أدى التحول البارز الذي شهده الخطابُ العالمي في أعقاب انتفاضة الوحدة عام 2021 إلى تأطير الاستعمار الاستيطاني الصهيوني بوصفه السببَ الجذري لمعاناة الفلسطينيين. تتحرى هذه الورقة السياساتية سُبل الفلسطينيين في إعادة تصور النضال التحرري بالرجوع إلى تاريخهم الحافل بالتعبئة الشعبية. وتتناول النجاحات التي حققتها اللجان الشعبية الفلسطينية التي تشكلت في الضفة الغربية وغزة في عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وتقدم توصيات حول السُبل المتاحة للمجتمع المدني الفلسطيني اليوم لإعادة بناء المجتمعات المحلية لتعمل على إنتاج الحركة التحريرية الشعبية بتصور جديد.
قامت الانتفاضة الأولى على الجهود والممارسات الشعبية الهادفة إلى فك الارتباط عن الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي والذي كان حينها قد بات جزءًا من المجتمع الفلسطيني لعقدين من الزمن تقريبًا. واشتملت الحملاتُ الوطنية التي تضمنتها الانتفاضةُ مقاطعةَ المنتجات الإسرائيلية والإدارة المدنية الإسرائيلية، ورفضَ دفع الضرائب الإسرائيلية، ودعواتٍ ناجحةً لاستقالة مئات الفلسطينيين العاملين في جباية الضرائب وجهاز الشرطة - وقد مورست هذه الأساليب طوال عقدي السبعينات والثمانينات.
تشكَّلت في مطلع السبعينات حركاتٌ تطوعيةٌ فلسطينية في الضفة الغربية وغزة لتخفيف معاناة المجتمعات الأشد تضررًا من الاحتلال العسكري الإسرائيلي لعام 1967. وسرعان ما تطورت هذه الحركات إلى شبكات إقليمية من المتطوعين عملت من خلال أنشطتها على تسييس جيل من الشباب بالتأليف بين الفئات المختلفة في المجتمع الفلسطيني وتنمية الوعي بأهمية النضال ضد الاستعمار.
أدّت الشبكات أيضًا إلى نشوء اللجان الشعبية لجَبر ما أفسدته إسرائيل بسبب إهمالها وتَقصُّدِها تراجعَ التنمية في القطاعات الفلسطينية المتنوعة. وكانت اللجان الأكثر انتشارًا تلك التي تعمل على مستوى الأحياء، وعادةً ما كانت تتألف من الشباب المحليين. وعملت في المقام الأول على تقديم الدعم للفئات الأكثر ضعفًا، وعزَّزت قدرةَ المجتمعات المحلية على الصمود في مواجهة الهجمات الإسرائيلية بأساليب عديدة منها تنسيق العونة والتكافل الاجتماعي، وتسيير الحراسات الليلية للتحذير من هجمات المستوطنين والجيش، وإدارة عملية تخزين المواد الغذائية وتوزيعها لمواجهة فترات حظر التجول المطولة.
شجَّعت شبكات التعاونيات ومشاريع الاقتصاد المنزلي أيضًا المنتجات المحلية، وهدفت إلى تقليل الاعتماد على السلع الإسرائيلية. وقامت العديد من الأحياء أيضًا بزراعة فناءات البيوت لزيادة الأمن الغذائي. وأسهمت تلك اللجان كثيرًا في تعبئة المزارعين إبان الانتفاضة الاولى، وضمنت توسُّع شبكة المزارعين والمهندسين الزراعيين الفلسطينيين التحررين والمناهضين للاستعمار.
أنشأ الفلسطينيون أيضًا لجانًا صحية مؤلفة من العاملين في القطاع الصحي لتقديم الخدمات الطبية في المناطق الريفية. وتبنى العديد منها مفهومًا وتصورًا تحرريًا للصحة، يعزز النظرة الشاملة في العلاج والتي تركز على المحدِّدات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للصحة. وكانت اللجان الصحية مهمةً جدًا للمجتمع المدني الفلسطيني لدرجة اضطرت المجموعات السياسية إلى تأسيسها وتعزيزها. فقد نجحت تلك اللجان نجاحًا لافتًا في الوصول إلى الفلسطينيين على المستوى الشعبي، وتغلغلت في الطيف السياسي الفلسطيني، وكانت بحلول العام 1993 توفِّر 60% من الرعاية الصحية الأولية وجميع خدمات الإعاقة في الضفة الغربية وغزة.
وفي أعقاب الانتفاضة الأولى الطاحنة، وإقدام منظمة التحرير الفلسطينية على تبني إطار عمل أوسلو في 1993 ومن ثم إنشاء السلطة الفلسطينية في 1994، اندثر الإطارُ التحريري للجان وحلَّت مكانه عملية اللاتسييس التي رسَّخت التحول في الخطاب من التحرير إلى بناء الدولة. وفي عقد التسعينات، تحولت العديد من اللجان الشعبية إلى منظمات غير حكومية، وانضمَ الكثيرُ من أعضائها، بمن فيهم ناشطون يساريون، إلى عالم المنظمات غير الحكومية في حقبة ما بعد أوسلو، بينما سجَّلت بعضُ اللجان الشعبية نفسها كمؤسسات خيرية وتأقلمت مع السياسة الرامية إلى تحويل المجتمع المدني الفلسطيني إلى مجتمع نيوليبرالي.
بالإضافة إلى هيمنة الخطاب المتمحور حول الدولة، فإن التدمير والتشتيت المستمر الذي تقترفه إسرائيل بحق المجتمعات الفلسطينية يعوق قدرةَ الفلسطينيين على التنظيم، كما يفرضُ تواطؤُ السلطة الفلسطينية في إدامة الوضع الراهن عقباتٍ كبيرةً أيضًا أمام قدرة الفلسطينيين على التعبئة كما في السبعينات والثمانينات. وفي حين أن دراسة نجاحات اللجان الشعبية في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي لن تتمخض تلقائيًا عن رؤيةٍ واضحة للتحرير في وقتنا الراهن، إلا أن بوسعها أن تحدِّدَ الأهداف الأولية التي تُعين على وضع إطار جديد لتحرير الفلسطينيين.
ومع أن التحديات والعقبات سوف تظل قائمة، إلا أنَّ على المجتمع المدني الفلسطيني أن يقوم بما يلي:
- إعادة توجيه المجالس البلدية بهدف إحياء دورها السياسي والاجتماعي، بما في ذلك قيامها بدورها في ضمان استدامة البنية التحتية في البلدات والمدن سريعة النمو.
- تعزيز دور المؤسسات الثقافية والتعليمية والمكتبات العامة وغيرها من المنتديات العامة لتوفير مساحات يتسنى للمجتمعات من خلالها أن تُعبِّرَ عن احتياجاتها ومطالبها السياسية. وينبغي للجامعات أن تكملَّ هذا الدور من خلال توسيع نطاق تفاعلها مع عامة الشعب.
- إعادة توجيه الخدمات المهنية نحو تلبية الاحتياجات الشاملة للمجتمعات بدلاً من تطبيق الأطر النيوليبرالية في القطاع العام.
- تعزيز الحركات الشعبية القائمة التي أنشأت بالفعل هياكلَ مجتمعية، كتلك التي في بيتا والشيخ جراح وسلوان وأم الفحم والنقب، لأنها الأقدر على الارتقاء بدورها من التنظيم القائم على ردة الفعل إلى المبادرة بصياغة رؤية للتحرير مستمدة من قواعدها المجتمعية.