دأبَ عددٌ متنامٍ من المسؤولين الإسرائيليين منذ عام 2021 على اقتراح سياسات جديدة لإدارة احتلالهم في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وغزة. وهذه السياسات متجذرة في مفهوم "تقليص الصراع" الجديد الذي استحدثه المؤرخ الإسرائيلي ميكا غودمان في 2018 كحلٍ للخلاف المتنامي بين ما يسمى اليسار الإسرائيلي واليمين الإسرائيلي على ما ينبغي فعله إزاء الاحتلال العسكري.
تفترض هذه المقاربة، التي تُعدُّ نسخةً منقحة من نموذج "السلام الاقتصادي" الذي تبناه بنيامين نتنياهو، أن أدوات القمع الإسرائيلية تتسبب في احتكاكات يومية "لا داعي لها" تزيد احتمالات حدوث "موجات من الأعمال الإرهابية والاشتباكات العنيفة" الفلسطينية. وهكذا فإن إسرائيل ليست مضطرة إلى تفكيك احتلالها وإنما إلى إدارته بطريقة مختلفة وأقل قمعًا في ظاهرها من خلال منح الفلسطينيين حريةً أكبر في الحركة والتنقل داخل الضفة الغربية وزيادة فرصهم الاقتصادية مع إسرائيل. وهكذا، فإن مقاربة "تقليص الصراع" تخلَّت تمامًا عن كل مناقشة جادة لحل الدولتين، وتسعى عوضًا عن ذلك إلى ترسيخ الاحتلال العسكري الإسرائيلي للحيلولة دون إقامة دولة فلسطينية أو إرساء واقع الدولة الواحدة.
تُبين هذه الورقة السياساتية العلَّة الكامنة في مقاربةِ "تقليص الصراع" الإسرائيلية والسياسات الاقتصادية التي تنطوي عليها. وتُحاجّ بأن المقترحات التي لا ترقى إلى مستوى التفكيك الكامل لأنظمة الفصل العنصري والاحتلال والاستعمار الاستيطاني الإسرائيلية لن تُفضي إلى تحسين حياة الفلسطينيين ولن تضمن رضاهم بالوضعَ الراهن.
دأبَ النظام الإسرائيلي على تسخير الاقتصاد للسيطرة على الفلسطينيين واسكاتهم. وفي هذا السياق، صُمِّمت مقاربة غودمان الهادفة إلى "تقليص الصراع" من أجل تمكين مراجعة بروتوكول باريس الاقتصادي لعام 1994، بما في ذلك من خلال التعاون الاقتصادي بين الفلسطينيين والنظام الإسرائيلي. وهي تقترح أيضًا تسهيلات اقتصادية إضافية تهدف إلى ضمان الإذعان السياسي الفلسطيني. وعلى سبيل المثال، يؤيد غودمان تخصيصَ أراضٍ إضافية تدريجيًا في المنطقة (ج) للتعاون الاقتصادي الفلسطيني الإسرائيلي، بما في ذلك الاستثمار الأجنبي والمدن الصناعية الإضافية التي ستبقى في حال إنشائها تحت السيطرة الإسرائيلية.
يدعو غودمان كذلك إلى إنشاء طرق لوجستية "آمنة" داخل الضفة الغربية لتسهيل عملية نقل البضائع الفلسطينية إلى الأسواق الإسرائيلية - بموجب ما يُسمى سياسة "من الباب إلى الباب" - وبالتالي حفز المزيد من التجار الفلسطينيين على السعي من أجل إبرام اتفاقات اقتصادية مع النظام الإسرائيلي. ويدعو أيضًا إلى زيادة عدد الفلسطينيين العاملين في أراضي 1948 وتنويعهم، بما في ذلك من غزة. وفي حين أن هاتين السياستين قد تبدوان مفيدتان للفلسطينيين، إلا أنهما ترسخان التشرذم الجغرافي والاقتصادي الفلسطيني، والاعتماد الاقتصادي على إسرائيل، ضمن حالةٍ من التراجع الدائم في التنمية.
يَفترض مفهوم "تقليص الصراع" في جوهره أنَّ سلسلةً من التحولات، الاقتصادية في المقام الأول، في السياسة الإسرائيلية تجاه الضفة الغربية وغزة ستقضي على الظروف التي تحفز "الاشتباكات" بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال الإسرائيلي. ومن خلال التخفيف من حدة معاناة الفلسطينيين اليومية، يصبح الاحتلال العسكري الإسرائيلي أكثر قابلية للإدارة والاستدامة. أي أن مسألة تقرير المصير الفلسطيني من خلال إقامة الدولة تصبح مسألةً لاغية، وهو ما سيعفي القادة الإسرائيليين، على اختلاف انتماءاتهم السياسية، من السؤال الدائم عمَّا يجب فعله حيال الفلسطينيين.
تقوم مقاربة غودمان على مغالطة مفادها بأن الفلسطينيين سيكونون أقلَّ رغبةً في المقاومة إذا اقتنعوا بأنهم قادرون على الاستمتاع بالحياة في ظل الاحتلال الاستعماري الاستيطاني الدائم من خلال تقليل القيود المفروضة على التنقل ومنحهم المزيد من فرص التعاون الاقتصادي مع النظام الإسرائيلي. وهذا افتراضٌ مشوهٌ وعنصري، قائمٌ على التصور الصهيوني القديم الخاطئ بأن الفلسطينيين غوغائيون عنيفون وغير سياسيين - وليسوا شعبًا يطالب بتقرير المصير - يمكن اسكاتهم إذا مُنحوا الامتيازات المزعومة.
لقد انتقضت بعض جوانب مقاربة "تقليص الصراع" بفوز حكومة نتنياهو الائتلافية اليمينية المتطرفة في كانون الأول/ديسمبر 2022. فمن ناحية، أدى تزايد القمع الإسرائيلي العنيف تجاه المقاومة الفلسطينية، ولا سيما في شمال الضفة الغربية، إلى تقويض خطة القضاء على الآليات التي تولِّد الاشتباكات. ومن ناحية أخرى، يُستبعدُ أن ينصاعَ تحالفُ نتنياهو المتطرف، الذي يدفع أكثر باتجاه تجريد الفلسطينيين وتشريدهم، لمقترحات بينيت ولبيد المفتَرض بها أن "تقلص الصراع." ومع ذلك، يُرجَّحُ أن تستمرَ الإجراءات الاقتصادية النافذة منذ 2021 في تشكيل العلاقات الاقتصادية الفلسطينية الإسرائيلية في السنوات المقبلة.
وفي حين أن الحكومة الائتلافية الإسرائيلية الجديدة لم تضع سياساتها الاقتصادية تجاه الضفة الغربية وغزة بعد، فإن التزامها السافر بترسيخ الاحتلال سيزيد حتمًا من معاناة الفلسطينيين، الذين لن يقبلوا أبدًا بهذا الواقع، حتى لو دفعَ واضعوا السياسات الإسرائيليون باتجاه اتخاذ تدابير تهدف إلى "تحسين" حياة الفلسطينيين من خلال زيادة مشاركتهم في سوق العمل الإسرائيلية، أو تيسير تنقلهم داخل الضفة الغربية. وطالما استمرَ واقع الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي والفصل العنصري والاحتلال، فإن المقاومة الفلسطينية سوف تستمر.