ملخص تنفيذي
- انطلاقًا من الفهم بأن تهجير الفلسطينيين هو نتيجة لخطة التقسيم التي أصدرتها الأمم المتحدة عام 1947 وإنشاء دولة إسرائيل، والتي تتحمل مسؤوليته الأمم المتحدة، أقرّ المجتمع الدولي بأن قضية فلسطين ومحنة اللاجئين الفلسطينيين تتطلب تدابير خاصة واهتمامًا فريدًا.
- اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 194 (III) الذي أنشأ لجنة التوفيق التابعة للأمم المتحدة بشأن فلسطين. وبما أن لجنة التوفيق كانت متجذرة في الطابع السياسي لتهجير الفلسطينيين، فإنها أصبحت ركيزةً من ركائز الإطار المؤسسي الفريد المصمم للاجئين الفلسطينيين. وفي العام التالي، واستجابةً للاحتياجات المتزايدة لمئات الآلاف من المهجَّرين الفلسطينيين، أنشأت الأمم المتحدة وكالة الأونروا بتفويض مؤقت لتقديم الخدمات للاجئين المنتظرين عودتهم إلى وطنهم.
- انفضت لجنة التوفيق سنة 1960 لانعدام فرص التوصل إلى تسوية سياسية، وبذلك فقدَ إطار العمل الفريد ركيزةً من ركائزه. والأهم هو أن فض اللجنة أدى إلى زيادة التركيز على تمويل الأونروا أكثر من التركيز على معالجة العوائق السياسية التي وضعتها إسرائيل للحيلولة دون عودة الفلسطينيين.
- تقود إسرائيل منذ زمن بعيد حملةً ضد الأونروا بهدف إنهائها. وانسجامًا مع روح الصهيونية العنصرية المتأصلة وأيديولوجيتها الاستعمارية الاستيطانية، فإن الحرب الإسرائيلية على الأونروا ترتبط بكون الوكالة الالتزامَ الدولي الوحيد المتبقي تجاه حق الفلسطينيين في العودة وتجسيدًا للمسؤولية الدولية تجاه قضية اللاجئين الفلسطينيين.
- تواجه الأونروا اليوم ضغوطًا مالية متزايدة تهدد مستقبلها في أعقاب قرار العديد من كبار مانحيها بتعليق وتخفيض التمويل، بمن فيهم الولايات المتحدة وألمانيا والمملكة المتحدة. ويأتي تعليق التمويل في أعقاب مزاعم إسرائيلية لا أساس لها بأن 12 من موظفي الأونروا البالغ عددهم 13,000 موظف في غزة ربما شاركوا في عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حماس في 2023. وفي حين استأنف بعض المانحين تمويل الوكالة بعد الفشل في إثبات تلك المزاعم، إلا أن قطعَ الجزء الأكبر من تمويل الأونروا على نحو غير مسبوق يهدد جديًا قدرتها على الاستمرار.
- بموجب القضية التي رفعتها نيكاراجوا ضد ألمانيا أمام محكمة العدل الدولية، فإن وقف تمويل الأونروا في خضم الإبادة الجماعية الجارية في غزة يشكل انتهاكًا للالتزام القانوني الواقع على الدول بمنع جريمة الإبادة الجماعية، وبالتالي يُعرّض الدول المتواطئة لتبعات قانونية تترتب على تواطؤها في جرائم الحرب الإسرائيلية.
- إنّ تعليق تمويل الأونروا في هذا الوقت الحرج يخدم هدف إسرائيل المتمثل في القضاء على الوكالة برمتها، ومعها قضية اللاجئين الفلسطينيين.
نظرة عامة
تواجه وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين في الشرق الأدنى (الأونروا) ضغوطًا مالية مسيَّسة تهدد مستقبلها ووجودها، وتهدد حياة وحقوق ما يزيد على 5.9 مليون لاجئ فلسطيني.1
ولأسباب تاريخية وسياسية، وضعَ المجتمع الدولي نظامًا متميزًا للفلسطينيين المهجَّرين قسرًا في عام 1948، يختلف عن سياقات اللجوء الأخرى. وبما أن الأونروا هي المؤسسة الوحيدة المتبقية في هذا النظام الفريد، فإن زوالها سيقضي على الوكالة الدولية الوحيدة القائمة المعنية باللاجئين الفلسطينيين، وسيمحو بزوالها قضيتهم العادلة.
تشنُّ إسرائيلُ منذ عقود حملةً ضد الأونروا بهدف محو قضية اللاجئين الفلسطينيين وحقَّهم الجماعي في العودة. ورغم أن قرار حلفاء إسرائيل الأخير بوقف تمويل الوكالة لم يكن الأول من نوعه إلا أنه كان غير مسبوق من حيث نطاقه وخطورة توقيته.
يعرض هذا الموجز السياساتي الأساسَ الذي يقوم عليه هذا النظام الفريد المصمّم للاجئين الفلسطينيين ويُبيّن أهميته. ويُحللُ وقفُ تمويل الأونروا الأخير في إطار حملة إسرائيل المستمرة منذ عقود لتفكيك الوكالة. ويتناول في الختام الآثار بعيدة المدى المترتبة على إلغاء الأونروا، ويطرح مجموعة من التوصيات لإحباط الجهود المبذولة للقيام بذلك.
لماذا نظامٌ فريد للاجئين الفلسطينيين؟
تَكيلُ إسرائيل اتهامات للأونروا باستمرار مثل إدامة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وتحتج بأنه ينبغي وقف عملياتها ونقل مسؤولياتها إلى وكالات الإغاثة الدولية الأخرى. وهذه الاتهامات لا أساس لها من الصحة، وتشوِّش أيضًا على حق الفلسطينيين في العودة.
لأسبابٍ تاريخية وسياسية مختلفة، يلقى الفلسطينيون المهجَّرون معاملةً فريدة في ظل النظام الدولي للاجئين، خارج نطاق اتفاقية عام 1951 المتعلقة بوضع اللاجئين والصكوك المرتبطة بها، حيث استحدثت الأمم المتحدة إطارًا مؤسسيًا منفصلًا للتعامل مع نزوحهم وتهجيرهم.
سعى المجتمع الدولي وإسرائيل إلى استبدال المساعدات الإنسانية بالعدالة من خلال التركيز على الأعراض الإنسانية لتهجير الفلسطينيين بدلًا من الاعتراض على أسسه السياسية Share on X
انطلاقًا من الفهم بأن تهجير الفلسطينيين هو نتيجة لخطة التقسيم التي أصدرتها الأمم المتحدة عام 1947 وإنشاء دولة إسرائيل، والتي تتحمل مسؤوليته الأمم المتحدة، أقرّ المجتمع الدولي بأن قضية فلسطين ومحنة اللاجئين الفلسطينيين تتطلب تدابير خاصة واهتمامًا فريدًا. وقد تجلى ذلك في اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 186، الذي دعا إلى تعيين وسيط أُممي لفلسطين.
أوصى وسيط الأمم المتحدة الكونت فولك برنادوت، قبل يومٍ واحد من اغتياله على يد جماعة ليهي الصهيونية المسلحة، بأن تؤكدَ الأممُ المتحدة حقَّ اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم. وعملًا بتوصيته، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11 كانون الأول/ديسمبر 1948 القرار رقم 194 (III)، الذي أكَّدَ حقَّ المهجَّرين الفلسطينيين في العودة “في أقرب وقت ممكن”، ونصَّ على إنشاء لجنة التوفيق التابعة للأمم المتحدة بشأن فلسطين. وتولت اللجنة مهام الوسيط الرئيسية، بما فيها التفاوض على حل للقضية الفلسطينية. وفي حين أن نية واضعي القرار كانت بأن ينبغي “السماح للمهجَّرين بالعودة عند تهيئة الظروف المستقرة” وليس بأن تكون العودة مشروطة بإقامة “سلام رسمي،” تم تفويض لجنة التوفيق الدولية بحل معضلة عودة المهجَّرين من خلال تسوية سلمية.
وبما أن عودة الفلسطينيين تتوقف على الاعتراف الإسرائيلي بهذا الحق الجماعي، فإن مسألة العودة الفلسطينية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتوصل إلى حلٍ سياسي أوسع نطاقًا. لذا أمست لجنة التوفيق الدولية بمثابة الساق السياسية للإطار المصمَّم للاجئين الفلسطينيين. وبعد عامٍ واحد من تشكيل اللجنة، واستجابةً للاحتياجات المتزايدة لمئات الآلاف من المهجَّرين الفلسطينيين، أنشأت الأمم المتحدة وكالة الأونروا كهيئة فرعية للجمعية العامة للأمم المتحدة بتفويض مؤقت لتقديم خدمات الإغاثة والتشغيل للاجئين الذين ينتظرون العودة إلى وطنهم. وقد شكلت هاتان المؤسستان معًا ذراعي النظام الفريد المطبق على المهجَّرين الفلسطينيين، وهو ما جعلهم الشعب الوحيد الذي ينطبق عليهم نظام منفصل ومحدد.
إن فكرة إبقاء المهجَّرين الفلسطينيين ضمن نطاق لجنة التوفيق والأونروا يجب أن تُفهم على أنها جهد مزدوج لاستدامة المسؤولية الإنسانية والسياسية الكاملة للأمم المتحدة إزاء محنتهم، وللحاجة على إيجاد حل لتهجيرهم من خلال العودة بدلًا من إعادة التوطين الذي كان يُرَوجُ له كحل لمشاكل لجوء أخرى في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
انفضت لجنة التوفيق سنة 1960 لانعدام فرص التوصل إلى تسوية سياسية تسمح بعودة المهجَّرين الفلسطينيين إلى ديارهم، وبذلك فقدَ إطار العمل الفريد ركيزةً من ركائزه. والأهم هو أن فض اللجنة أدى إلى زيادة التركيز على تمويل الأونروا أكثر من التركيز على معالجة العوائق السياسية التي وضعتها إسرائيل للحيلولة دون عودة الفلسطينيين. “سعى المجتمع الدولي وإسرائيل إلى استبدال المساعدات الإنسانية بالعدالة من خلال التركيز على الأعراض الإنسانية لتشريد الفلسطينيين بدلًا من الاعتراض على أسسه السياسية. وطوال 40 عامًا تقريبًا منذ نشأة الأونروا، ظل تجديد ولايتها أمرًا روتينيًا في الجمعية العامة للأمم المتحدة. وفي غياب حلِّ سياسي، لم تكن الأونروا مجرد تجسيد للمسؤولية الدولية تجاه قضية اللاجئين الفلسطينيين، بل كان يُنظر إليها أيضًا على أنها عامل استقرار يحول دون اندلاع اضطرابات اجتماعية وسياسية في المنطقة من خلال توفير خدمات شريان الحياة لها.
الأونروا وسياسة القوة
جدَّدت الجمعية العامة للأمم المتحدة ولاية الأونروا مرارًا وتكرارًا، وباتت وكالة الأمم المتحدة الوحيدة المعنية بمحنة المهجَّرين الفلسطينيين، ومدّدتها مؤخرًا حتى 30 حزيران/يونيو 2026، غيرَ أنّ هذا لا يقابله تمويل مستدام. فضلًا على أن الأموال الممنوحة لا تتأتى في كثير من الأحيان إلا مقرونة بشروط. وبالنظر إلى الطبيعة المؤقتة للأونروا، جُعلَ تمويلها معتمدًا على التبرعات الطوعية. وقد جاءت أكبر التبرعات في تاريخ الأونروا من الولايات المتحدة وألمانيا، يليهما الاتحاد الأوروبي (استنادًا إلى أرقام عام 2022). وبينما يظلُّ الفلسطينيون محرومين من حقهم في العودة، فإن الأونروا تعدَّت ولايتها المؤقتة بعد مرور ما يزيد على سبعة عقود على إنشائها. غير أن طواعية تمويلها لم تتغير، وهو ما جعلها عرضةً للأهواء السياسية للدول المانحة.
إنّ قرار حلفاء إسرائيل الأخير بوقف تمويل الأونروا ليس عرضًا وحسب من أعراض العائق الهيكلي في إطار تمويل الأونروا، وإنما يمثل ذروة استراتيجية إسرائيل المتعمدة للقضاء على الوكالة وإلغاء حق العودة غير القابل للتصرف Share on X
تقود إسرائيل منذ زمن بعيد حملةً مستمرة ضد الأونروا بهدف إنهائها. وانطلاقًا من جذور الصهيونية العنصرية المتأصلة وأيديولوجيتها الاستعمارية الاستيطانية، فإن الحرب الإسرائيلية على الأونروا ترتبط بكون الوكالة الالتزامَ الدولي الوحيد المتبقي تجاه حق الفلسطينيين في العودة وتجسيدًا للمسؤولية الدولية تجاه قضية اللاجئين الفلسطينيين. تهدف إسرائيل بهجماتها المتكررة والمتصاعدة على الأونروا إلى محو قضية اللاجئين الفلسطينيين ورفض حقهم الجماعي في العودة.
لم تكن إسرائيل، منذ تأسيسها من خلال العنف الاستعماري الاستيطاني، مستعدةً لقبول عودة الفلسطينيين إلى وطنهم لأنها ترى في عودتهم تهديدًا لوجودها. ولذلك اتخذت تدابير متعددة منعت عودة نحو 750 ألف فلسطيني مُهجَّر. وتماشيًا مع الجذور الاستعمارية الاستيطانية والعنصرية للأيديولوجية الصهيونية، منعت الدولة المنشأة حديثًا عودة الفلسطينيين إلى ديارهم وأراضيهم من أجل الاستيلاء على الأرض الفلسطينية دون سكانها الفلسطينيين، بينما دأبت على استبدال المهاجرين اليهود بهم لإيجاد أغلبية يهودية واستدامتها.
غير أن توقيع اتفاقات أوسلو في عام 1993 وإنشاء السلطة الفلسطينية أعطى إسرائيل فرصًا جديدة لدفن قضية اللاجئين الفلسطينيين والتخلص منها للأبد. وعلى الرغم من أن حق العودة غير خاضع للتفاوض، إلا أن قضية اللاجئين الفلسطينيين حُوِّلَت إلى مسألة ثنائية إسرائيلية فلسطينية ومن “قضايا الوضع النهائي.” ونتيجة لذلك، تأمل إسرائيل أن تُنقَلَ خدمات الأونروا إلى السلطة الفلسطينية والدول العربية لتحقيق الإدماج الرسمي لجزء كبير من اللاجئين الفلسطينيين. وبينما ترفض إسرائيل إعادة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم على أساس أنها تحتاج إلى الحفاظ على أغلبية سكانية يهودية، فإنها تُروِّج لفكرة توطين اللاجئين الفلسطينيين في الدول المضيفة لهم كبديل للعودة إلى الوطن. ولكن بما أن الدول العربية كانت مترددة في إدماج اللاجئين الفلسطينيين، كان لإسرائيل مصلحة قوية في إضعاف الأونروا من أجل إجبار الدول العربية على تقديم الخدمات للاجئين الفلسطينيين، ليؤدي ذلك إلى اندماجهم بحكم الأمر الواقع في الدول المضيفة لهم.
لقد بدت عداوة إسرائيل تجاه الأونروا جليةً في أعقاب اتفاقات أوسلو. وتطورت جهودها السياسية الإستراتيجية الرامية لنزع الشرعية عن الوكالة وتزايدت مع مرور الوقت لتشملَ، على سبيل المثال لا الحصر، التشهير، والتضليل الإعلامي، وتلفيق اتهامات لها بمعاداة السامية. وتسببت تلك الاتهامات في تفاقم أزمة الأونروا المالية، حيث حَدَت بالوكالة إلى تحويل التمويل من البرامج العادية إلى مشاريع خاصة بغرض التصدي لتلك الاتهامات.
تفاقمت معاناة الأونروا التمويلية سنة 2018، عندما قطعت إدارة ترامب تمويلها عن الوكالة، والذي كان يبلغ آنذاك 360 مليون دولار سنويًا ويُسهم بثلث ميزانيتها السنوية. وكان للقرار دوافع سياسية تهدف إلى إجبار الفلسطينيين على العودة إلى طاولة المفاوضات مع إسرائيل، بموازاة الرعاية الأمريكية لاتفاقات التطبيع بين إسرائيل وبعض الدول العربية. وبالرغم من قرار إدارة بايدن لاستئناف تمويل الأونروا جزئيًا في عام 2021، إلا أن خطوة ترامب أغرقت الوكالة في عجز تاريخي لم تتعافَ منه تمامًا.
قطع التمويل في خضم الإبادة الجماعية
تواجه الأونروا اليوم ضغوطًا مالية متزايدة تهدد مستقبلها في أعقاب قرار العديد من كبار مانحيها بتعليق وتخفيض التمويل، بمن فيهم الولايات المتحدة وألمانيا والمملكة المتحدة. ويأتي تعليق التمويل في أعقاب مزاعم إسرائيلية لا أساس لها بأن 12 من موظفي الأونروا البالغ عددهم 13,000 موظف في غزة ربما شاركوا في عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حماس في 2023. وفي حين استأنف بعض المانحين تمويل الوكالة بعد الفشل في التثبت من تلك المزاعم، إلا أن قطعَ الجزء الأكبر من تمويل الأونروا على نحو غير مسبوق يهدد جديًا قدرتها على الاستمرار.
وعلى خلفية العجز المزمن في ميزانية الأونروا، فإن قدرة الوكالة على خدمة اللاجئين الفلسطينيين والوفاء بولايتها كما ينبغي كانت مقوَّضةً أصلًا قبل تشرين الأول/أكتوبر 2023. غير أن قرار حلفاء إسرائيل الأخير بوقف تمويل الأونروا ليس عَرَضًا وحسب من أعراض العائق الهيكلي في إطار تمويل الأونروا، وإنما يمثل ذروة استراتيجية إسرائيل المتعمدة للقضاء على الوكالة وإلغاء حق العودة غير القابل للتصرف، حيث يدعو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى حل الأونروا كجزء من خططه لمرحلة ما بعد الحرب في غزة، بينما صَدَرت دعوات مماثلة لإغلاق مكتب الأونروا في القدس.
إنّ ما يميز حملة قطع التمويل الأخيرة عن الأونروا هو توقيتها الذي جاء بعد يوم واحد فقط من إصدار محكمة العدل الدولية حكمها المؤقت الذي يُقرّ بالخطر المعقول المتمثل في وقوع إبادة جماعية على يد دولة إسرائيل، حيث أمرت المحكمة كجزء من تدابيرها التحفظية إسرائيلَ “باتخاذ تدابير فورية وفعالة لتمكين توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها للتعامل مع الظروف المعيشية الوخيمة التي يواجهها الفلسطينيون في قطاع غزة.” وكانت حملة قطع التمويل عن الأونروا شكلًا صارخًا من أشكال الانتقام من قرار محكمة العدل الدولية، وكان الهدف منها صرف الانتباه عمَّا توصلت إليه المحكمة.
وبدلًا من تعليق المساعدات المالية والمساعدات العسكرية لإسرائيل، فإن قرار قطع التمويل عن العمود الفقري للمساعدات الإنسانية المقدمة للاجئين الفلسطينيين في غزة يؤكد التجاهل الصارخ لالتزامات الدول بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، التي تنص على أن الدول تتحمل مسؤولية اتخاذ التدابير اللازمة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. ويُعدُّ هذا الالتزام، بالإضافة إلى حظر أعمال الإبادة الجماعية، قاعدة من قواعد القانون الدولي العرفي، وبالتالي فهو ملزم لجميع الدول، بغض النظر عمّا إذا كانت مصادقة على الاتفاقية نفسها أم لم تكن. وبناء على ذلك أقامت نيكاراغوا دعوى قضائية ضد ألمانيا أمام محكمة العدل الدولية بسبب تقاعسها عن الوفاء بالتزامها بمنع الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني عندما قطعت مساعدتها للأونروا، واتخذت إجراءات أخرى.
ورغم أن الحملة الأخيرة ضد الأونروا ليست جديدة، إلا أنها مثيرة للقلق بشكل خاص، حيث إن نطاقها غير المسبوق وتوقيتها الخطير يتجاهلان الاحتياجات الماسة لحياة ملايين الفلسطينيين في غزة في هذا الوقت الحرج. وسيكون لانهيار الأونروا أثرٌ مدمر على اللاجئين الفلسطينيين في غزة وخارجها.
تداعيات تفكيك الأونروا
لن تستطيع الأونروا بدون التمويل الكافي أن تستمر في تنفيذ عملياتها الحيوية في الضفة الغربية وقطاع غزة والأردن ولبنان وسوريا. ويمثِّلُ قطع التمويل عن الأونروا انتهاكًا للقانون الدولي، فيما يتعلق بتفويض الأونروا بتقديم المساعدة للاجئين الفلسطينيين حتى تصبح عودتهم ممكنة. ولأنها المزود الرئيسي لشريان الحياة والمساعدات الإنسانية للاجئين الفلسطينيين، فإن وقف عملياتها وخدماتها سَيَذرُ 5.9 مليون لاجئ فلسطيني في المنطقة بدون تعليم أو رعاية صحية أو وظائف أو مياه أو صرف صحي أو مشاريع بنية تحتية في مخيمات اللاجئين التي تعمل فيها الأونروا. وهذا يعني فعليًا دمارًا شاملًا لحياة اللاجئين الفلسطينيين المدنية.
وقف تمويل الأونروا في خضم الإبادة الجماعية الجارية في غزة يشكل انتهاكًا للالتزام القانوني الواقع على الدول بمنع جريمة الإبادة الجماعية، وسيُعرّض الدول المتواطئة لتبعات قانونية تترتب على تواطؤها في جرائم الحرب الإسرائيلية Share on X
وفي غزة، تحديدًا، أمسى السكان المحاصرون أكثر اعتمادًا على الأونروا في الحصول على الخدمات والدعم المستديم لحياتهم من أي وقت مضى في خضم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل. وباعتبارها أكبر منظمة إنسانية تعمل في القطاع، فإنها تدير الملاجئ المكتظة، والمساعدات الغذائية (حوالي 250 ألف شخص في شمال غزة يعتمدون على المعونة الغذائية التي تقدمها الأونروا منذ بداية حملة الإبادة الجماعية)، والرعاية الصحية الأولية (حوالي 570,000 إنسان، بمن فيهم ما يزيد على 300,000 طفل، استفادوا من الدعم النفسي الذي تقدمه الأونروا في غزة).
وهكذا فإن قطع التمويل عن الأونروا يرقى إلى حكم الإعدام ولا سيما أن الفلسطينيين في غزة ما زالوا يواجهون مجاعةً من صنع الإنسان وتفشي الأمراض في ظل القصف الإسرائيلي المتواصل والعشوائي والحرمان المتعمد من المساعدات. وستُسهم عرقلة المساعدات الإنسانية التي تقدمها الأونروا في المذبحة الجارية في غزة. وبما أنه لا توجد وكالة أخرى تابعة للأمم المتحدة قادرة على أن تحلَّ محل الأونروا أو أن تقدِّمَ الحجم والنطاق نفسه من المساعدة التي تقدمها، فإن توقف الأونروا سيفاقم الكارثة الإنسانية المعقدة المتوقعة في الفترة المقبلة.
وفيما يتعلق بالتأثير المحدد في غزة في خضم الإبادة الجماعية، حذّر المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني، من أن “الاستجابة الإنسانية برمتها في غزة سوف تنهار،” إذا تم تفكيك الأونروا، محتجًا بأن “الفكرة القائلة إن تفكيك الوكالة أمرٌ ممكن دون انتهاك مجموعة كبيرة من حقوق الإنسان وتعريض السلام والأمن الدوليين للخطر هي فكرة ساذجة على أقل تقدير.” وحذّرت مجموعة من الوكالات الإغاثية التي تقودها الأمم المتحدة، والمعروفة باسم اللجنة الدائمة المشتركة بين الوكالات، من أن سحبَ الأموال من الأونروا “سيؤدي إلى انهيار النظام الإنساني في غزة، وسيكون له عواقب إنسانية وحقوقية بعيدة المدى في الأرض الفلسطينية المحتلة وفي جميع أنحاء المنطقة.” وبالمثل، دقّ تحالفٌ يضم ما يزيد على خمسة عشر منظمة عامة في مجال المساعدات الدولية ناقوسَ الخطر خشية فقدان الدور المركزي الذي تضطلع به الأونروا في الاستجابة الإنسانية في غزة، وجاء في ندائه أنه “إذا لم يتم التراجع عن تعليق التمويل، فإن خطر الانهيار الكامل للاستجابة الإنسانية المقيدة أصلًا في غزة سيصبح مرجحًا أكثر، وسيسفر عن خسائر بشرية يمكن منعها.”
وبموجب القضية التي رفعتها نيكاراجوا ضد ألمانيا، فإن وقف تمويل الأونروا في خضم الإبادة الجماعية الجارية في غزة يشكل انتهاكًا للالتزام القانوني الواقع على الدول بمنع جريمة الإبادة الجماعية، وبالتالي يُعرّض الدول المتواطئة لتبعات قانونية تترتب على تواطؤها في جرائم الحرب الإسرائيلية. واحتجت نيكاراغوا أمام محكمة العدل الدولية بأن:
قطع الأموال عن الأونروا… يُهدد كل مساعدة فعالة مقدمة لضحايا تلك الفظائع التي ترتكبها إسرائيل… وأن غياب عمل الأونروا أو تقليصه بشدة سيسهِّل ارتكاب الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي والتستر عليها. وهذا يشكل في حد ذاته انتهاكًا للالتزام بمنع جريمة الإبادة الجماعية وضمان احترام الآخرين لقوانين الحرب، ويشير أيضًا إلى تواطؤ أكبر في تيسير ارتكاب هذه الأفعال غير القانونية.
تنطبق هذه الحجة أيضًا على الولايات المتحدة، التي لم تكتفِ بقطع التمويل عن الأونروا، وإنما أصدرت في الكونجرس قرارًا يحظر أموال الأونروا لمدة عام واحد.
إن حملة قطع التمويل عن الأونروا تهدد بالتخلي عن آخر التزام دولي قائم تجاه قضية اللاجئين الفلسطينيين العادلة وحقهم الجماعي في العودة كما نصَّ القرار رقم 194. إنّ تهديد استمرار الأونروا بوصفها الوكالة الوحيدة المعنية بشؤون الفلسطينيين ينبغي أن يُقلقَ كل فلسطيني وصانع سياسات، حيث إنّ تعليق تمويل الأونروا في هذا الوقت الحرج يخدم هدف إسرائيل المتمثل في القضاء على الوكالة برمتها، ومعها قضية اللاجئين الفلسطينيين.
توصيات
- لكي يتمكن نحو مليوني فلسطيني في غزة من الحصول على المعونة والمساعدات الإنسانية الحيوية التي يستحقونها، يجب على الدول التي لم تستأنف بعدُ تمويلها للأونروا أن تعمدَ على الفور إلى استئنافه وزيادته. ويتسق هذا مع تطبيق القانون الدولي والتزام تلك الدول بمنع جريمة الإبادة الجماعية، وتجنب إلحاق المزيد من الأذى أو العقاب الجماعي بالفلسطينيين ولا سيما في غزة.
- ينبغي للأمم المتحدة أن تتخذَ كافة التدابير اللازمة لتغيير واستبدال نظام تمويل الأونروا من خلال السعي للحصول على مساهمات إلزامية من الدول الأعضاء. ومن شأن ذلك أن يعتق الأونروا من المصالح السياسية للدول الأعضاء.
- ينبغي لشركات القطاع الخاص أن تزيد مساهماتها للأونروا بموجب سياسة المسؤولية الاجتماعية للشركات، حيث سيساعد ذلك في سد الفجوة المالية الراهنة للأونروا.
- يجب على الأمين العام للأمم المتحدة أن يسعى على عجل إلى استصدار قرار من الجمعية العامة بشأن صندوق طوارئ الأونروا، حيث إنّ من شأن صندوق الطوارئ أن يدرَّ أموالًا إضافية للوكالة لتتمكن من الاستجابة للحاجة المتزايدة لخدماتها الحيوية على الأرض.
- نظرًا إلى تاريخ إسرائيل الطويل في التضليل والتلاعب، ينبغي للمجتمع الدولي أن يدقق بشدة في جميع الاتهامات التي تكيلها إسرائيل للفلسطينيين. فحينما تصدر تلك الاتهامات، يجب على الدول الثالثة أن تشرع في تحقيقاتها المستقلة للتحقق من الادعاءات الإسرائيلية، ولا ينبغي أن تفترض حسن النية في إسرائيل أثناء تحقيقاتها. حتى في الحالات التي تثبت فيها صحة الادعاءات، يجب على المجتمع الدولي أن يستنفد التدابير الممكنة كافة لتجنب فرض العقاب الجماعي على الشعب الفلسطيني بأكمله عند السعي لمحاسبة أفراد بعينهم.
- لقراءة هذا النص باللغة الفرنسية، اضغط/ي هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.