إنَّ من شأن اندلاع انتفاضةٍ فلسطينية جديدة أن يُربكَ قطاع الصحة الفلسطيني الذي يعاني بالفعل في الضفة الغربية وغزة. وقد يتفاقم هذا الإرباك بسبب الحصار الإسرائيلي المستمر على غزة، والتجزئة المتزايدة للضفة الغربية والتي كانت قاصمة لجهود التعبئة المجتمعية الشعبية في مجال الصحة التي مكَّنت الفلسطينيين من مقاومة القمع الإسرائيلي إبان الانتفاضة الأولى. فضلًا على أن اندلاعَ انتفاضةٍ جديدة من شأنه أن يغيرَ تعاملَ إسرائيل والمجتمع الدولي مع الفلسطينيين، ويحدَّ من قدرات مزودي الخدمات الصحية وإمكانية الوصول إلى الموارد الطبية المُلحَّة.
تبعات القمع الإسرائيلي
إذا اندلعت انتفاضةٌ فلسطينية، فإن إسرائيل سترد بلا شك بقمعٍ مكثف وبمواصلة تصعيد العنف. وسيشملُ ذلك إغلاقَ المدن في جميع أنحاء الضفة الغربية، كما شوهد في جنين ونابلس وأريحا في مطلع عام 2023، وسيُلحِقُ ذلك أضرارًا بالغة في صحة الفلسطينيين من نواحي عديدة.
أولاً، سوف يُمنَعُ القائمون على توفير الرعاية الصحية القاطنون خارج المدن حيث معظم المستشفيات ومنشآت الرعاية الصحية من دخول المناطق المغلقة، أو قد يُؤخَّرون لساعات عند نقاط التفتيش. ثانيًا، لن يتمكن المرضى في المدن المغلقة من مغادرتها لتلقي الرعاية والعلاج في مكان آخر، وسيُمنَعُ المرضى القاطنون خارج المدن من دخولها للوصول إلى المرافق الطبية. ونتيجةً لذلك، سيتحمل مزودو الرعاية الصحية في المدن العبءَ الأكبر في تقديم الرعاية التي يمكن تقاسمها – لولا الإغلاقات – مع مزودي الرعاية الذين يقطنون خارج المدن ويأتون إليها للعمل. علاوةً على ذلك، قد يفقد العاملون في مجال الرعاية الصحية وظائفهم لعجزهم عن الوصول إلى أماكن عملهم.
ثالثًا، قد تغلِقُ إسرائيلُ أيضًا المداخل المحيطة بالقرى الفلسطينية، وتحُول بذلك دون وصول القرويين إلى الطرق الرئيسية. فضلًا على أن زيادة عدد نقاط التفتيش والحواجز من قبيل السواتر الترابية والخنادق ستحدُّ من قدرتهم على السفر للحصول على الرعاية في الضفة الغربية، أو تتسبب في تأخير لوقت طويل قد يؤدي إلى وقوع وفيات. رابعًا، ستواجه الشاحنات التي تحمل مساعدات إنسانية أو عاملين في المنظمات الإنسانية قيودًا مماثلةً أيضًا على الحركة، وقد لا يجد المرضى المقتدرون سوى مرافق تفتقر إلى الموارد اللازمة لعلاجهم. وستكون هناك حتمًا تقارير متزايدة عن زيادة الولادات عند نقاط التفتيش، ومنع سيارات الإسعاف من الوصول إلى وجهتها، ونقص في الأدوية.
لن يقتصر الرد الإسرائيلي على فرض قيودٍ على الحركة، بل سيتضمنُ ردًا عسكريًا عنيفًا قد يتخذ أشكالًا مختلفة في غزة والضفة الغربية – وربما في أراضي 1948 إذا طالتها التعبئة الجماهيرية الفلسطينية كما في انتفاضة الوحدة عام 2021. سوف ترد إسرائيل بدايةً بالقصف على أيِّ عمل تنفذه الجماعات الفلسطينية في غزة، وربما سترد باجتياح بري، بينما ستسفر جهود التعبئة غير العنيفة على حدود غزة عن سقوط العديد من الضحايا، كما حدث في مسيرة العودة الكبرى. بالمثل، سوف تشهد الضفة الغربية زيادةً في المداهمات الإسرائيلية، وعمليات القتل خارج نطاق القانون على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي، ومواجهاتٍ أكثرَ خطورةً مع المستوطنين الإسرائيليين المحتمل أن يشرعوا أيضًا في التعبئة لمواجهة الانتفاضة الفلسطينية.
ستؤدي كل هذه الأحداث إلى زيادة حادة في حالات الإصابة بالصدمة في أوساط الفلسطينيين، علمًا أن العلاج من الصدمات ما يزال قاصرًا في غزة والضفة الغربية. لذا سيعاني الفلسطينيون في غزة من عمليات بتر متكررة وربما لا داعي لها ومن إعاقات أخرى، وستزداد الوفيات بسبب انعدام الرعاية أو لأسباب ثانوية، مثل العدوى في المستشفيات.
سيكون التوتر النفسي المصاحب لأي ردٍ عسكري إسرائيلي على الانتفاضة الفلسطينية هائلًا. وبالإضافة إلى الألم النفسي الناجم عن مشاهدة العنف أو التعرض له مباشرةً، فإن عجز العائلات عن التجمع بأمان، والصدمة التي تسببها المراقبة الدائمة عند نقاط التفتيش وبواسطة الطائرات المسيَّرة، وحالة انعدام اليقين العامة بشأن كيفية أو موعد انتهاء الموقف، سوف يتسبب بأعباء على الصحة النفسية على غرار ما شوهد بعد الانتفاضة الثانية وبخاصة عند الأطفال.
رد الفعل الدولي على الانتفاضة الفلسطينية
لا شك أنَّ السلطة الفلسطينية سوف تُكثِّف تدابيرها الأمنية لقمع أي انتفاضة فلسطينية جديدة، كما فعلت مرارًا وتكرارًا، بضغطٍ شديد من المجتمع الدولي. ففي كانون الثاني/يناير 2023، على سبيل المثال، شهدت الضفة الغربية فترةً كانت الأكثر دموية منذ ما يزيد على عقد من الزمن، وحينها ضغطَ وزير الخارجية الأمريكي على رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لكي يُنفِّذ خطةً أمنية وضعتها الحكومة الأمريكية، تنطوي على تدريب قوةٍ عسكرية فلسطينية خاصة، دون اهتمامٍ يُذكَر بالخسائر الإنسانية البالغة في صفوف السكان.
تُعدّ ميزانية قطاع الأمن في السلطة الفلسطينية متضخمةً عند مقارنتها بميزانيات قطاعات أخرى مثل الصحة. ومن شأن أي انتفاضة جديدة أن تُفاقم هذا التباين، مثلما تراجعَ الإنفاق الصحي للفرد إبان الانتفاضة الثانية. وأي اقتطاعات جديدة من ميزانية القطاع الصحي سوف تؤدي إلى خفض أجور عاملي الرعاية الصحية الحكوميين، ومن ثم إلى إضرابات محتملة.
ما يزيد الطين بِلة هو أن اهتمام العالم بأمن السلطة الفلسطينية سيفوق اهتمامه باحتياجات الفلسطينيين الصحية المتنامية. وستلجأ المنظمات التي تقدم خدمات ميدانية، سواء الدولية مثل الأونروا وجمعية العون الطبي للفلسطينيين أو المحلية مثل جمعية الإغاثة الطبية الفلسطينية، إلى إطلاق نداءات عاجلة للحصول على المعونة في محاولةٍ لسد الثغرات في تقديم الخدمة. غير أن المنظمات غير الحكومية الفلسطينية قد تتعرض لخطرٍ متزايد أثناء الانتفاضة، كما حصل حين داهمت القوات الإسرائيلية مكاتب لجان العمل الصحي واعتقلت مديرها في 2022. وبذريعة الأمن، يمكن أن تُقرِّرَ إسرائيلُ إغلاقًا واسع النطاق للمنظمات غير الحكومية الفلسطينية، بما فيها المنظمات المتعلقة بقطاع الصحة، الأمر الذي سيحدُّ كثيرًا من قدرتها على العمل.
الخاتمة
إن تصعيد القمع الذي تمارسه إسرائيل والسلطة الفلسطينية على المقاومة الفلسطينية، وما يستتبعه من تنامي التجزئة الجغرافية للفلسطينيين، سوف يُصعِّب على الفلسطينيين الانخراطَ في جهود التعبئة الصحية. قدَّمت اللجان الشعبية والمتطوعون في مجال الرعاية الصحية إبان الانتفاضة الأولى خدماتٍ طبيةً للشرائح السكانية المستضعفة، ولا سيما في الأرياف. غير أن التنمية في بنية القطاع الصحي التحتية في حقبة ما بعد أوسلو تركزت في المدن على حساب المقاربة المجتمعية للرعاية الصحية.
ما يزال التشتت الجغرافي والتوسع العمراني في الضفة الغربية وغزة، والاعتماد المفرط على مساعدات المانحين، يحدُّ من إمكانات هذه المبادرات الشعبية. غير أنَّ الجهود المحلية قادرةٌ بلا شكل على سد النقص في الخدمة، وتوفير الرعاية بما يُتاح لها من موارد وعاملين. فجهود التعبئة المجتمعية التي شهدتها الانتفاضة الأولى ساعدت في جمع الفلسطينيين حول رؤية للتحرير تتجاوز التفاصيل الفنية لمشروع بناء الدولة. وفي حال اندلعت انتفاضةٌ أخرى، فإن الأمل معقودٌ بأن تتمخض المعاناة قصيرة الأجل عن مسار حقيقي من أجل التحرر المستقبلي المنطوي على نظام صحي متحرر من الاستعمار، مبني من أجل الفلسطينيين وبأيديهم.