قدم مستشارون لشؤون السياسات في الشبكة على مدار الأسابيع القليلة الماضية تعليقات على ورقة نادية حجاب المعنونة “ماذا لو نجحت محادثات السلام.” وفيما يلي التعليقات التي قدمها المستشارون بشير أبو منة، وعلي أبو نعمة، ونصير عاروري، وديانا بوتو، وماري نزال البطاينة، ومعين رباني، وسماح سبعاوي. وقد برزت عدة مواضيع رئيسية كما تبين المقتطفات التالية المأخوذة من كل تعليق.
بشير أبو منة: إن التحدي الأكبر الذي يواجه الشعب الفلسطيني اليوم هو التعبئة التشاركية وذاتية التنظيم. كما إن هذه التعبئة هي المصدر المتاح الأفضل من أجل التحرير الفلسطيني.
ماري نزال البطاينة: تحتاج هذه [القضية الصعبة] نقاشا عمليا إذا ما أردنا تفعيل التوصية الرامية إلى توحيد الجسم السياسي.
سماح سبعاوي: على الرغم من نجاح اللجنة الوطنية للمقاطعة نجاحا كبيرا في الوصول إلى حركة التضامن الدولي، فإنها بحاجة أيضا لامتلاك برنامج يستهدف على وجه التحديد إشراك الجاليات الفلسطينية في الشتات.
معين رباني: في حين أن بوسع [حركة المقاطعة ونداء المجتمع المدني الفلسطيني] أن يضطلعا بدور مؤكد، فإن المجتمع الفلسطيني يظل مجتمعا تقوم الحركات السياسية في إطاره بتحديد مجريات الأمور وتضع المؤسسات جدول الأعمال. إن ضعف هذه الحركات والمؤسسات هو تحديدا ما يتسبب في تراجع النضال من أجل إعمال حق الفلسطينيين في تقرير المصير بدلا من أن يتقدم.
علي أبو نعمة: ما لم نرد على هذا [الطرح] بحزم، فإني أتكهن بأن أفكار [وزير الخارجية الإسرئيلي أفيغدور] ليبرمان القذرة سرعان ما ستحظى بالقبول لدى التيار السائد بوصفها “تنازلات معقولة.” إن هذه العملية المتمثلة في تبني أفكار متطرفة معادية للفلسطينيين ومن ثم تلميعها تفسر تحديدا كيف وصلنا إلى هذه الحال المؤسفة في الوقت الراهن.
نصير عاروري: بصرف النظر عن التحليل المتبع، يظل هناك تساؤل جوهري مُلحّ: أين هي الجبهة الداخلية؟
ديانا بوتو: نظرا لعدم قدرة منظمة التحرير الفلسطينية على التأكيد التام على أنها الممثل لكافة الشعب الفلسطيني، ينبغي النظر في إمكانية أن تقوم المنظمة بالتوقيع على بند “إنهاء الصراع” مثلما تطالبها إسرائيل باستمرار.
بشير أبو منة: تقرير المصير يتطلب ديمقراطية
لا حاجة للقول بإنني أعارض هذه المحادثات (لأنها شكل من أشكال الرضوخ الفلسطيني) وأؤمن بأن وضع استراتيجية للتحرير الفلسطيني (كما طرحتها وثيقة الأسرى الصادرة في حزيران/يونيو 2006) هي الرد الأنسب على الاستعمار الإسرائيلي. ولكن دعونا نفترض جدلا بأننا استيقظنا السنة القادمة ووجدنا أوباما يرحب بانضمام الفلسطينيين كعضو جديد في الأمم المتحدة. ماذا ينبغي لمناصري القضية الفلسطينية أن يفعلوا حينها؟
ما يعارضه مناصرو الفلسطينيين وما يقلقهم هو أن تحتكر السلطة الفلسطينية كرسي السلطة من خلال ممثلين غير شرعيين وغير منتخبين. لقد ظلت المشكلة الفلسطينية الرئيسية على مدار العامين الماضيين تتمثل في قيام الغرب وعناصر فلسطينية داخلية بشن هجوم على الحكومة الفلسطينية الديمقراطية المنتخبة بحرية ونزاهة ومقاطعتها وممارسة أساليب القمع الوحشي بحقها. فحتى ضمن إطار نظام أوسلو ضيق النطاق، فإن الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال قد شاركوا فعلا في الانتخابات واختاروا بملئ إرادتهم حركة حماس. فهم أيضا حُرموا اختيارهم الديمقراطي. لذا، يبدو لي بأن جزءا رئيسيا من الرد على السيناريو غير المرجح لإبرام اتفاقية سلام ناجحة يتمثل في طرح القضية للاستفتاء العام، أي السماح للفلسطينيين بممارسة حقهم في تقرير المصير والتقرير فيما إذا كانوا يقبلون الاتفاق أم لا. وسوف تسعى النخبة في السلطة الفلسطينية على الأرجح إلى عقد الاستفتاء في الأراضي الفلسطينية المحتلة فقط (بل وربما في الضفة الغربية وحسب).
على سبيل الرد، يستطيع مناصرو القضية الفلسطينية أن يُصرّوا (إذا قررت الأطراف الرئيسية المشاركة في الاستفتاء) على أن حق تقرير المصير يقتضي السماح لكل الفلسطينيين (أينما وجدوا) بالتصويت على أي اتفاق محتمل. وهذه هي الطريقة الأفضل لحماية الحقوق الفلسطينية – دون تصنيمها أو التسليم بأنها راسخة. إن حق تقرير المصير لا يحدث في فراغ، فهو يتطلب ديمقراطية فلسطينية تُمارَس ضمن حدود القانون الدولي والمعايير العالمية. وما تقريرُ المصير لشعب مُضطهد إلا ممارسةٌ للديمقراطية التشاركية.
أنا أقول ذلك لأنني أعتقد بأن الوقت الراهن هو أفضل وقت للإصرار على الديمقراطية الفلسطينية، وأفضل وقت للدعوة إلى نشر العمل التنظيمي الفلسطيني على المستوى القاعدي في جميع أنحاء العالم. لطالما ظلت مشكلة منظمة التحرير الفلسطينية متمثلة في غياب الديمقراطية وانعدام المساءلة الشعبية. وينبغي أن يكون الرد على فشلها التاريخي متمثلا في المحافظة على تلك القيمة الوحيدة التي عكفت منظمة التحرير الفلسطينية على تقويضها باستمرار ألا وهي الديمقراطية. وهذا لا يشير فقط إلى السياسة الوطنية وإنما إلى كافة أشكال التنظيم الفلسطيني. فما من سبيل إلى الديمقراطية وتقرير المصير من خلال وسائل غير ديمقراطية. وهذه هي أفضل طريقة لضمان تمثيل أصوات اللاجئين الفلسطينيين على قدم المساواة مع فلسطينيي 1967 و1948. إن التعبئة التشاركية وذاتية التنظيم هي أكبر تحدٍ يواجه الشعب الفلسطيني اليوم. وهي أيضا المصدر المتاح الأفضل من أجل التحرير الفلسطيني.
ماري نزال البطاينة: التصدي للواقع على الأرض
ملاحظتان سريعتان بخصوص توحيد الجسم السياسي:
1- ثمة حاجة ملحة كي نساعد الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة في البقاء في أراضيهم، ولا سيما في القدس الشرقية. فلقد لمست مؤخرا بين المقدسيين شعورا عاما بالوحدة، وبعدم الدعم، وبعدم وجود الحافز الحقيقي لمواصلة الصمود. يدعم بعض الفلسطينيين مشاريع لإحياء القدس الفلسطينية، ويساعدون في توظيف المقدسيين في المتاجر والأعمال الفلسطينية، وما إلى ذلك، ولكن ما زال هناك الكثير الكثير الذي يتعين فعله.
2- يجب أن يبقى الفلسطينيون في المنفى على اتصال حسيّ بالأرض. غير أن هناك بعض العقبات التي تحول دون ذلك، حتى وإن كنت تعيش في الأردن وهو البلد المجاور. فعلى سبيل المثال، إن من شبه المستحيل على الأردنيين من أصل فلسطيني الحصول على تأشيرة لزيارة الأراضي الفلسطينية المحتلة. وهناك عقبة أخرى تتمثل في حركة مناهضة التطبيع – التي لا أختلف معها في العادة على الإطلاق – والتي تنتقد علنا أي أردني من أصل فلسطيني يختار زيارة الأراضي الفلسطينية المحتلة. ترى الحركة بأنه لا ينبغي لأحد زيارة الأراضي الفلسطينية المحتلة إذا كان يتعين عليه أخذ الإذن من إسرائيل. لذا، فالأمر مقبول بالنسبة للفلسطينيين من حملة جوازات السفر الأجنبية، ولكن بالنسبة للمواطن الأردني العادي، فإنه غير مقبول إطلاقا. وهذه قضية صعبة تحتاج إلى مناقشة عملية إذا ما أردنا تفعيل التوصية الرامية إلى توحيد الجسم السياسي.
سماح سبعاوي: جسر الهوة بين الجاليات والناشطين
سوف أعلق هنا فقط على الحاجة إلى إشراك الفلسطينيين في المنفى. إن تجربتي في كندا وأستراليا تقودني إلى الاعتقاد بأن هنالك شرخا كبيرا بين الناشطين في حركة التضامن الدولية والجاليات الفلسطينية. فمعظم الجاليات تقيم فعاليات اجتماعية، ولكن حينما يتعلق الأمر بعقد محاضرات واحتجاجات وحلقات عمل، فمن الصعب أن تجد في أحسن الأحوال أكثر من بضعة أشخاص ضمن الحضور. إن من الصعب أن تدفع هذه الجاليات للمشاركة وذلك لعدة أسباب. أولها هو أن الجاليات يقودها في أغلب الأحيان الجيل الأول من المهاجرين الذين تعترضهم حواجز لغوية وثقافية تحول بينهم وبين الناشطين المناهضين للحرب المتواجدين في بيئاتهم الجديدة. والسبب الثاني يتمثل في الحرب على الإرهاب التي أخافت الكثير من الجاليات العربية وتركت الكثير من الفلسطينيين المغتربين خائفين من الانخراط سياسيا أكثر من اللازم خشية أن يفقدوا وضعهم القانوني أو أعمالهم التجارية أو حتى حريتهم. وفي هذا الصدد، عززت التدابير الوحشية الأخيرة المتجلية في الغارات التي شنها مكتب التحقيقات الفدرالي (أف بي أي) على منازل ناشطين في الولايات المتحدة هذه المخاوف. أما السبب الثالث فقد يكون ناجما عن الانقسام السياسي في فلسطين المحتلة الذي أدى بدوره إلى انقسام الجاليات في الخارج وإلى تشكك الكثيرين منهم إزاء جدوى التمثيل والانخراط على الصعيد السياسي. لقد أدت جميع هذه الأسباب إلى إبقاء غالبية الفلسطينيين في المنفى خارج عالم النشطاء. والكثير منهم لا يعرفون حتى ما المقاطعة ولا كيف يكونون جزءا من هذه الحركة الجديدة.
على الرغم من نجاح اللجنة الوطنية للمقاطعة نجاحا كبيرا في الوصول إلى حركة التضامن الدولي، فإنها بحاجة أيضا لامتلاك برنامج يستهدف على وجه التحديد إشراك الجاليات الفلسطينية في الشتات. فنحن بحاجة لأن نُظهر لهم بأن هنالك خيارات أخرى متاحة للمساعدة تتجاوز الواقع الراهن المتوقف، وتستند إلى القانون الدولي، وتنتمي إلى صف المقاومة غير العنيفة، وهي لن تعرضهم للخطر بينما يعملون على بناء حياتهم وتنشئة أسرهم في بيئاتهم الجديدة.
إن الوقت ليس في صالحنا. كما إن الهوة بين القيادة الفلسطينية والفصائل وتطلعات الشعب الفلسطيني لم يسبق لها وأن كانت بهذا الاتساع. إن من أهم ما أبرزته نادية حجاب النقطة التالية: لو أن سلام فياض أعلن دولة فلسطينية في عام 2011، فإن من شأن ذلك أن يعطي فقط “المظهر الذي يوحي “بانتهاء الصراع” في حين يظل الواقع كما هو دون تغيير. وإذا ما رأى العالم بأن حكومة “فلسطين” راضية باعتراف دولي بها وبمنحها مقعدا لدى الأمم المتحدة، فسيكون من دواعي سروره أن يتجه لحل مشاكل أخرى ويترك الفلسطينيين تحت رحمة إسرائيل.” نحن بحاجة لإطلاق حملة تثقيفية شرسة قادرة على تمكين الفلسطينيين في المنفى وحثهم على الانخراط. فمساهمتهم مهمة الآن أكثر من أي وقت مضى.
معين رباني: حدود القوى غير السياسية
إن التمعن في إطار عمل المفاوضات الجارية كاف لأن يدرك المرء كيف أن أي اتفاقية قد تنبثق عن هذه المفاوضات سوف تضع أمام الفلسطينيين وأمام حركة الكفاح من أجل تقرير المصير تحديات أكبر بكثير من مجرد فشلها. فراعي المفاوضات – الولايات المتحدة – ضَمِن انطلاق المفاوضات دون أي إشارة إلى – ولا تعهد مُلزم – بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي ولا بمجموعة القوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة التي بمقدورها أن تكون بمثابة دليل لمفاوضات جادة. كما إن هذا الراعي لم يستبعد كل طرف دولي آخر من القيام بأي دور في المفاوضات وحسب، وإنما أصرّ على السماح لأنشطة إسرائيل المُرسِّخة للاحتلال – ولا سيما تهويد مدينة القدس بوتيرة أكبر والتوسع الاستيطاني المتواصل في الضفة الغربية – بالاستمرار أثناء انعقاد المفاوضات.
يُقدم ما سبق مؤشرا قيّما ينبؤنا بما ستؤول إليه الأمور. وباختصار، لقد حُوِّل مفهوم الدولة الفلسطينية منذ عملية أوسلو من وسيلة لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي إلى آلية لإدامة السيطرة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني. وهذا لا يعني بالضرور أن قيام الدولة سوف يتحقق، ولكنه يقترح بأن السيناريو الأرجح سيكون على غرار اتفاق مؤقت طويل الأجل قد ينطوي على قيام دولة مؤقتة أو حتى كيان فلسطيني رسمي يفتقر إلى السمات الأساسية للسيادة.
وعلى الجانب الفلسطيني من المعادلة، هناك أسباب متنوعة تقف وراء المأزق الراهن، وأبرزها محمود عباس وانخراطه اللامشروط فعليا في جدول الأعمال الأمريكي-الإسرائيلي. كما إن الانقسام الفلسطيني وضمور المؤسسات عاملان رئيسيان ولا شك. غير أن القضية الأساسية تظل متمثلة في التفتت بأشكاله المتعددة، إضافةً إلى التسريح المستمر لمعظم الشرائح الفلسطينية.
إن مصدر اختلافي الرئيسي مع نادية حجاب هو هذه النقطة الأخيرة. فمن دون الخوض في حسنات المقاطعة أو في مدى تمثيل نداء المجتمع الفلسطيني الصادر في عام 2005 للإجماع الفلسطيني، فإني أشكك في مدى قدرة المقاطعة ونداء المجتمع الفلسطيني على إحراز تقدم بارز على صعيد تحقيق البنود التي ذكرتها نادية في توصيتها. إن حركة المقاطعة ونداء المجتمع الفلسطيني قادران على القيام بدور مؤكد، ولكن المجتمع الفلسطيني يظل مجتمعا تقوم الحركات السياسية في إطاره بتحديد مجريات الأمور وتضع المؤسسات جدول الأعمال. إن ضعف هذه الحركات والمؤسسات هو تحديدا ما يتسبب في تراجع النضال من أجل إعمال حق الفلسطينيين في تقرير المصير بدلا من أن يتقدم. وفي رأيي، فإن حركة المقاطعة ونداء المجتمع الفلسطيني لا يملكان القدرة على تعبئة الناس وتنظيمهم في إطار كفاح منضبط وناجح من أجل الحرية.
علي أبو نعمة: تحديات هائلة وموقف قوي
حتى وإن كان مُقدراً لدولة بانتوستانات [فلسطينية] أن تفشل على المدى البعيد، فإذا تمخضت “عملية السلام” عن دولة، فإنها ستكون على الأرجح مجرد إلهاءٍ مؤلم وطويل الأجل للشعب الفلسطيني. إن ما أخشاه هو أن “رؤية” الدولة الفلسطينية في ذهن المحور المناهض للفلسطينيين الذي يضم أوباما وإسرائيل والسلطة الفلسطينية المغتصبة – منظمة التحرير الفلسطينية – والعرب “المعتدلين” ستكون في أحسن الأحوال شيئا ما ككوسوفو: محتلة من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، مدعومة بمعونة الاتحاد الأوروبي، ومثقلة بالفساد. إن مصالح الجميع سوف تعمل على استمرار هذه الدولة المسخ بينما تتواصل معاناة الشعب الفلسطيني.
يتوجب علينا في نضالنا أن نؤكد على حقوق كل الفلسطينيين – وهذا ما تفعله مبادئ حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات. إن صنم “الدولة” الذي يركز عليه المحور المناهض للفلسطينيين يخدم في أحسن أحواله فلسطينيي الضفة الغربية (وربما قطاع غزة في نهاية المطاف) ولكن على حساب جميع الفلسطينيين الآخرين. بل إن معظم الناس في غزة والضفة الغربية لن يستفيدوا، لأن نخب رام الله الفاسدة والمدعومة من إسرائيل سوف توطد سطوتها.
إن خطاب ليبرمان في الأمم المتحدة الداعي “لتبادل السكان” يذكرنا بأهمية إعادة بناء التضامن بين الفلسطينيين – ولا سيما مع الفلسطينيين على أراضي عام 1948 – الذين ما زالوا يواجهون تهديدا وجوديا متناميا من الحركة الصهيونية. وما لم نرد على هذا الطرح بحزم، فإني أتنبأ بأن أفكار ليبرمان القذرة سرعان ما ستحظى بالقبول لدى التيار السائد بوصفها “تنازلات معقولة.” إن هذه العملية المتمثلة في تبني أفكار متطرفة معادية للفلسطينيين ومن ثم تلميعها تفسر تحديدا كيف وصلنا إلى هذه الحال المؤسفة في الوقت الراهن.
من دون التقليل بأي حال من الأحوال من شأن التحديات الهائلة التي تواجه الفلسطينيين، فإني أقل تشاؤما من معين رباني. إن الفلسطينيين في الوقت الحاضر في موقف ضعيف للغاية، ولكن إذا ما نظرنا للأساسيات – وهي أكبر من الشخصيات أو الخصوصيات في هذه الحركة أو تلك – فسنجد بأن الفلسطينيين في الواقع في موقف جيد جدا.
إن الفلسطينيين متفوقون ديموغرافيا. أما سياسيا وأخلاقيا، فهم يضعون الصهيونية في موقع ضعيف وبائس. ضع نفسك في موقف الصهاينة. ماذا ستكون استراتيجيتك؟ فإذا كان الهدف هو تأمين شرعية إسرائيل وقوتها للأبد، فإن ذلك لا يبدو في وضع جيد. فما من سبيل لذلك. أنا أشبّه إسرائيل في كثير من الأحيان بشخص ثري ينفق رأس ماله بسرعة (وهو في هذه الحالة رأس مال سياسي وشرعي وأخلاقي) ولكن ليس لديه دخل. أما الفلسطينيون من الناحية الأخرى، فهم فقراء، ما لهم سوى “رأس مال” ضئيل في حسابهم، ولكن لديهم دخل آخذ في النمو. فإما نستخدمه وإما نبدده.
إن هذا لا يعني أن الفلسطينيين بحاجة فقط إلى الجلوس والانتظار، بل على العكس من ذلك. ينبغي أن يستغلوا ما لديهم من أرصدة على أفضل وجه. إنني أعتقد حقا بأن المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات استراتيجية رئيسية ولديها إمكانيات هائلة. إن بعض الحركات الفلسطينية لا تولي هذه الاستراتيجية اهتماما يُذكر في الوقت الحاضر لأنها لا ترى قوتها. ولكن كلما حشدت هذه الاستراتيجية تأييدا دوليا، كلما حشدت تأييدا فلسطينيا يُضاف إلى ما تحظى به من دعم حاليا. وأنا أتفق بشدة مع معين رباني على وجود أزمة مؤسسية. فكيف ومن أين سوف تبرز قيادة فلسطينية ممثلة حقا وذات قاعدة عريضة ومصداقية لكي تعبر بوضوح عن المطالب الفلسطينية وتسعى لتحقيقها سياسيا – بناء على دعم شعبي حقيقي موحد الكلمة من الفلسطينيين في الداخل والخارج؟ فليس لدينا مؤتمر وطني أفريقي، ولا حتى منظمة تحرير فلسطينية! وربما في وقت ما، ستكون اللجنة الوطنية للمقاطعة نواة منظمة من هذا القبيل أو جزءا منها. أنا لا أعرف، ولكن يبقى ذلك الجزء الأكثر ضبابية في طريق المضي قدما.
كما أتفق مع سماح سبعاوي بأن التحديات التي يواجهها التنظيم في المنافي هائلة. غير أنني أكرر بأن الإمكانيات قائمة.
نصير عاروري: تشخيص وأسئلة رئيسية
اعتمدت الحركات الاستعمارية الاستيطانية بصورة رئيسية عبر التاريخ على الغزو العسكري وطرد السكان وتحويل ملكية الأراضي والإبادة الجماعية من أجل تحقيق مآربها. ولمّا لم تكن إسرائيل استثناء لذلك، كانت عملية أوسلو الترتيب الدبلوماسي الأول الذي أتاح إنجازات استعمارية ملموسة أضرت بالأراضي والهياكل السكانية. كما إن عملية أوسلو عنت التخلي الطوعي عن الحقوق المعترف بها دوليا لصالح محادثات كان يتعين فيها على الفلسطينيين إقناع الجانب الإسرائيلي بأنهم أصحاب حق. إن التقاء واحدة من أكثر القيادات سذاجة في التاريخ المعاصر مع أحد أكثر الأعداء قوة وقسوة كان بمثابة الثنائي القاتل للشعب الفلسطيني.
وعلاوة على ذلك، كانت بيئة السلام المفترض التي أرستها عملية أوسلو بمثابة غطاء لاستعمار المزيد من الأراضي والمصادر المائية. كما لبّت احتياجات الثلاثي الحميم على غرابته – عرفات وإسرائيل وواشنطن – حيث كانت الغطاء لتدمير النسيج الاجتماعي وثقافة الانتفاضة الأولى التي روجت للاعتماد على الذات والمقاومة والعمل التطوعي. إن تهميش القانون الدولي، وتنامي الهيمنة الإسرائيلية، والاحتكار الدبلوماسي الكامل تقريبا من طرف الولايات المتحدة هي عوامل تضافرت لكي تخلق حالة يُلقى بموجبها اللوم جراء تراجع التنمية وانحسار الديمقراطية الفلسطينية على الضحية. إن استعراض تاريخ الصهيونية قبل عام 1967 ومنذ ذلك التاريخ يؤكد بأن المساعي الإسرائيلية الأساسية ما زالت تتمثل في الأرض، ومصادر المياه، ومعدل الإنجاب، والمواقع الاستراتيجية، وإبقاء عدد السكان الأصليين في أدنى مستوياته من أجل تحقيق “الأمن” الديمغرافي. ولن يشهد المستقبل القريب أي حل توفيقي بشأن الأراضي.
كما لن تتمكن الإدارة الأمريكية من التوفيق بين طموح جورج ميتشل المعلن بالتوصل إلى تسوية عبر المفاوضات وبين تطلعات الجنرال كيث دايتون الذي فاقم الصراع الأهلي بين حركتي حماس وفتح ودرب مليشيات فتح كقوى لمكافحة المقاومة. لا تستهدف مليشيا دايتون الاحتلال، وإنما تهدف لضرب المقاومة. وهذا ما غدا يُعلن عنه الآن بأنه حفظٌ للقانون والنظام.
إن ما يجري في الوقت الحاضر هو امتداد لما حدث في عام 1948، نكبة ثانية. فإذن، ماذا كانت تعني النكبة الأولى أصلا؟ ألم تعنِ خسارة الأرض ومصادر المياه، والتطهير العرقي، وضم الأراضي، والتهويد؟ إن الاستعمار الجاري بلا هوادة للأحياء العربية المتمثلة في رأس العامود والشيخ جراح والذي بدأ في القدس الشرقية في عام 2009، عندما وافقت السلطات الإسرائيلية على خطط لبناء مئات الوحدات الاستيطانية في قلب القدس الشرقية العربية، لا يختلف عن استعمار حي القطمون، وشارع يافا، والطالبية وباقي ما غدا يُعرف بعد عام 1948 باسم القدس الغربية الإسرائيلية.
إن القيادة الفلسطينية اليوم، كما كانت في عام 1948، قيادة خرقاء. فالقيادة الفلسطينية الحالية – ممثلة بشخص ياسر عبد ربه وصائب عريقات – تبعث برسائل إلى الجمهور الإسرائيلي لتقدم فعليا الاعتذارات بدلا من السعي للحصول عليها – وعلى المساءلة – عن التشريد، ونزع الملكية، والمجازر، والتعذيب المشرعن، وهدم المنازل. إن الإمبريالية والهيمنة الأمريكية آخذة بالتنامي ويوازيها جموح إسرائيلي. أما الدول العربية، والتي كانت عاجزة في عام 1948، فقد أصبحت الآن متواطئة بشكل صريح. فمصر والأردن لا يطبقان الحصار الإسرائيلي على المدنيين الغزيين وحسب، بل يوفران معسكرات تدريبية لخونة فتح لتمكينهم من أداء مهمة الجيش الإسرائيلي وتمويه الاحتلال. إن المدن الفلسطينية الواقعة ضمن ما حددته عملية أسلو بمناطق “أ” تنقل مظهر الحياة الطبيعية بموجب الهندسة العسكرية الدايتونية، و”الإصلاحات” البيروقراطية الخاصة برئيس الوزراء سلام فياض، و”السلام” الاقتصادي لنتنياهو.
فكيف نتعامل مع هذا الوضع؟ تبرز بعض المقترحات من خلال استعراض وجيز لنضالات الفلسطينيين السابقة من أجل الحصول على الحقوق. فمنذ احتلال عام 1967، اشتمل الكفاح الفلسطيني من أجل حق تقرير المصير على أنواع ثلاثة: ديبلوماسي وسياسي وشبه عسكري. في البداية، كان الكفاح المسلح يسعى إلى إقامة دولة ديمقراطية علمانية واحدة على كامل أرض فلسطين يتساوى فيها المسيحيون والمسلمون واليهود. وقد انتهت هذه الفترة التي لم تدم طويلا فعليا في أوائل عقد السبعينيات. وبموجب اتفاق غير مكتوب بين منظمة التحرير الفلسطينية والدول العربية، وافقت المنظمة على تلطيف لهجتها الثورية، والتخلي عن “الكفاح المسلح،” والانضمام إلى الدول العربية في كفاح دبلوماسي لإقامة دولة مصغرة في الضفة الغربية وغزة.
وبالانسجام مع ذلك الاتفاق، اعترفت قمة الجزائر في 1973 وقمة الرباط في 1974 بمنظمة التحرير الفلسطينية بوصفها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وبينما كانت الدبلوماسية الزائفة محور اهتمام منظمة التحرير الفلسطينية إبان عقود السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، كان هناك نضال سياسي مهم دائر داخل الأراضي المحتلة. فأثناء عقد السبعينيات، كان المجتمع المدني والسياسي يخوض كفاحا غير مسلح تحت راية الجبهة الوطنية الفلسطينية. وقد تراوحت أساليبه بين الامتناع عن دفع الضرائب والمقاطعة والمظاهرات وغيرها من الوسائل السلمية التي لم تهدف إلى إعلان عدم مشروعية الاحتلال وحسب بل إلى تعطيله. أما سلطات الاحتلال فقد قمعت قيادة الجبهة الوطنية الفلسطينية ونشطائها، وزجت الكثير منهم في السجون ونفت آخرين.
لقد ساعد ذلك في إقامة هيكل للمقاومة داخل الأراضي المحتلة يختلف تماما عن منظمة التحرير الفلسطينية التي ظنت أنها تبني دولة رهن الانتظار خارج فلسطين. وكان يُشار إلى الجسم السياسي داخل الأراضي المحتلة باسم الجبهة الداخلية وكان يُعتبر العمود الفقري لبناء الوطن والسعي لنيل تقرير المصير. وهكذا، كانت هناك قيادتان فلسطينيتان متنافستان في ذلك الوقت، واحدة تتبع السبل الدبلوماسية الزائفة وتركز على الدولة وبهرجها، وأخرى تحاول إحداث تغييرات هيكلية بهدف تفكيك الاحتلال في نهاية المطاف.
ومع طرد قوات منظمة التحرير الفلسطينية وأجهزتها من لبنان في عامي 1982 و1983 وترحيلها إلى تونس وبقاع أخرى في العالم العربي، أخذ الكفاح الداخلي ينمو بحدة أكثر وأصبحت الجبهة الداخلية أقوى. لقد كان بناء الجبهة الداخلية هو الحاضن لانتفاضة عام 1987 التي ارتقت بالكفاح السياسي وغير العنيف إلى مستويات جديدة، ومثلت تحديا جديا للمؤسسة الإسرائيلية السياسية/العسكرية، وكان يتوجب إخمادها: 1) بقمع اللجان السياسية التي كانت تقود الكفاح السياسي غير العنيف نيابة عن المجتمع المدني؛ و 2) وبكسب منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تواجه أزمة حقيقة على صعيد التمويل والشرعية والقيادة وتتوق للقبول بها كشريك في المفاوضات.
لقد كان من السهل إغراء منظمة التحرير الفلسطينية بالشروع في عملية أوسلو، تماما كما جرى إقناعها بدخول الصراع الدبلوماسي العقيم بشأن حل الدولتين قبل ذلك بعقدين من الزمن. وقد نجحت إسرائيل فعليا بتحييد كفاح المجتمع المدني/السياسي الدائر داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة. وفي الواقع، كانت الضحية الرئيسية لعملية أوسلو هي الجبهة الداخلية وكان بمقدور كل من يزور الأراضي المحتلة أن يلمس الفراغ الذي خلفته. وبصرف النظر عن التحليل المتبع، يظل هناك تساؤل جوهري مُلحّ: أين هي الجبهة الداخلية؟ وتتبع ذلك تساؤلات أخرى: كيف يمكن إعادة بنائها؟ وكيف يتسنى لمجتمع مدني حقيقي أن يحل محل صناعة المنظمات غير الحكومية؟ ما هو مدى الضرر الذي أحدثته السلطة الفلسطينية في المجتمع المدني؟ هل سيتفاقم هذا الضرر جراء العملية الراهنة التي من المرجح أن تخلف آثارا أسوأ من تلك التي خلفتها عملية أوسلو؟
ديانا بوتو: تحدي الانتهازية السياسية
إن من الأهمية بمكان أن نركز على بعض الأساليب البديلة في حال “نجحت” المحادثات. ففي حين تدعّي منظمة التحرير الفلسطينية بأنها تتحدث بالنيابة عن “جميع الفلسطينيين،” فإنها تضع قيودا على من يُعتبر “فلسطينيا،” كما إنها لم تعقد انتخابات لعدة عقود. وتبعا لذلك، وبينما يمكن القول بأن اتفاقا من هذا القبيل يمكن أن يحظى بدعم الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة عبر الاستفتاء، فإن أي استفتاء على الأرجح سوف يستبعد الفلسطينيين في الشتات وفي القدس الشرقية والمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل. ولهذا، فإن شكوكا كبيرة تحوم حول قدرة منظمة التحرير الفلسطينية على مواصلة التأكيد على أنها الممثل لكافة الفلسطينيين.
ونظرا لعدم قدرة منظمة التحرير الفلسطينية على التأكيد تماما على أنها الممثل لكافة الشعب الفلسطيني، ينبغي النظر في إمكانية أن تقوم المنظمة بالتوقيع على بند “إنهاء الصراع” مثلما تطالبها إسرائيل باستمرار. وفي هذا السياق، ينبغي للفلسطينيين – وبخاصة اللاجئين وأصحاب الأراضي – أن يدرسوا وسائل بديلة بغية الحصول على تعويض عن الانتهاكات الإسرائيلية لحقوقهم، سواء عبر المحافل الدولية أو غيرها من الوسائل. وفي الواقع، يحتاج الفلسطينيون إلى تعيين وسائل للطعن في أي اتفاق ينطوي على سلب حقوقهم، ولا سيما أي اتفاق يُوقع بدافع الانتهازية السياسية.