في 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، صوَّت الناخبون الأمريكيون لدونالد ترامب رئيسًا لولاية ثانية في الانتخابات الرئاسية الستين. ويأتي فوزه وعودته إلى منصبه بعد انتهاء ولايته الأولى بأربع سنوات في أعقاب حملة رئاسية مضطربة من جانب الحزب الديمقراطي، شهدت تخلي الرئيس بايدن عن مسعاه لإعادة الترشح في وقت سابق من هذا العام، وتأكيد نائبته كامالا هاريس دعمَ الولايات المتحدة للإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة.1
وفي حين لا تزال العديد من جوانب خطط السياسة الخارجية للإدارة القادمة غير مؤكدة، فإن تبعاتها الكارثية على الشعب الفلسطيني ستستمر بلا شك. في هذه الحلقة النقاشية، يُقدِّم محللو الشبكة طارق كيني الشوا وعبد الله العريان وأندرو كادي وهناء الشيخ رؤيتهم إزاء ترامب مقارنةً بسلفه، وتأثير رئاسته على السياسة الأمريكية في المنطقة العربية، وما تعنيه لفعاليات التضامن مع فلسطين في الولايات المتحدة، وتأثيرها المادي على الأرض في فلسطين.
كيف ستكون إدارة ترامب مقارنةً بسابقتها من حيث العلاقات الأمريكية الإسرائيلية؟
طارق كيني الشوا
كما درجت العادة في سباقات الرئاسة الأمريكية، أمضى الجمهوريون والديمقراطيون الأشهر القليلة الماضية في التنافس على لقب “أفضل صديق لإسرائيل،” حيث سعى كل مرشح للتفوق على الآخر في نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين والتباهي بدعمه غير المشروط لإسرائيل. ووعد كلا المرشحين، هاريس وترامب، بالارتقاء في العلاقة “الخاصة” بين الولايات المتحدة وإسرائيل إلى مستويات جديدة غير مسبوقة.
بالرغم من إصرار الكثيرين على أن هاريس “أقل شرًا” من ترامب، إلا أن حملتها الانتخابية بدت غير مهتمة بإثبات صحة هذا الزعم. فبدلاً من التواصل مع الناخبين المناهضين للإبادة الجماعية من أجل توسيع التحالف الديمقراطي اللازم للفوز، نأت هاريس بنفسها عنهم. وكما تبيَّن لاحقًا، كان ذلك القرار واحدًا من سلسلة أخطاء عديدة ارتكبها الديمقراطيون وكلفتهم انتخابات مفصلية أخرى. وعلى النقيض، انتهزَ ترامب الفرصة وتقرَّب من الناخبين العرب والمسلمين الأمريكيين، باستغلال إحباطهم من الحزب الديمقراطي وإعطائهم تأكيدات غامضة وفارغة بأنه “سيُنهي الحرب.”
من الأهمية بمكان أن ندركَ أن إدارتي بايدن وترامب كلتيهما تشتركان في رؤيتهما للشرق الأوسط، وتتخذان من استدامة هيمنة إسرائيل أولويةً كُبرى Share on X
الآن، وبينما يستعد ترامب للعودة إلى المكتب البيضاوي، يمكننا أن نتوقع منه ومن مستشاريه اليمينيين المتطرفين أن يوفوا بوعدهم الانتخابي ويعززوا احتضان الولايات المتحدة لإسرائيل. ولكن ترجمة هذا على أرض الواقع، وتبعاته على الإبادة الجماعية المستمرة، ليست واضحةً تمامًا. ففي حين تعهَّد ترامب بالسماح لإسرائيل “بإتمام المهمة” في غزة، إلا أن تصرفاته لا يمكن التنبؤ بها، كما أثبتَ لنا من قبل. وإذا كنا قد تعلمنا شيئًا العام الماضي، فهو أن الكلمات وحدها لا تعكس القصة كاملةً.
تعد النزعات التعاقدية النفعية لترامب وابتعاده عن الايدولوجيا أهم السمات التي تمايزه عن سلفه. ففي حين أنّ تفاني بايدن الشخصي للصهيونية دفعه إلى دعم إسرائيل دون قيد أو شرط، فإن ترامب سيتصرف إمّا وفقًا لمصالحه الخاصة أو وفقًا لمطالب قاعدته المتمثلة في “أمريكا أولاً”. ولربما يغدو ترامب بسبب نهجه هذا غيرَ متحمسٍ لنشر أصول الولايات المتحدة وعساكرها لتحمل كلفة الدفاع عن إسرائيل في حروب أبدية لا تعود بالنفع على المصالح الأمريكية.
لقد أمست الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وغزوها لبنان، وتهديدها المستمر بحرب أوسع مع إيران، عقباتٍ رئيسيةً أمام تحقيق الأهداف المشتركة لترامب وبايدن والمتمثلة في توسيع اتفاقات آبراهام، وبذلك تُسهم في تقليص النفوذ الأمريكي في المنطقة. بل إن التزام بايدن المتزمت بالدفاع عن إسرائيل بأي ثمن قد طغى على أي رغبة في الضغط على نتنياهو لإبرام اتفاقٍ لوقف إطلاق النار وخفض التصعيد على نطاق أوسع. وفي الوقت نفسه، أشار ترامب مرارًا وتكرارًا إلى أنه يتوقع من إسرائيل “إنهاء الحرب” حتى يتمكن من مواصلة سعيه لتحقيق أهدافه الإقليمية الأوسع، بما فيها الجائزة الكبرى المتمثلة في إبرام اتفاق تطبيع بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية. أمّا كيف سيبدو هذا التوقع في الممارسة العملية فهو سؤال مختلف.
تجدر الإشارة إلى أن ترامب سوف يُضطر أيضًا إلى تلبية مصالح مستشاريه ومانحيه المؤيدين لإسرائيل. ففي حين هاجم الرئيس المنتخب “صقور الحرب” في حملته الانتخابية مثل تشيني، إلى أنه قال بالفعل إنه سوف يعين شخصيات مألوفة مثل بريان هوك وإليز ستيفانيك وماركو روبيو في مناصب مفصلية في إدارته. ولا شك أنَّ هذه المجموعة سوف تدعو إلى إبقاء السياسة الأمريكية في المنطقة متماشية مع نتنياهو وائتلافه اليميني المتطرف الحاكم العازم على “إعادة تشكيل” الشرق الأوسط قاطبةً بالقوة الغاشمة.
غير أنَّ من الأهمية بمكان أن ندركَ أن إدارتي بايدن وترامب كلتيهما تشتركان في رؤيتهما للشرق الأوسط، وتتخذان من استدامة هيمنة إسرائيل أولويةً كُبرى. أمّا الاختلاف بينهما فيكمن في أساليبهما: فبينما سعى بايدن إلى ترسيخ الهيمنة الإسرائيلية تحت ستار الليبرالية والتعددية، فإن ترامب لن يتوانى عن نبذ الدبلوماسية التقليدية لواشنطن وتحقيق الأهداف ذاتها دونما حرصٍ على إخفاء حقيقة تواطؤ الولايات المتحدة. وعليه، يمكننا أن نتوقع من إدارة ترامب أن تتخذَ تدابير مثل إنهاء العقوبات الرمزية التي فرضها بايدن على المستوطنين الإسرائيليين العنيفين، وزيادة الجهود المبذولة لتحصين إسرائيل من المساءلة أمام المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، وتمكينها من تدمير الأونروا.
بالرغم من أن الكثير لن يتغير على صعيد أُسس العلاقة “الخاصة” بين الولايات المتحدة وإسرائيل التي تتميز بإفلات إسرائيل الدائم من العقاب، إلا أن من المرجح أن نشهدَ تعزيزًا للسياسات المؤيدة لإسرائيل التي استمرت خلال إدارتي بايدن وترامب. فما بدأه ترامب أثناء ولايته الأولى – من نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وقطع التمويل عن الأونروا – بنى عليه بايدن في ولايته الرئاسية. والآن، سيستأنف ترامب من حيث انتهى بايدن.
يفضل إسرائيليون كُثر ترامب على الديمقراطيين لأنهم يعتقدون أنه أكثر تساهلاً تجاه المشروع التوسعي الإسرائيلي. غير أن هذا الدعم يتجاهل تاريخ سياسة بايدن تجاه إسرائيل وفلسطين، والتي لم تكن وحسب شبه متطابقة مع سياسة سلفه قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وإنما حطمت الأرقام القياسية من حيث الدعم غير المشروط لإسرائيل، إذ قدَّم بايدن لإسرائيل دعمًا عسكريًا وسياسيًا ودبلوماسيًا أكثر من أي إدارة سابقة في خضم الإبادة الجماعية المستمرة التي ترتكبها إسرائيل.
وهكذا، وبينما يأمل الإسرائيليون بأن يساعدهم ترامب على “إتمام المهمة” بخطى أسرع، فإن هذه العملية قد بدأت بالفعل وستستمر بغض النظر عمَّن يجلس في المكتب البيضاوي. وكثيرون يتجاهلون أن جهود بايدن الدؤوبة للحيلولة دون عزلة إسرائيل وإخفاء تواطؤ الولايات المتحدة لربما تكون السبب الحقيقي في تمكين إسرائيل إلى حد الآن من الإفلات من العقاب على الإبادة الجماعية التي ترتكبها. السؤال الآن هو كيف سيتفاعل الأمريكيون والمجتمع الدولي الأوسع مع علاقة ترامب الأكثر صراحة مع إسرائيل وتواطؤه العلني في الإبادة الجماعية الفلسطينية.
ما تأثير ترامب على تعاطي الولايات المتحدة مع القيادة الفلسطينية؟
هناء الشيخ
إنّ من شبه المستحيل أن نناقش إدارة ترامب القادمة دون أن نعتبرَ الطبيعة غير المتوقعة للرئيس المنتخب ومقاربته في اتخاذ القرارات السياسية. لذا فإن من الأهمية بمكان أن نركِّزَ على جانبين رئيسيين من سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط في عهد ترامب: كيف قد تتعاطى الإدارة الأمريكية، إنْ تعاطت أصلًا، مع القيادة الفلسطينية، والآثار الملموسة لهذا التفاعل على الفلسطينيين.
تسعى إسرائيل وأنصارها في الولايات المتحدة إلى استنساخ الأجندة المعادية للفلسطينيين التي تبناها ترامب في ولايته الأولى، إلا أن من الواضح أن إدارته الثانية لن تكون مرآةً لإدارته الأولى. فقد تمحورت حملته الانتخابية حول حل الصراعات الخارجية من أجل التركيز على أجندة “أمريكا أولاً”، ومع تغير المشهد الإقليمي تغيرًا كبيرًا في الشرق الأوسط، يغدو من المعقول أن يعطي فريق ترامب الاستشاري الأولوية للأهداف الداخلية. فعلى سبيل المثال، عارضَ السيناتور ماركو روبيو، وهو أحد أبرز المرشحين لمنصب وزير الخارجية، مؤخرًا حزمة مساعدات طارئة لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان – ليس معارضةً لإسرائيل، وإنما لأن الخطة لم تشتمل على تمويل لحرس الحدود، وهو ما وصفه “ابتزازًا سياسيًا“. ترامب حريصٌ أيضًا على الحفاظ على اتفاقات آبراهام والعلاقات القوية مع السعودية والإمارات العربية المتحدة، ومن المرجح أن يعطي الأولوية لخفض التصعيد – وهي مصلحة متنامية داخل القاعدة الانتخابية الداعمة لشعار “اجعل أمريكا عظيمة مجددًا.” يمكن أن تؤدي هذه الدينامية المعقدة إلى إعادة ضبط التعاطي الأمريكي مع القيادة الفلسطينية، وهو ما قد يؤدي إلى التخلي عن المقاربات الحالية أو إعادة صياغتها.
على النقيض من الديمقراطيين، لا يُبالي ترامب بالحفاظ على ’النظام القائم على القواعد،‘ ومن الأرجح أن يتبنى قراءةً للمصالح الأمريكية من منطقٍ ضيق وعدواني أكثر Share on X
تواجه إدارة ترامب الثانية تحديات من مجلس وزراء منقسم بين دعاة الانعزالية وبين صقور الحرب الذين لربما يُقدِّمون المصالح الإسرائيلية على أجندة ترامب المحلية، لكن ترامب ما انفك يعارض الدخول في حرب شاملة مع إيران، وافترق عن جون بولتون بسبب هذه القضية. ولنائب الرئيس القادم جيه دي فانس أيضًا موقفٌ معارضٌ للحرب مع إيران، وقد أشار إلى أنه ماضٍ في معارضته لمقاربة الحرب. وهذا الموقف يتناقض بشدة مع توقعات نتنياهو بالدعم الأمريكي غير المشروط، الذي يزداد تعقيدًا بسبب مناورات ترامب غير المتوقعة في السياسة الخارجية.
في فترته الرئاسية المقبلة، يبدو أن ترامب سيواصل تحديه للتقاليد والبروتوكولات الأمريكية، معتمداً على تصنيفه كغريب عن المؤسسة التقليدية
. وقد بلغ الضغط النابع من قاعدته الانتخابية ذروته حينما اختار ترامب بأن يستبعدَ المحافظين الجدد مثل نيكي هيلي ومايك بومبيو من الأدوار الرئيسية، وهو ما زاد من احتمالية أن تقوم الإدارة المقبلة بتحدي التوقعات أكثر وأكثر. فعلى سبيل المثال، كشف إسماعيل هنية في العام 2020 أن مكتب جاريد كوشنر سعى إلى عقد اجتماع مع حماس عبر وسيط. غير أن حماس رفضت ذلك ليس من حيث “المبدأ”، وإنما لأن غرضه كان جليًا لقادة الحركة وهو إجبارها على إلقاء السلاح وقبول صفقة القرن. وفي حين لم يَعد التواصل من هذا القبيل محتملًا في حقبة ما بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، إلا أن سجل ترامب في تحدي التوقعات لا يزال صفةً مميزة له – فمثلًا كان أول رئيس أمريكي متربع على السلطة يدخل أراضي كوريا الشمالية بعد الحرب الكورية حين التقى بكيم جونج أون في المنطقة منزوعة السلاح سنة 2019.
قطعت منظمة التحرير الفلسطينية علاقاتها بترامب على خلفية نقل السفارة الأمريكية إلى القدس في 2017، وادعت السلطة الفلسطينية علنًا أنها أنهت التنسيق الأمني مع الولايات المتحدة وإسرائيل احتجاجًا على صفقة القرن. وقد أُعيد فتح قنوات الاتصال في أعقاب الانتخابات الأمريكية، حيث تحدَّث ترامب وعباس هاتفيًا بشأن وقف إطلاق النار في غزة. وقبلها بأيام، اجتمعت حماس وفتح في القاهرة لمناقشة ترتيبات ما بعد الحرب، واتفقتا على “لجنة إدارية في غزة” تكون مستقلة فصائليًا وتتكون من تكنوقراط وموظفين حكوميين مكلفين بأعمال الإغاثة بعد الحرب. وعلى الرغم من تشرذم الجسم السياسي الفلسطيني، إلا أنّ هذا الاتفاق، مشفوعًا بنظرة ترامب الإيجابية لعباس، قد يؤثر على جهود الوساطة الأمريكية.
لعل اهتمام ترامب باستئناف المحادثات مع عباس كان مدفوعًا بنظرته الإيجابية للرئيس الفلسطيني واعترافه بنظرته إلى نتنياهو بقوله: “لا أعتقد أن بيبي كان يريد السلام مطلقًا.” وفي حين تصالحَ ترامب علنًا مع نتنياهو بعد الخلاف الذي أحدثته رسالة التهنئة التي وجهها رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى بايدن في 2020، إلا أن ترامب يُقدر الولاء لنفسه فوق كل اعتبارٍ آخر، وثمة شعور ملموس بالقلق في أوساط المعلقين المؤيدين لإسرائيل وفي المنشورات الإسرائيلية. ولم يكن أيًا من هذا مطروحًا على الطاولة في 2016.
إذا أوفى ترامب بوعوده الانتخابية بإنهاء الحروب، يكون الفلسطينيون أمام سيناريوهين: أولاً، قد يُفضي السعي لتحقيق الاستقرار الإقليمي إلى ترتيبات تتوسط فيها واشنطن وتصب في مصلحة إسرائيل وتحدُّ في الوقت نفسه من إراقة الدماء في غزة ولبنان. ولربما يتوقف التقدم السياسي، ولكن قد يتسنى تجنب الضربات الشديدة مثل وقف تمويل الأونروا، وهو ما سيسمح بإعادة إعمار غزة. قد يستلزم هذا السيناريو توسيع اتفاقات آبراهام، لتشمل مثلًا التطبيع السعودي – وهو إنجاز لم تتمكن إدارة بايدن من تحقيقه من خلال مقاربتها الحاضنة لإسرائيل – لقاء خفض التصعيد الإسرائيلي. ثانيًا، قد يتخلى ترامب عن جهود السلام كليًا، ويمنح إسرائيل تفويضًا مطلقًا للضم والتطهير العرقي وتقويض المؤسسات الفلسطينية مثل الأونروا وسيكون لهذا عواقبُ وخيمةٌ على الفلسطينيين.
في كل الأحوال، سيتعين على الفلسطينيين أن يستعدوا لفترة رئاسية متقلبة وغير متوقعة. فبعد مرور عام على المشاركة النشطة لإدارة بايدن في الإبادة الجماعية في غزة، التي أسقطت النظام الدولي الذي فرضته الولايات المتحدة منذ قرابة قرنٍ من الزمان، قد تتغير المعايير الأمريكية المتبعة في التعامل مع العالم ــ ولن يكون التعامل مع القيادة الفلسطينية استثناءً.
ماذا تعني إدارة ترامب القادمة بالنسبة للسياسة الأمريكية في المنطقة العربية؟
عبد الله العريان
يثير انتخاب ترامب مؤخرًا تساؤلات مُلحة حول طريقة إدارته المقبلة في التعاطي مع السياسة الخارجية مقارنةً بسلفه. الإجابة باختصار: ستكون طريقة التعاطي مشابهة تمامًا، لأن المنظور الاستراتيجي الأساسي للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط يتحدد على المستوى البنيوي في المقام الأول، والذي غالبًا ما يُملي الخيارات السياساتية، ما يؤدي إلى فروقات ملموسة ضئيلة بين الإدارات. غير أن ترامب أظهر إصراره على اختبار حدود الممارسة السياساتية الراسخة، وهو ما قد يُخلِّف عواقب كارثية في المستقبل في لحظةٍ عصيبة كهذه.
يؤكد المنتقدون الليبراليون في كثير من الأحيان أن ولاية ترامب الأولى كانت بمثابة قطيعة كبرى مع السياسة الخارجية الأمريكية التقليدية. ورغم أن ترامب قد تخلى بالفعل عن البروتوكول الدبلوماسي التقليدي، وشرَعَ أحيانًا في مشاريع شخصية في ميدان الشؤون العالمية، إلا أن مبادراته في الشرق الأوسط لم تمثل انحرافًا جذريًا، بل كانت خطوةً تطورية في درب السياسة الأمريكية التقليدية. فبدلا من العمل على عكس إنجازات ترامب الإقليمية ــ مثل إلغاء الاتفاق النووي مع إيران المبرم في عهد أوباما أو نقل السفارة الأمريكية إلى القدس ــ لم تكن الأولوية القصوى لبايدن في المنطقة سوى البناء على إنجاز ترامب الأبرز، وهو التوسع في تطبيع العلاقات بين إسرائيل والأنظمة العربية ليشمل المملكة العربية السعودية ــ وهو المشروع التطبيعي الذي توقف وإنْ كان مؤقتًا على الأقل في السابع من تشرين الأول/أكتوبر.
يمكن تلخيص السياسة الأمريكية في المنطقة في العقد الذي سبقَ أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر على النحو التالي: احتواء إيران مع إضعاف حلفائها الإقليميين تدريجيًا، واستدامة التفوق العسكري الإسرائيلي مع تعزيز الأنظمة العربية العميلة وتنظيمها في إطار أمني مشترك مدعوم بالتطبيع الدبلوماسي والتكامل الاقتصادي، وعزل الفلسطينيين أكثر وإخراج مسألة مستقبلهم السياسي من الأجندة العالمية إلى الأبد.
تسعى إسرائيل وأنصارها في الولايات المتحدة إلى استنساخ الأجندة المعادية للفلسطينيين التي تبناها ترامب في ولايته الأولى، إلا أنّ من الواضح أن إدارته الثانية لن تكون مرآةً لإدارته الأولى Share on X
وعندما شنَّت إسرائيل حربها الإبادية في غزة الخريف الماضي، اتضحَ لصناع السياسات في الولايات المتحدة أنّ هذا الترتيب لم يعد قابلاً للاستمرار. ولذا اتخذت إدارة بايدن مسارًا جديدًا تابعًا إلى حدٍ كبير لقيادة الحكومة الإسرائيلية الحالية، والتي حولت لحظة الأزمة التي أعقبت السابع من تشرين الأول/أكتوبر إلى فرصة لإعادة رسم المشهد الإقليمي بقوة من خلال تقليص القدرات العسكرية لحركات المقاومة الإقليمية، إنْ لم يكن تدمير تلك المنظمات عن بكرة أبيها.
لقد كان من الواضح منذ بداية الحرب الإسرائيلية أنّ هجومها الإقليمي المتوسع سيستلزم في نهاية المطاف مواجهةً مباشرة مع إيران، وهي نقطة اختلاف قلَّما تقع بين المسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين. فبالرغم من أن الولايات المتحدة دعمت الإجراءات الإسرائيلية المتعددة التي هدفت إلى إضعاف إيران ــ في تصعيدٍ كبير عن موقفها السابق المتمثل في احتواء إيران ــ سعت إدارة بايدن إلى تجنب حرب شاملة تُورِّط قواتها العسكرية.
قد ترى القيادة الإسرائيلية في ترامب فرصةً لتجاوز مؤسسة السياسة الخارجية وجرّ الولايات المتحدة إلى الانخراط على نحو مباشرٍ أكثر في هذا الصراع. ومن غير الواضح ما إذا كان ترامب سينصاع لتلك المحاولات، حيث أشار مرارًا وتكرارًا إلى أنْ لا مصلحة له في التورط العسكري طويل الأجل نظرًا لتأثيره السلبي على الاقتصاد وهيبة ترامب الشخصية – وهما عاملان لهما الأولوية. غير أن هناك أعضاءً في الدائرة المصغرة لترامب متوافقون تمامًا مع أهداف اليمين الإسرائيلي المتطرف المتمثلة في توسيع الصراع مع إيران، لذا فإن هذا الاحتمال يظل قائمًا.
هدَّدت التطورات التي شهدها العام الماضي بإسقاط ما يسمى “النظام القائم على القواعد” الذي أنشأته الولايات المتحدة وحلفاؤها لتنظيم العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية. وبفضل هذا النظام، المبني على عدد من المؤسسات والممارسات الدولية ومجموعة من قواعد القانون الدولي وحقوق الإنسان، اكتسبت الولايات المتحدة المصداقية والنفوذ والقدرة اللازمة على التحجج بادعاءات أخلاقية للتدخل كما تراه مناسبًا، ليس في الشرق الأوسط وحسب وإنما في بقاع العالم قاطبةً، وليست حرب أوكرانيا سوى أحدث تجليات هذا النظام.
لكن على النقيض من الديمقراطيين، لا يُبالي ترامب بالحفاظ على “النظام القائم على القواعد” ومن الأرجح أن يتبنى قراءةً للمصالح الأمريكية من منطقٍ ضيق وعدواني أكثر وهو ما قد يؤدي إلى زعزعة استقرار هذا النظام أو انهياره بالكامل. وفي حين لم تبذل إدارة بايدن الكثير من الجهد كي تلجمَ حرب إسرائيل على منظمة الأمم المتحدة، بل وأعانتها في ذلك من خلال إجراءاتها العقابية ضد الأونروا، إلا أنه من غير المرجح أن ينزعج ترامب من تداعيات هذا الصراع على مستقبل الأمم المتحدة ككل، ومن المرجح أن يدعم تفكيك الأونروا.
من الواضح أن ترامب يرى مستقبل الفلسطينيين شعبًا أسيرًا داخل نظام أمني إسرائيلي برعاية دول الخليج الاستبدادية. وبغض النظر عن نتيجة الانتخابات الرئاسية، كان مؤكدًا أنها ستجلب المزيد من الويلات والدمار على المنطقة وشعوبها. إن صعود ترامب الأخير يُحقِّق وضوحَ الغاية دون عبء قشرة الليبرالية الرقيقة.
ماذا ينتظر نشاطَ التضامن مع فلسطين في الولايات المتحدة؟
آندرو القاضي
ثمة مصادر عديدة قد تساعدنا على فهم ما يعنيه فوز ترامب بالرئاسة للمرة الثانية بالنسبة إلى النشاط الداعم لتحرير فلسطين في الولايات المتحدة. فإدارة ترامب الأولى، ووعوده الانتخابية في 2024، والمنشورات الأخيرة لمراكز الفكر المرتبطة بترامب، تُنبئ مجتمعةً ببيئة قمعية للتنظيم الشعبي.
عبَّرَ ترامب بقوة إبان رئاسته الأولى عن دعمه التوسع الإسرائيلي والاحتلال العسكري، وعمدَ بموازاة ذلك إلى إسكات الأصوات المعارضة في الولايات المتحدة – ولا سيما بالمساواة بين انتقاد إسرائيل ومعاداة السامية. وفي 2017، رشَّح ترامب كينيث ماركوس ليكون مساعدًا لوزير الحقوق المدنية في وزارة التعليم. ولطالما دعا ماركوس، مؤسس مركز براندايس لحقوق الإنسان، إلى المساواة بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية قاصدًا قمعَ الانتقادِ الموجه للحكومة الإسرائيلية والنشاطِ المتضامن مع الفلسطينيين.
واصلَ ماركوس هذه الحملة أثناء عمله في وزارة التعليم ونجحَ في الحشد من أجل إصدار أمرٍ تنفيذي شامل في العام 2019 يُدرج التمييز المعادي للسامية تحت الباب السادس من قانون الحقوق المدنية. الأدهى من ذلك أنّ أمر ترامب يتبنى تعريف معاداة السامية كما حدّده التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست، والذي يركز في المقام الأول على دولة إسرائيل ويُصنِّف أي وصف للمشروع الصهيوني بأنه مسعى عنصري على أنه وصف معاد للسامية. ومنذ العام 2021، شغلَ ماركوس منصبَ رئيس مركز براندايس، واستند إلى الباب السادس المعدَّل لرفع ما لا يقل عن اثنتي عشرة شكوى بمعاداة السامية ضد مؤسسات تعليمية، معظمها قائم على انتقاد إسرائيل. وقد كان لهذه الشكاوى تأثير مخيف على حرية التعبير في الأماكن التعليمية.
لدى إدارة ترامب القادمة استراتيجيةٌ واضحة... تركز على استخدام الإسلاموفوبيا واتهامات معاداة السامية سلاحًا لقمع حركة التضامن مع فلسطين Share on X
إن عودة ماركوس إلى وزارة التعليم، أو أي وكالة فيدرالية مستقبلية تُشرف على التعليم، أمرٌ ممكن، ولا سيما في ضوء الجهود الأخيرة التي بذلها الجمهوريون المتحالفون مع ترامب في لجنة التعليم والقوى العاملة لاستهداف نشاط التضامن مع فلسطين في الجامعات. بل إنّ جلسات الاستماع التي عقدتها اللجنة ومجلس الشيوخ بشأن معاداة السامية في الجامعات على مدى العام الماضي أظهرت مشاعر فجّة معادية للفلسطينيين والإسلام وكشفت عن معارضة أيديولوجية لحرية التعبير في السلطة التشريعية. ومن المؤكد أن هذه المعارضة وجهودًا مشابهة من جانب السلطة التنفيذية في ظل إدارة ترامب القادمة سوف تخلق جوًا كارثيًا للتعليم والنشاط المرتبط بفلسطين في الجامعات وفضاءات التعليم الأخرى.
استهدفت إدارةُ ترامب السابقة حركةَ المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات. بل إن الأمر التنفيذي المذكور أعلاه يهدف إلى وصم مبادرات المقاطعة وسحب الاستثمارات في الجامعات بأنها معادية للسامية. وفي عام 2020، شدَّدَ وزير الخارجية مايك بومبيو على جهود الإدارة الأمريكية في مكافحة حركة المقاطعة التي وصفها بأنها “سرطان” و”مظهر من مظاهر معاداة السامية”. وفي مؤتمر صحفي مشترك مع نتنياهو، صرح بومبيو أنّ معاداةَ الصهيونية هي معاداةٌ للسامية وأنّ الإدارة ستقطع التمويل عن المنظمات المشاركة في حملات حركة المقاطعة أو التي تؤيدها.
إنَّ جوهر خطة ترامب التي تستهدف حركةَ التضامن مع فلسطين ومعاونيها في ولاية ثانية تشبه أساليب الحرب على الإرهاب في حقبة ما بعد 11 أيلول/سبتمبر والتي أجّجها التمييز المتفشي ضد العرب وكراهية الإسلام. واليوم، يقترح فريق ترامب ومراكز الفكر المرتبطة به، مثل معهد أمريكا أولاً للسياسات، ومؤسسة التراث، تلفيق روابط مزيفة بين منظمات حقوق الفلسطينيين والكيانات المصنفة على أنها إرهابية في الولايات المتحدة لعرقلة الجهد التنظيمي المتضامن مع فلسطين. مشروع إستر، الذي أطلقته مؤسسة التراث في تشرين الأول/أكتوبر 2024، هو منتج منبثق عن فريق العمل الوطني لمكافحة معاداة السامية، وهو خطة من عدة خطط تضع استراتيجيات محددة لتعطيل الحركة من الداخل باتباع أساليب تشمل ترحيل الطلاب الدوليين، واستخدام قانون المنظمات الفاسدة والمتأثرة بالابتزاز للضغط على المنظمات، والتسلل إلى الحركة لبث عدم الثقة بين المنظمين.
بحسب ما ورد، ترامب اطلع المانحين بأنه سيعمل على إعادة حركة الحقوق الفلسطينية إلى الوراء بمقدار 25 إلى 30 عامًا. والجدير بالذكر أن ترامب اختار ليندا ماكماهون، رئيسة معهد أمريكا أولاً للسياسات، لقيادة الفريق المشرف على انتقال السلطة لولايته الثانية. يضم مجلس إدارة المعهد وموظفوه أربعةَ مسؤولين سابقين على الأقل في إدارة ترامب، بمن فيهم كيليان كونواي ومديري السياسات المحلية البارزين بروك رولينز وتشاد وولف. وقيل أيضًا إن ترامب يفكر في اختيار لي زيلدين من المعهد لكي يترأس وكالة حماية البيئة.
أطلقَ ترامب كذلك دعوات إلى عسكرة الشوارع وقمع الاحتجاجات. وأشار أثناء حملته الانتخابية في 2024 إلى أنه سوف ينشر الجيش إذا انتُخِب وتحدث مرارًا عن “العدو الداخلي.” يعكس هذا النهج مقاربة إدارته الأولى، عندما نشر الحرس الوطني في 23 ولاية ومقاطعة كولومبيا أثناء انتفاضة العام 2020 التي هبت انتصارًا لحياة السود، إلى جانب وكالات إنفاذ القانون الفيدرالية التي لا تتواجد عادة في الاحتجاجات.
تأتي دعوات ترامب لعسكرة الشارع بالتوازي مع تمكينه لبلطجة حركة اجعل أمريكا عظيمة مجددًا، حيث يحرض الجماعات العنيفة مثل براود بويز على ترهيب الناشطين. وهذا ما حصل في حادثة إطلاق كايل ريتنهاوس النار في كينوشا بولاية ويسكونسن، وحضور ميليشيا ميشيغان ليبرتي في مبنى حكومة ولاية ميشيغان أثناء فعالية تدعو إلى تعزيز الصحة العامة.
إنّ استراتيجية إدارة ترامب المقبلة لقمع حركة التضامن مع فلسطين واضحة: استخدام الإسلاموفوبيا واتهامات معاداة السامية سلاحًا لإسكات الانتقادات الموجهة إلى الدعم الأمريكي للدولة الإسرائيلية، وترهيب النشاط المستقبلي المحتمل. سوف يعمل الجمهوريون في السلطة على تعزيز هذه الاستراتيجية بواسطة تكثيف الجهود للحدّ من الحريات المدنية، وتفكيك البنية التحتية للتعليم، وحظر انتقاد المشروع الصهيوني.
- لقراءة هذا النص باللغة الفرنسية، اضغط/ي هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.