلك فإن:
1) التمثيل ليس هو الحل. فلن يساعد الجسم التمثيلي إلا في التغلب على معوقات العمل الجماعي، غير أن ذلك ليس كافيًا للتعبئة. فالمشكلة تكمن في الافتقار إلى برنامجٍ سياسي وليس إلى جسمٍ تمثيلي. وبالنظر إلى التظلمات المختلفة لدى الفلسطينيين، فإن وجود تمثيلٍ مسؤولٍ هو متطلبٌ ضروري لتسجيل التظلمات داخل الجسم الوطني الفلسطيني بما فيها انعدام المساءلة عن جرائم الحرب المرتكبة في غزة إبان عملية الرصاص المصبوب وعن الحصار البري والبحري المستمر الذي دخل عامه الخامس في 2012؛ والمواطنة من الدرجة الثانية في إسرائيل التي تُفضي إلى تمييز مُمَأسس على صعيد السكن والتعليم والتوظيف؛ ونفي اللاجئين الفلسطينيين قسرًا وافتقارهم إلى الحماية في الدول المستضيفة لهم على امتداد العالم العربي؛ واستمرار المستوطنين الاستعماريين اليهود وقوات الاحتلال الإسرائيلي في مصادرة الأراضي الفلسطينية وهدم البيوت وممارسة العنف ضد الفلسطينيين المدنيين في الضفة الغربية.
يشترك الفلسطينيون جميعًا حيثما كانوا، سواء داخل الخط الأخضر أم في الأراضي المحتلة أم في الشتات، في ظرف واحد وهو تعرضهم إلى التهجير القسري أو ما يُعرف بالتطهير العرقي. إن السياسة المتمثلة في اقتلاع الفلسطينيين من أراضيهم وتوطين رعايا يهود و/أو زراعة الأشجار مكانهم هي سياسةٌ ألِفها الفلسطينيون كلُّهم بصرف النظر عن موقعهم الجغرافي وحالتهم المدنية. ومن ذلك تهجير الفلسطينيين قسرًا في الجليل والنقب داخل إسرائيل؛ وفي القدس الشرقية والمنطقة “جيم” وغور الأردن في الضفة الغربية؛ وتهجير اللاجئين في الشتات. وعلى أساس هذا الظرف المشترك، يتسنى للجسم الوطني الفلسطيني أن يضع برنامجًا سياسيًا من داخل إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة والشتات العالمي يهدف إلى الوقوف في وجه التطهير العرقي المستمر والممنهج الذي تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين. إن بلورة حلٍ سياسي يُحبط هذه العملية يرقى لأنْ يكون رؤيةً سياسيةً أجزم بأنها مفقودةٌ حاليًا.
2) إن ظرفنا الاستعماري هو منبع مشاكلنا وليس مكمن حلّنا. تقول لبنى قطامي، وهي شخصية قيادية، إن وهمنا يكمن في افتقارنا إلى تحليل تاريخي، ولكني أختلف معها. فعلى النقيض من ذلك، إن إفراط شرائح عريضة ضمن حركتنا في التركيز على ماضينا أعاق قدرتنا على تصور المستقبل. فبدل التفكر في آفاقٍ وأساليب جديدة لتنظيم أنفسنا، ما فتئنا نُمجِّد الماضي ونساوي بين تقرير مصيرنا والعودة إلى ظرفنا السابق. ولا أظن أن ذلك هو (1) ما نحتاجه؛ ولا (2) ما يؤمِّن الحلّ الأوفى لظرفنا الاستعماري. وفي هذه المرحلة التاريخية من الاحتلال العسكري المستمر في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتمييز المُمَأسس داخل إسرائيل الذي يفرق بين المواطنين اليهود وغيرهم، يسود الفصل العنصري في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة. وعليه، فإن الدفاع عن العودة إلى الوضع السابق للاستعمار الصهيوني لن يكون كافيًا لإنصاف التظلمات الوطنية الفلسطينية. وعوضًا عن ذلك، أرى بأن بناء حركةٍ تستهدف التصدي إلى نظامٍ يحابي المواطنين اليهود ويحرم الفلسطينيين العرب غير اليهود من حقوقهم هو الإجراء الأكثر ملاءمةً.
3) المقاربة الحقوقية هي فعلًا بوصلة، ولكنها لا تُبين الوجهة. لقد أساء حيدر عيد وسماح سبعاوي فهم النقد الذي وجهته – فأنا لا أعيب على اللجنة الوطنية للمقاطعة لأنها لا تسعى أنْ تكون المنبر للجسم الوطني التمثيلي. بل على العكس من ذلك إذ أوكد بأن قطاعات عريضة في حركة التضامن قد أناطت باللجنة الوطنية للمقاطعة، رغم أنها تتبنى برنامجًا قائمًا على الحقوق وليس على الحلول، وكالةً سياسيةً تنفيها اللجنة نفيًا صريحًا. وفي حين قد يكون الدعم الذي تقدمه اللجنة الوطنية للمقاطعة لأجندة حقوق الإنسان كافيًا لحركات التضامن، فإنه ليس كافيًا على الإطلاق بالنسبة للفلسطينيين المحتاجين إلى رؤيةٍ وأهدافٍ سياسية. فرغم أن المقاربة الحقوقية بوسعها أن تكون البوصلة، فإنها لا تبين الوجهة. وأنا معنيةٌ أكثر بتلك الوجهة في مقالتي.
ولعلنا، كفلسطينيين، نُمعِن في الرثاء لحالنا لأن خطر التعرض إلى التوبيخ يكون أقل عند تشخيص مُصاب حالتنا الوطنية منه عند تشخيص العلاج الأمثل له. وأنا أجازف بالتعرض إلى نقد لاذع إذ أقترح بأنه:
1) ينبغي للهيئة/الهيئات الفلسطينية التمثيلية، مجتمعةً أو فرادى، أن تجعل من استمرار عملية تهجير السكان قسرًا، أو التطهير العرقي، الظرف المشترك بين الفلسطينيين كافة على اختلاف مواقعهم الجغرافية ومراكزهم السياسية. وهذا التطهير العرقي قائمٌ على أساس التمييز بين المواطنين اليهود وغير اليهود من الفلسطينيين العرب وهو لا يفرِّق بين الفلسطينيين المواطنين في إسرئيل والقاطنين في القدس الشرقية والمدنيين في غزة والضفة الغربية واللاجئين المنفيين قسرًا. ويرقى هذا التمييز المُمَأسس، المتّسِم بالتفرقة والهيمنة، إلى الفصل العنصري في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة.
2) ينبغي للفلسطينيين، من أجل معالجة هذا الظرف معالجةً شاملةً، أن يتبنوا حل الدولة الواحدة كرؤويةٍ سياسيةٍ هدفها تحقيق المساواة بين الجميع بغض النظر عن هوياتهم القومية والإثنية والدينية والعرقية. فإذا ما تبنينا حل الدولة الواحدة، فإننا ندعو إلى تفكيك العنصرية المُمَأسسة التي تحابي المواطنين اليهود على حساب نظرائهم الفلسطينيين العرب من غير اليهود، وذلك بدلا من دعم إقامة دولتين منفصلتين كل دولةٌ منهما متجانسةٍ إثنيًا. ومن ناحية، تُضحّي هذه الرؤية بالقومية لصالح مفهومٍ أكثر ليبرالية للمساواة والديمقراطية والتعددية. إن حل الدولة الواحدة يُعيد تعريف المفهوم التاريخي لمبدأ تقرير المصير من كونه حكمًا ذاتيًا في إطار دولةٍ قومية إلى مفهومٍ يشمل الجميع ولا يقتضي التجانس القومي. وفعليًا، يتعين على الفلسطينيين قبول الحضور الدائم للإسرائيليين على أرض فلسطين الانتداب والإزالة المتزامنة لهويتها الصهيونية ودستورها الصهيوني. وفي الدولة الواحدة أيضًا، لن يُسفر تقرير المصير الفلسطيني عن حكم ذاتي فوري وإنما عن فرصة متكافئة في حكم أنفسنا وتقرير مصيرنا الوطني جنبًا إلى جنب مع نظرائنا المتنوعين.
إن ما تقدم لا يتطرق إلى مسألة “الكيفية” ولا إلى الخطوات الضرورية لتعويض تراكمات العنف والخسائر والطرد على مدى 64 عامًا من الاستعمار الاستيطاني. وسيكون هذا موضوع مقالة أخرى.