نظرة عامة
تنص خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المسماة “صفقة القرن” على أن يعترف الفلسطينيون بإسرائيل كدولةٍ يهودية والقدس بأكملها عاصمتها، ويتنازلوا عن حق العودة، ويقبلوا بضم غور الأردن والمستوطنات غير الشرعية، ويعيشوا في بانتستونات أو معازل. ومع أن الصفقة لا تغير كثيرًا من الواقع على الأرض بالنسبة إلى الفلسطينيين، إلا أنها تساهم في شرعنة المشروع الاستعماري الإسرائيلي، وتُجرِّؤُ إسرائيلَ على مواصلة الاستيلاء على الأرض الفلسطينية بوتيرة متسارعة، وتهجير المزيد من الفلسطينيين وتشريدهم، وهو ما يرمي – بحسب الزميلة السياساتية للشبكة في فلسطين يارا هواري – إلى “استسلامٍ فلسطيني كامل”. ولا تتوانى إسرائيل عن مواصلة مساعيها تلك حتى في خضم جائحة كوفيد-19 التي ينكبُّ العالم على مواجهتها.2
يناقش مجموعة من محللي السياسات في الشبكة في هذه الحلقة النقاشية تداعيات الصفقة على الفلسطينيين، ويعرضوا الخطوات المتخذة – أو التي ينبغي اتخاذها – لمواجهتها، مع التركيز على الروابط بين الفلسطينيين حول العالم.
يتناول منير نسيبة وعمر شعبان وإيناس عبد الرازق مدينة القدس وقطاع غزة والضفة الغربية على التوالي، ويذكرون ردود الفعل الفلسطينية على الصفقة (أو غيابها)، ويدعون إلى تجديد القيادة الفلسطينية لتأخذَ على عاتقها التحديات الراهنة. ويبين شعبان أن السلطة الفلسطينية وحركة حماس فوتتا فرصةً مواتية لإنشاء جبهةٍ فلسطينية موحدة لو تعاملا بطريقة مختلفة.
يناقش جابر سليمان وعريب الرنتاوي تداعيات الصفقة على اللاجئين وحقوقهم. يتناول سليمان اللاجئين الفلسطينيين في لبنان ويُبرز بعض الجهود التعاونية بين مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين حول العالم للتصدي للصفقة. بينما يتناول الرنتاوي تداعيات الصفقة على الأردن ويرثي ندرة الروابط البينية ويحث على تعزيزها. تكتب رندة وهبة عن الفلسطينيين في الشتات والولايات المتحدة، وتدعو الأمريكيين الفلسطينيين إلى استثمار نفوذهم وقوتهم في إحياء المطالبة بالحرية وحق العودة. وتعرض الخطوات المطلوبة لتحقيق ذلك، بما فيها المطالبة بأن يكون لهم صوتٌ وقولٌ مسموع داخل المجتمع الفلسطيني الأشمل، مع التركيز على فكرة الروابط التي طرحها سليمان والرنتاوي.
القدس
منير نسيبة
تأنُّ القدس تحت وطأة السياسات الاستعمارية الصهيونية القاسية منذ صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 لسنة 1947 والذي يوصي بتقسيم فلسطين إلى دولتين وإبقاء القدس كيانًا منفصلًا تحت إدارة الأمم المتحدة. ومن جملة ما تعانيه المدينة التهجيرُ الجماعي والاستيلاء على الممتلكات، وفرض القيود على الحركة، والفصل في الحيز الحضري. تخلع سلطة الاحتلال على المقدسيين صفةَ “المقيمين الدائمين” في إسرائيل، وهي حالةٌ مدنية خاصة دأبت السلطات على سحبها وتقييدها على نطاق واسع.
تُعزز “صفقة” ترامب مخاوفَ المقدسيين بشأن المستقبل. فقد سبقت إسرائيلُ تَدخُّل ترامب، بطبيعة الحال، حين أقدمت على ضم القدس الغربية والشرقية وعددٍ من الأحياء المحيطة بعد حربي 1948 و1967 على التوالي. وما تقدمه صفقة ترامب هو فرصةٌ لإسرائيل لتجادلَ بأن هذا الضم كان مشروعًا لأن القوة العظمى في العالم باتت تعترف به الآن. وهذا الموقف يمنح إسرائيل غطاءً إضافيًا لتستولي على الأرض الفلسطينية وتشرِّد أهلها بهدف إيجاد أغلبية سكانية يهودية في المدينة.
تَفصِل الخطةُ المقترحة القدسَ عن محيطها الفلسطيني، وتجعلها مدينةً إسرائيلية حصرية. ورغم عدم اليقين الذي يكتنف مصير الفلسطينيين الذين يقطنون المدينةَ ويحملون تصاريح الإقامة الإسرائيلية، فإن إسرائيل على الأرجح سوف تقيد بشدةٍ قدرتَهم على الحركة بين جانبي الجدار الفاصل. وما برحت إسرائيل أيضًا تزيد في بناء المستوطنات غير الشرعية في القدس وما حولها بهدف فرض المزيد من العوائق أمام النمو الطبيعي الفلسطيني. يخشى الفلسطينيون كذلك على مقدسات المدينة، ولا سيما المسجد الأقصى الذي يواجه قيودًا ومحاولاتٍ إسرائيليةً مستمرةً تهدف إلى تغيير هويته من موقع إسلامي إلى موقع يهودي.
وعلاوة على ذلك، يخشى المقدسيون من مآلات الصفقة إجمالًا، لأنها تشجع إسرائيل على الاستمرار في منع اللاجئين والمُهجَّرين من العودة، وتقسيم فلسطين إلى معازل أصغر وأصغر، بالتزامن مع تشييد مستعمراتٍ حصريةٍ لليهود في فلسطين كلها.
وفي الوقت نفسه، يواجه المقدسيون أزمةَ قيادة. فردة الفعل الفلسطينية الرسمية الأولية الرافضة تمامًا لخطة ترامب مثَّلت بدايةً جيدة، ولكنها ليست كافية. وقد نجحت سنوات الاضطهاد السياسي الإسرائيلي في الحدّ من التمثيل الرسمي النشط، ولا يكاد يوجدُ اليوم فاعلٌ واضح يمتلك القدرة على الفعل والسلطة لقيادة الشعب. وهذا ما يُبقي المقدسيين في حالة ترقب، غير متأكدين كيف ستترجم إسرائيل إفلاتَها المتزايد من العقاب إلى وقائعَ جديدةٍ على الأرض.
يجب على القيادة الفلسطينية والمجتمع المدني الفلسطيني أن يُعيدوا التفكير في استراتيجيتهم برمتها وفي معنى التحرر، لأن إسرائيلَ ماضيةٌ في أساليب الاستعمار المعهودة المتمثلة في اقتراح عقد الاتفاقات مع السكان الأصليين بهدف كسب المزيد من الوقت، ومن ثم سرقة المزيد من الأرض وترسيم حدود جديدة. لقد حان الوقت لمراجعة أهداف التحرر الفلسطيني مع التركيز على إنهاء النظام الاستعماري بدلًا من تقسيم الأرض.
قطاع غزة
عمر شعبان
يُعرب الكثيرون من سكان قطاع غزة عن رفضهم “صفقةَ” ترامب، رغم اعتقادهم بأن تأثيرها في القطاع سيكون أقل مقارنةً بالضفة الغربية والقدس. فقد نظَّم الفلسطينيون في غزة احتجاجات شعبيةً لرفض الصفقة، وخرجوا في تظاهرات جماهيرية حاشدة شارك فيها متظاهرون كُثر على اختلاف مشاربهم للتعبير عن رفضهم وإدانتهم لهذه الخطة.
يرفض المسؤولون السياسيون الفلسطينيون الصفقةَ رفضًا تامًا، بمن فيهم الرئيس محمود عباس وقادة حماس وكل الفصائل السياسية والجماعات المسلحة في غزة، رغم أن هذا الرفض لا يزال مقتصرًا على البيانات الصحفية والخطابات السياسية. وقد خاطبت السلطة الفلسطينية العديد من الجهات الفاعلة الدولية والعربية والإسلامية لتأكيد الرفض الفلسطيني للصفقة.
يطالبُ بعض الفاعلين، كالرئيس السابق للمكتب السياسي في حركة حماس، خالد مشعل، السلطةَ الفلسطينية باتخاذ خطواتٍ أكثرَ جرأة مثل الانسحاب من اتفاقات أوسلو، وحل السلطة الفلسطينية، وتطبيق القرارات العديدة الصادرة من اللجنة التنفيذية والمجلس الوطني التابعين لمنظمة التحرير الفلسطينية والقاضية بقطع العلاقات بإسرائيل وإنهاء الالتزامات تجاهها، ولا سيما التنسيق الأمني. وحتى قبل الإعلان عن الصفقة، شجب آخرون مواقفَ بعض الأنظمة العربية والسياسيين الذين دعوا الفلسطينيين إلى التريث والتفكير في الخطة قبل رفضها.
لو تعامل الفلسطينيون مع الصفقة الظالمة باعتبارها فرصةً للتقدم نحو المصالحة الداخلية لكانت ربَّ ضارة نافعة Share on Xومن ناحية أخرى، خرجت بعض الأصوات في غزة على مواقع التواصل الاجتماعي لتقول إن الصفقة يمكن أن تجلب حلولًا أفضل للقطاع بدلًا من الواقع المزري المستمر منذ 14 عامًا من الحصار والبطالة والحروب واليأس. فالمشقة الناجمة عن الحصار وتداعيات الانقسام بين السلطة الفلسطينية والضفة الغربية قد دفعت الناس إلى النظر في هذه الصفقة الجائرة كبديل أقل قسوةً من واقعهم البائس.
وبالرغم من أن السلطة الفلسطينية وحماس ترفضان الخطة إلا أن كلا منهما يتهم الآخر بالتواطؤ الخفي في “تمرير” الصفقة أو التقاعس عن أخذ خطوات جادة لإحباطها. وقد أفسدت هذه الاتهامات الفرصةَ لتحقيق إجماع فلسطيني، بعد أن كان الشارع الفلسطيني في السابق متفائلًا بعض الشيء إزاء توافق الأحزاب الفلسطينية المنقسمة عندما رفضت جميعها الصفقةَ وقاطعت مؤتمر البحرين الاقتصادي المنعقد في حزيران/يونيو 2019. غير أن هذا الرفض لم يُترجَم إلى خطوات عملية لتحقيق الوحدة.
تجرأت الولايات المتحدة على اتخاذ موقفها بسبب الانقسام الفلسطيني إذ افترضت أن تشرذم النظام السياسي قد أضعف الدعم المتأتي من الجهات الفاعلة العربية والإسلامية. ومع أن السلطة الفلسطينية وحركة حماس كانتا تدركان الآثار الكارثية المترتبة على الانقسام إلا أنهما لم تُقدِما على خطوات جادة لإنهائه. وبالرغم من تصريح عباس في كانون الثاني/يناير حول عزمه إرسالَ وفد من منظمة التحرير الفلسطينية إلى قطاع غزة لإجراء محادثات لاستعادة الوحدة، إلا أنّه لم يفعل لغاية الآن.
تقتضي صفقةُ ترامب تطويرَ استراتيجية فلسطينية تكفل موقفًا وطنيًا موحدًا فعالًا وشاملًا للفلسطينيين كافة، وخطةَ عملٍ لا متراخيةً ولا متطرفة. ولو تعامل الفلسطينيون مع الصفقة الظالمة باعتبارها فرصةً للتقدم نحو المصالحة الداخلية لانطبقت عليها مقولة رب ضارة نافعة. لكن ذلك لم يحدث، ويبدو أن مغذيات الانقسام أقوى من عوامل رفض الصفقة. وهذه فرصةٌ أخرى يفوتها النظام السياسي الفلسطيني برمته.
الضفة الغربية
إيناس عبد الرازق
يرى الفلسطينيون في الضفة الغربية أن “صفقة القرن” التي طرحتها الإدارة الأمريكية وُلدت ميتة، وأنها لم تفاجئهم وإنما تُبرز واقعَ الأبرتهايد ضمن الدولة الواحدة الذي ما انفكوا يعيشونه، وتُعطي ضوءًا أخضر لضم الأراضي الفلسطيني بحكم القانون بعد أن كانت مضمومةً بحكم الأمر الواقع. لقد ظلت القوى العظمى لعقود تعامل الفلسطينيين بازدراء مماثل، فتأخذ القرارات رغمًا عنهم أو دون مشاورتهم. وهذه الخطة بمثابة إذلالٍ آخر للفلسطينيين حيث تُملي عليهم ما هو “خير لهم” بدلًا من أن تكفل الاعتراف بحقوقهم الأساسية.
لقد تسببت صفقة ترامب في تراجع ثقة الفلسطينيين أكثر في المحاورين والشركاء الغربيين، بما في ذلك البلدان الأوروبية التي رحَّبت بالخطة باعتبارها محاولةً صادقة، وفشلت مجددًا في محاسبة إسرئيل على انتهاكاتها حقوقَ الإنسان. وازداد الفلسطينيون إيمانًا بعد ردود الفعل هذه بأنَّ أحدًا لا يمكن التعويلُ عليه سوى أنفسِهم وأنهم بحاجةٍ إلى خطة. غير أن الغالبيةَ العظمى في الوقت الراهن لا يثقون في قدرة قيادات منظمة التحرير الفلسطينية أو السلطة الفلسطينية على الخروج باستراتيجية تدافع عن حقوقهم وتغير الواقع الحالي.
تنعدم الثقة أكثر لدى سكان الضفة الغربية القاطنين في المناطق الواقعة تحت إدارة السلطة الفلسطينية، حيث يحيا معظم السكان حياةً تمليها مشقةُ الاحتلال والذي حوَّل المجتمعات بالفعل إلى معازل متناثرة. فيبذل الفلاحون، والعاملون في المستوطنات، وأصحاب المحلات التجارية، وموظفو السلطة الوطنية كلَّ ما بوسعهم من أجل أُسرهم وعائلاتهم، ويذلِّلون العقبات أمامهم سواء حواجز الطرق أو انقطاع المياه أو محدودية الدخل، في ظروف يعلمون أن إسرائيل تتحكم بها والسلطة الفلسطينية تقبلها. ودورة الحياة اليومية الدؤوبة هذه تُفسِّر على الأرجح السببَ وراء عدم ثورة أهالي الضفة الغربية بعد إعلان إدارة ترامب عن الصفقة.
وفي المقابل، أبدى المستوطنون والسلطات الإسرائيلية ردة فعل أوضح، حيث شهدنا منذ إعلان الصفقة طفرةً في هدم المنازل؛ وإصدار التصاريح لبناء مستوطنات جديدة، مثل استئناف المشاريع في الممر E1 وE2؛ والاستيلاء على الأراضي والبؤر الاستيطانية كما حصل في جبل العُرمة/بيتا جنوب نابلس. تواصل لجانُ المقاومة الشعبية التصدي لهذه الأفعال، وتتعرض في سبيل ذلك لاعتداءات يومية يشنها الجيش والمستوطنون.
تُمثل خطةُ ترامب نهاية “حل الدولتين،” ذاك الشعار الفارع الذي لم تسعَ الولايات المتحدة وإسرائيل بجدٍ لتحقيقه. وفي حين لا يوجد إجماع بين الفلسطينيين حول ما إذا كانوا يريدون العيش في دولتين أو دولة واحدة أو دولة فيدرالية أو غيرها، فإنهم مجمعون على رغبتهم في نيل الحرية والكرامة والعدالة بغض النظر عن الترتيب الإداري المتبع. فلا يمكن فصل الهوية الفلسطينية والحق في تقرير المصير عن ارتباط الفلسطينيين بموطنهم – المنطقة الممتدة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط – بيئةً وتراثًا وتاريخًا وثقافة. وهذا ما تتجاهله خطة ترامب، إذ تهدف في المقابل إلى إعادة تعريف الحرية بأنها الحصول على “حوافز اقتصادية،” مهما كان النظام المانح لتلك الحوافز عنصريًا وجائرًا.
لبنان
جابر سليمان
يكشف القسم الخاص باللاجئين الفلسطينيين في خطة ترامب عن هدفِه المتمثل في فرض حلول لقضية اللاجئين تتجاهل القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وبخاصة قرار الجمعية العامة رقم 194، وذلك بالدعوة إلى اتفاق سلامٍ بين الفلسطينيين والإسرائيليين ينص على “إنهاء جميع المطالبات المتعلقة بوضعية اللاجئ أو الهجرة والتحرر منها.”
ولتحقيق هذا الهدف، تتبنى رؤية ترامب مقاربات خطرة مثل رفض تعريف وكالة الأونروا متعدد الأجيال “للاجيء فلسطين”، والعمل على إنهاء ولاية الأونروا، وتفكيك مخيمات اللاجئين في المنطقة، وتصفية حق العودة، وإنكار حق اللاجئين الفلسطينيين في جبر الضرر/التعويض المناسب والعادل، والسعي إلى إعادة توطين هؤلاء اللاجئين بصفة دائمة في البلدان العربية المقيمين فيها. وللمفارقة، يصف ترامب هذا الحل بأنه “عادل ونزيه وواقعي.”
تركز الخطة على اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وتُبرز مدى تهميشهم الاجتماعي والاقتصادي والمكاني، ووضعهم القانوني المُلتبس الذي يكاد يحرمهم تقريبا من كلَّ حقوق الإنسان الأساسية. ويبرِّر ترامب مطالباته بإدماج اللاجئين الفلسطينيين في المجتمع اللبناني المُضيف بادعائه أنه حلٌّ دائم يمكن أن يُنهي معاناتهم.
تُفاقِم قضيةُ الإدماج، أو التوطين، الواردة في الخطة مخاوفَ اللبنانيين إزاء الوجود الفلسطيني، حيث بادرت الدولة اللبنانية إلى وضع سياسات تمييزية أكثر تجاه اللاجئين. تفرض خطة وزارة العمل الصادرة في تموز/يوليو 2019، على سبيل المثال، قيودًا أشد صرامة على عمل الفلسطينيين الذين يصنفهم القانون كأجانب. وقد تسببت هذه الخطة باحتجاجات عارمة وغير مسبوقة في أوساط اللاجئين الفلسطينيين الذين رفضوا الخطة واستنكروا أي ربط بين حقوق الإنسان الأساسية وبين التوطين، وأعلنوا تمسكهم بحق العودة، بل إن رفض التوطين يُعدّ من الثوابت الفلسطينية اللبنانية.
تقتضي المواجهة مع صفقة ترامب استراتيجيةً وطنية فلسطينية جديدة تُعيد تعريف المشروع الوطني الفلسطيني، وتجدِّد الحركة الوطنية الفلسطينية Share on Xينبغي للحكومة اللبنانية ، بدلًا من فرض المزيد من القيود، أن تُغير سياساتها تجاه اللاجئين الفلسطينيين بحيث تمتثل أكثر للقانون الدولي وتمنحهم مجموعةً أوسع من حقوق الإنسان الأساسية دون تجنيسهم. فهذه هي الوسيلة الأنجع لأنها ستكفل للفلسطينيين في لبنان حمايةً مؤقتة وتُخفف معاناتهم اليومية بينما تُمكِّنهم من النضال من أجل العودة إلى موطنهم – وبالتالي تُهدِّئ المخاوف اللبنانية من التوطين.
لا ينفك مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، عبر مؤسساته الأهلية، يُنسِّق مع نظيريه في فلسطين والشتات فيما يتعلق بالتهديدات التي تستهدف اللاجئين الفلسطينيين. وعلى سبيل المثال، ينظم مركز حقوق اللاجئين (عائدون) في لبنان، بالتنسيق مع المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين (بديل) في بيت لحم، دورةً تدريبية سنوية في بيروت حول وضع اللاجئين الفلسطينيين في القانون الدولي، ويشارك فيها ناشطون فلسطينيون ولبنانيون في حقوق الإنسان. وقد ركزت الدورة المنعقدة في 2019 على تداعيات صفقة ترامب ورؤيتها إزاء اللاجئين.
أثار هذان المركزان والمنظمات غير الحكومية الفلسطينية الأخرى هذه القضايا في المحافل والفعاليات الإقليمية والدولية في السنة الماضية، بما في ذلك ورشة عمل منظمة النهضة العربية للديمقراطية والتنمية حول اللاجئين الفلسطينيين التي إنعقدت في عمَّان في تشرين الأول/أكتوبر 2019، ومنتدى برونو كريسكي الملتئم في فيينا في الشهر ذاته لمناقشة قضية اللاجئين الفلسطينيين ومجتمعات الشتات، وورشة عمل أصدقاء الأونروا الأكاديميين التي نظمتها جامعة إكستر في شباط/فبراير 2020. تضرب هذه الفعاليات مثالًا للجهود المكثفة التي تبذلها مجتمعات اللاجئين في فلسطين والشتات للدفاع عن حقوق اللاجئين، ويمكن استخدامها كأداةٍ لمواجهة رؤية ترامب.
الأردن
عريب الرنتاوي
يمكن القول إن كافة بنود الصفقة ومندرجاتها تمس الفلسطينيين في الأردن مباشرة، الذين يبلغ عددهم 4.4 مليون على اختلاف وضعياتهم القانونية، ويشكلون ما يقرب من ثلثي سكان الأردن، وثلث عدد الفلسطينيين في العالم. فالصفقة، على سبيل المثال، تحرم ما يزيد على مليون نازح في الأردن من الضفة والقطاع، من ممارسة حقهم في العودة إلى مدنهم وقراهم، بل وتجعل حقهم في الحركة والتنقل بين الأردن وبين الأرض الفلسطينية المحتلة أكثر اعتمادًا على الموافقة الإسرائيلية لأن الصفقة تعترف بالسيطرة الإسرائيلية الأمنية المباشرة على الحدود والمعابر الدولية. وسوف تشتد هذه القيود إذا أنجزت إسرائيل وعدها بضم غور الأردن وشمالي البحر الميت. فليس حق عودة هؤلاء هو المهدد بالصفقة وحسب، بل أيضًا حقهم في زيارة ذويهم في الأرض المحتلة.
من المستبعد أن يمنح الأردن الفلسطينيين جنسيته أو حقوق المواطنة أو حتى حقوقاً مدنية حفاظًا على “الميزان الديموغرافي” في البلاد، وخشية من أن يكون قد بعث برسالة خاطئة، مفادها أن الأردن مستعد للتساوق مع مشاريع التوطين والوطن البديل. تطرح هذه الإشكالية أسئلة حول “أزمة الهوية” التي يتعرض لها هذا الجزء الرئيس والوازن من الشعب الفلسطيني، والمقصود به الفلسطينيون من مختلف الوضعيات القانونية في الأردن، فلا هم أردنيون بالكامل ولا هم فلسطينيون بالكامل، ولقد لوحظ تحولٌّ في السنوات العشر أو أكثر الأخيرة في مفهوم “الهوية” عند قطاع من الأردنيين من أصول فلسطينية، إذ باتت هويتهم الأردنية مقدمةً على هويتهم الفلسطينية، في ظل انسداد المشروع الوطني الفلسطيني، وضرورات الحياة اليومية.
تعيش إسرائيل لحظة تفوق استراتيجي، وتعتقد أن الوقت قد حان لحسم نتائج مائة عام من الصراع مع الفلسطينيين بإعلان النصر على مشروعهم الوطني. و”صفقة القرن” هي إعلان النصر هذا، حيث يشهد المشروع الفلسطيني في هذا الوقت تآكلاً غير مسبوق، ويقف على حافة الانهيار إن لم يكن قد هوى إلى قعر الهاوية بالفعل، بينما تترنح الحركة الوطنية الفلسطينية بالانقسام والترهل والفساد والانفصال عن شعبها وجماهيرها. ولذلك، تقتضي المواجهة مع صفقة ترامب استراتيجيةً وطنية فلسطينية جديدة تُعيد تعريف المشروع الوطني الفلسطيني، وتجدِّدُ الحركة الوطنية الفلسطينية.
ومن المعوقات الرئيسية لوضع تلك الاستراتيجية حقيقة أن التواصل بين المجتمعات الفلسطينية يكاد يكون تقطّع منذ سنوات. فهمزة الوصل بين هذه المجتمعات كانت منظمة التحرير الفلسطينية التي باتت اليوم كيانًا عاجزًا ورمزيًا. فضلًا على أن إعلان صفقة القرن تزامن مع اندلاع جائحة كورونا، ليجعل التواصل الصعب والنادر، أكثر صعوبة وندرة. وحدها حماس ما زالت قادرة على توفير قنوات التواصل بدعم من حليفيها الإقليميين، تركيا وقطر، وبالاستناد إلى أذرع جماعة الإخوان المتشعبة. فمؤتمرات فلسطيني الشتات المنعقدة في تركيا هي القناة الوحيدة القائمة للتواصل بين المجتمعات الفلسطينية المختلفة، بما فيها فلسطينيي الأردن. ولا بد من تقوية هذه الروابط والقنوات من أجل مجابهة تحديات اللحظة الراهنة.
الولايات المتحدة
رندة وهبة
تؤكد “صفقة” ترامب الدعم الأمريكي الثابت والراسخ لإسرائيل من أجل تصفية حقوق الفلسطينيين كلها ومصادرة أرضهم وسيادتهم. فلطالما ظل الزعماء السياسيون العالميون يطعنون في إنسانية الفلسطينيين ببشاعة حين يُطالبونهم بالتخلي عن المبادئ قضيتهم الأساسية. غير أن ترامب دشَّن توجهًا جديدًا في حرمان الفلسطينيين بطريقة سافرة وصارمة. وقد تملَّكَ الفلسطينيين إحساسٌ بالهزيمة وهم يشاهدون ترامب بعجرفته يُعلنُ ضم غور الأردن، ومقايضة الأراضي، وإعلان القدس عاصمةً لإسرائيل.
تقتضي هذه اللحظة من الفلسطينيين، ولا سيما الفلسطينيين الأمريكيين، ألا يستسلموا لليأس، وأن يستحضروا مقولةَ أودري لورد: “أدوات السيد لا تهدم منزل السيد.” لقد كان ترامب واضحًا كالشمس في إعلانه بأن الفلسطينيين لن يستطيعوا بعد اليوم المطالبةَ بالحقوق والكرامة بموجب أُطر القانون الدولي الراسخة والتزامات الدول الثالثة. وفي حين أنه يتحتم على الفلسطينيين قطعًا استخدام هذه الأدوات لصالحهم، إلا أنها لن تكون أبدًا مقياسًا لِما يستحقونه.
فهم يستحقون أكثر من مجرد خطابات حقوق الإنسان أو المعاهدات الدولية التي تستديم نظامًا عالميًا يرفض إنهاء الاستعمار. وهذه فرصةٌ ذهبية للجالية الفلسطينية في الولايات المتحدة للوقوف معًا والعمل سويًا كمجتمع واحد للاستفادة من قوته في تفعيل المطالبات بحق العودة والحرية. ولا بد للأمريكيين الفلسطينيين أن يتحدوا التطبيع الحاصل للعنف الممارَس على عائلاتهم في فلسطين. ولفعل ذلك، لا بد من الإقدام على خطوتين أساسيتين.
يستحق الفلسطينيون أكثر من مجرد خطابات حقوق الإنسان أو المعاهدات الدولية التي تستديم نظامًا عالميًا يرفض إنهاء الاستعمار Share on Xأولًا، يجب على الشتات الفلسطيني في الولايات المتحدة أن يلتفوا حول أجندة تقدمية. فلا يمكن للشتات الفلسطيني أن ينظر إلى حرمان الفلسطينيين في فلسطين بمعزلٍ عن اضطهاد السود، والسكان الأصليين، والمثليين، والمهاجرين غير الموثقين في الولايات المتحدة، كما لا يمكنه أن ينأى بنفسه عن الهياكل المستمرة في ممارسة الهيمنة على الناس هناك وتهجيرهم. ولا يستطيع الأمريكيون الفلسطينيون، كدافعي ضرائب وجزء من المجتمع الأمريكي، أن يعزلوا أنفسهم عن تجاربهم الحياتية اليومية، بل لا بد لهم من مناهضة العنف الذي يمارسه دعاة تفوق العنصر الأبيض. والنضال من أجل الأجندة التقدمية في الولايات المتحدة لا يعني التخلي عن الهوية الفلسطينية.
تتمثل الخطوة الثانية في المطالبة بأن يكون للفلسطينيين المنفيين والمشتتين صوتٌ مسموعٌ وقولٌ داخل المجتمع الفلسطيني. فكثيرًا ما يشعر الأمريكيون الفلسطينيون بأن بُعدهم عن الأرض الفلسطينية وعدم قدرتهم على العيش فيها يستبعدهم من المشاركة في صياغة الرؤى لمستقبل فلسطين المحررة. ولأن الفلسطينيين أمةٌ مشتتةٌ في أصقاع الأرض، يجب عليهم أن يشيدوا منبرًا يضمن سماع أصواتهم وتمثيلهم.
لا يحق للسلطة الفلسطينية، التي نصَّبت نفسها بنفسها، أن تستمر في حرمان الفلسطينيين في الشتات حقَّهم هذا، وتُسقِط مطالبهم لأنهم بعيدون جسديًا، بينما تواصلُ تبديدَ حقوق الشعب الفلسطيني من خلال المفاوضات. إن الأمريكيين الفلسطينيين جزءٌ لا يتجزأ من ماضي الفلسطينيين ومستقبلهم، ويجب عليهم الآن، وأكثرَ من أي وقت مضى، أن يؤكدوا مكانَتهم تلك.
- لقراءة هذا النص باللغة الفرنسية، اضغط/ي هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.