مقدمة
أعلنت قطر في 15 كانون الثاني/يناير 2025 عن الاتفاق الذي طال انتظاره لوقف إطلاق النار بين النظام الإسرائيلي وحماس، بوساطة قطرية ومصرية وأمريكية. وعدَ الاتفاق بإنهاء 15 شهرًا من العدوان الإبادي على غزة، الذي قتلت خلاله القوات الإسرائيلية ما لا يقل عن 64,260 فلسطينيًّا ودمرت القطاع، محولة إياه إلى رُكام. وبعد بعض العراقيل المشوبة بالتوتر التي أعقبت الإعلان عن الاتفاق، وتضمنت اتهامًا من إسرائيل بأن حماس نكثت ببعض أجزاء الاتفاق، دخلَ وقف إطلاق النار حيز التنفيذ بُعيد ساعات من بدايته المقررة في 19 كانون الثاني/يناير. وواصل النظام الإسرائيلي قصف غزة حتى تلك اللحظة.
ينطوي الاتفاق على خطة من ثلاث مراحل. تستمر المرحلة الأولى 42 يومًا، وتتضمن إطلاق سراح إسرائيليين محتجزين في غزة ومعتقلين فلسطينيين في صفقة تبادل، ووقفَ الأعمال العدائية، وانسحاب القوات الإسرائيلية إلى منطقة عازلة بعرض 700 متر، وعودة الفلسطينيين النازحين إلى أحيائهم. وتتضمن المرحلة الثانية إعلان استدامة الهدنة، وإطلاق سراح مزيد من السجناء، والانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من غزة. أمَّا المرحلة الأخيرة فتتضمن إعادة جثث الفلسطينيين المتوفين الذين كانوا محتجزين في السجون الإسرائيلية، وبدء خطة إعادة إعمار غزة، وإعادة فتح المعابر الحدودية.
وبالرغم من أن وقف إطلاق النار يفسح المجال لإغاثة الفلسطينيين في غزة الذين كابدوا وقاوموا هذه الإبادة المروعة، فإن الشكوك لا تزال قائمة حول استمرار الهدنة والتزام النظام الإسرائيلي بتنفيذ جميع بنودها، حيث أفادت وسائل إعلامية مختلفة بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وعدَ المسؤولين الحكوميين باستئناف الحرب بعد الانتهاء من المرحلة الأولى. وأعلنَ أن إدارة ترامب تدعمه في استئناف القتال إذا اختار ذلك. وحتى إذا نُفِّذَ الاتفاق بالكامل، فمن المرجح أن يحاول النظام الإسرائيلي تحقيقَ المكاسب التي فشل في إحرازها إبَّان حرب الإبادة.
في هذه الحلقة النقاشية، يتناول محللو الشبكة: شذى عبدالصمد، باسل فراج، طلال أبو ركبة، وديانا بطو، الجوانبَ المختلفة لاتفاق وقف إطلاق النار، وتداعياتها على السياق الأوسع للاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي لأرض فلسطين.
إعادة تشكيل خارطة العمل الإنساني
شذى عبدالصمد
تنطوي المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار على زيادة المساعدات الإنسانية ومواد الإغاثة الداخلة غزة، وتشمل إمدادات الغذاء والمستلزمات الطبية، بجانب الوقود الذي لا غنى عنه لتشغيل البنية التحتية الحيوية، مثل المستشفيات وخدمات الاتصالات. وفي حين أن هذه الزيادة في توصيل المواد الإغاثية أمرٌ بالغ الأهمية، فإنها ما تزال قاصرة عن معالجة الأزمة الإنسانية الكارثية التي خلَّفتها حرب الإبادة في غزة، إذ تشير التقديرات إلى أن الحاجة إلى الإمدادات لا تقل عن 600 شاحنة مساعدات يوميَّا، حتى يتسنى البدء في معالجة الدمار. ولا تزال هناك تحديات كبيرة تواجه توصيل المساعدات وتوزيعها على نحو فعال.
لا يجب أن يصبح تعزيز المساعدات الإنسانية ضمن إطار اتفاق وقف إطلاق النار الحالي بديلًا عن العدالة والمساءلة Share on X
دمَّرت القوات الإسرائيلية معظم الطرق والبنية التحتية في غزة في الأشهر الخمسة عشر الماضية، ما جعل من توصيل المساعدات الإنسانية تحديًا هائلًا. وفي الوقت نفسه، تُهدد المساعي التشريعية الإسرائيلية الرامية إلى حظر الأونروا -التي من المقرر أن تدخل حيز التنفيذ في نهاية كانون الثاني/يناير- بإحداث فراغ في نظام توزيع المساعدات الإنسانية. فالأونروا هي المقدم الأول للمساعدات وخدمات التعليم والرعاية الصحية للفلسطينيين، وسيكون لحظرها تبعات كارثية على حياتهم.
هذا وقد عزم النظام الإسرائيلي والولايات المتحدة على وضع خطة لاستبدال الأونروا ضمن إستراتيجية أوسع لخلق مشهد بديل للعمل الإنساني الحالي، بحيث تُستَبعد وكالة الأمم المتحدة لإغاثة الفلسطينيين بالكامل، ويعاد توجيه الأموال إلى هيئات ومنظمات دولية أخرى تعتمد بشكل شبه كامل على التمويل الأمريكي. وتهدف هذه السياسة إلى وقف عمل الأونروا وإلغاء ولايتها تجاه اللاجئين الفلسطينيين، ما يقوض حق العودة.
في ضوء هذه المحاولة الشائنة لإعادة رسم خارطة العمل الإنساني، ينبغي للجهات الدولية الفاعلة أن تُصِر على أن الأونروا هي مزود خدمات لا غنى عنه للفلسطينيين في ظل استمرار الاحتلال. وفي الوقت نفسه، ينبغي للمجتمع الدولي أن يُحمِّل النظام الإسرائيلي المسؤوليةَ عن استهداف الأونروا وعرقلة دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، الذي يرقى إلى جريمة حرب.
ولا يجب أن يصبح تعزيز المساعدات الإنسانية ضمن إطار اتفاق وقف إطلاق النار الحالي بديلًا عن العدالة والمساءلة. فيجب إجراء تحقيقات وافية واتخاذ الإجراءات القانونية بموجب القانون الدولي لملاحقة النظام الإسرائيلي على استهدافه المنظمات الإنسانية وموظفيها بلا هوادة وعلى نحو ممنهج طوال حرب الإبادة.
اشتداد قسوة سياسات الاحتجاز الإسرائيلية
باسل فراج
ينص اتفاق وقف إطلاق النار في مرحلته الأولى على إطلاق سراح 1,737 فلسطينيًّا محتجزًا لدى إسرائيل مقابل 33 إسرائيليًّا محتجزين في غزة على مدى 42 يومًا. ويضم هذا العدد 296 أسيرًا فلسطينيًّا يقضون أحكامًا بالسجن المؤبد ونحو 1,000 إسرائيلي أُسِروا في غزة بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. ومن الفلسطينيين المُطلق سراحهم في هذه المرحلة، سيُرحَّلُ نحو 180 إلى خارج فلسطين.
كما سيُفضي تنفيذ الاتفاق كاملًا إلى تسليم جثث الشهداء وإطلاق سراح مزيد من الفلسطينيين بينهم معتقلون بارزون في المراحل اللاحقة. وفي حين تضغط حماس من أجل إطلاق سراح مروان البرغوثي وأحمد سعدات وغيرهما من القادة السياسيين البارزين المعتقلين في السجون الإسرائيلية، لا يزال من غير الواضح ما إذا كان النظام الإسرائيلي سوف يمتثل لتلك المطالب.
استبقَ النظام الإسرائيلي صفقة التبادل هذه من أجل إعادة أسراه المعتقلين داخل غزة، حيث شنّت قواته حملات اعتقال واسعة النطاق في مختلف أنحاء الضفة الغربية منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر. وأدَّت هذه الخطوة فعليًّا إلى مضاعفة عدد الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وبالتالي إلى زيادة أوراق المساومة التي تملكها الحكومة الإسرائيلية في صفقة التبادل. وفي الوقت نفسه، ظل الفلسطينيون يعانون تدهور الأوضاع في السجون الإسرائيلية منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر.
وفي حين أن من الأهمية بمكان أن يساعد اتفاق وقف إطلاق النار في إطلاق سراح بعض المعتقلين من سجون الاحتلال العاتية، وتجنيب غزة القصف المتواصل، فإنه لا يغير من واقع الممارسات الإسرائيلية القاسية التي تسجن الفلسطينيين داخل وخارج المعتقلات Share on X
ومنذ بدء حرب الإبادة الجماعية، أخذَ نظام السجون الإسرائيلي ينزل بالفلسطينيين المحتجزين لديه، ومنهم كثيرون محتجزون دون تهمة، مستويات متزايدة من الإيذاء الجسدي والنفسي، بما في ذلك الاعتداء الجنسي، كما حرمهم الطعامَ والرعايةَ الطبية والتواصل مع ذويهم ومحاميهم. وقد توفي ما لا يقل عن 56 أسيرًا منذ بدء الإبادة الجماعية، إمّا نتيجة الإهمال وإما سوء المعاملة داخل أماكن الاعتقال. والجدير بالذكر أن اتفاق وقف إطلاق النار لا يتضمن أي بنود تسعى إلى تحسين ظروف الاعتقال، ولا يضمن عدم إعادة اعتقال السجناء الفلسطينيين المفرج عنهم، كما حصل بعد تبادل الأسرى في تشرين الثاني/نوفمبر 2023 حين أُعيد اعتقال عديد من الفلسطينيين المفرج عنهم آنذاك.
وفي حين أن من الأهمية بمكان أن يساعد اتفاق وقف إطلاق النار في إطلاق سراح بعض المعتقلين من سجون الاحتلال العاتية، وتجنيب غزة القصف المتواصل، فإنه لا يغير من واقع الممارسات الإسرائيلية القاسية التي تسجن الفلسطينيين داخل وخارج المعتقلات. ولم تلبث الحكومة الإسرائيلية حتى اعتقلت 64 فلسطينيًّا، بينهم أطفال، في الضفة الغربية فور إطلاق سراح 90 آخرين بموجب صفقة التبادل الحالية. وختامًا، لا بد أن نتذكر أن اتفاق وقف إطلاق النار لا يتضمن بنودًا لإنهاء الحصار والاحتلال الذي حوَّل غزة منذ فترة طويلة إلى سجن مفتوح.
انسحاب القوات الإسرائيلية على مضض
طلال أبو ركبة
تنطوي المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار على انسحاب قوات الاحتلال جزئيًّا من مراكز الاكتظاظ السكاني، مع احتفاظ القوات الإسرائيلية بمنطقة عازلة بعمق 700 متر على طول الحدود الشرقية والشمالية لقطاع غزة.
وتنص المرحلة الأولى أيضًا على الانسحاب التدريجي من ممر نتساريم، وهو حزام عسكري أنشأه الإسرائيليون وسط غزة إبَّان حرب الإبادة الجماعية لفصل شمالها عن جنوبها. ومن شأن انسحاب القوات الإسرائيلية وتفكيك منشآتها العسكرية من هذا الممر أن يسهِّل عودة النازحين إلى مناطق سُكناهم في الطرف الآخر من القطاع. كما ينبغي أن تبدأ القوات الإسرائيلية في تقليص وجودها في محور فيلادلفيا بين مصر وغزة، تمهيدًا لانسحابها الكامل من معبر رفح في المرحلة الثانية من الاتفاق.
إن نجاح هذا الاتفاق الذي يُفضي إلى الانسحاب الإسرائيلي الكامل من غزة يعتمد على مفاوضات المرحلة الثانية. غير أن من المرجح أن تسعى إسرائيل إلى ربط تنفيذ المرحلتين الثانية والثالثة بمسألة إدارة غزة بعد الحرب. ومن المرجح أن تواجه هذه المفاوضات تحديات عدة، ولا سيما أن رؤية النظام الإسرائيلي لمستقبل غزة مبنية على تفكيك قدرات المقاومة العسكرية وإنهاء حكم حماس بالكامل.
واقع الأمر أن النظام الإسرائيلي سوف يهدف من خلال المفاوضات إلى تحقيق ما عجز عن تحقيقه بالنيران إبَّان حرب الإبادة الجماعية التي استمرت 15 شهرًا Share on X
واقع الأمر أن النظام الإسرائيلي سوف يهدف من خلال المفاوضات إلى تحقيق ما عجز عن تحقيقه بالنيران إبَّان حرب الإبادة الجماعية التي استمرت 15 شهرًا. ويُرجَّحُ في هذا الصدد أن تستخدم إسرائيل ملف المساعدات وإعادة الإعمار كأدوات ابتزاز سياسي من أجل إجبار حماس على الاستسلام وقبول الاشتراطات الإسرائيلية. وقد يشمل هذا تفكيك القدرات العسكرية لكتائب القسام وإنزال حماس عن سدة الحُكم في غزة. ومن الجدير بالذكر أن النظام الإسرائيلي طرحَ مقترحات عدة إبَّان الإبادة الجماعية بشأن منح قيادات حماس ممرًّا آمنًا إلى المنفى، وقد رفضها الفلسطينيون.
فمنذ إعلان وقف إطلاق النار، هدَّدت الحكومة الإسرائيلية بأن لديها الحق في استئناف هجومها الإبادي في أي لحظة. ومن المتوقع أيضًا أن يصر الإسرائيليون على إبقاء قواتهم في المنطقة العازلة إلى أجل غير مسمى، لتستولي إسرائيل على مزيد من الأراضي الفلسطينية بحجة أمنية. والواقع أن القدرات العسكرية المتقدمة التي يتمتع بها النظام الإسرائيلي، وسيطرته على المعابر الحدودية في غزة، وقدرته على تعطيل عملية إعادة الإعمار، تعمل كلها على إبقاء الاحتلال قبضته الخانقة على حياة الفلسطينيين في غزة.
التفاوض على الإبادة
ديانا بطو
يتطابق اتفاق وقف إطلاق النار المتفق عليه في 15 كانون الثاني/يناير، من حيث الشكل والمضمون، مع الخطة المقترحة سابقًا التي جرى التفاوض عليها في أيار/مايو 2024 ثم رفضها نتنياهو. وفي حين تحدث كثير من المحللين عن بنود الاتفاق، وأعرب كثيرون عن غضبهم إزاء التأخير في تطبيق الهدنة التي طُرحت قبل ثمانية أشهر، فقد تجاهل المحللون سؤالًا بالغ الأهمية: لماذا يُطلَب من الفلسطينيين التفاوض أصلًا؟
إن التفاوض مع مرتكبي الإبادة الجماعية ليس مسؤولية مَن يُقتَّلون أو القابعين تحت الاحتلال العسكري، بل إن الواجب الأخلاقي والقانوني يقع على كاهل المجتمع الدولي لوقف الإبادة الجماعية. فمنع الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها يُعدُّ من القواعد المُلزِمة في القانون الدولي التي لا تقبل التفاوض. إن الإخفاق العالمي في وضع حد لحرب الإبادة الجماعية طوال الأشهر الخمسة عشر الماضية يطعن في شرعية نظام القانون الدولي.
التفاوض مع مرتكبي الإبادة الجماعية ليس مسؤولية مَن يُقتَّلون أو القابعين تحت الاحتلال العسكري Share on X
كما أشارت محكمة العدل الدولية في قرارها الصادر في تموز/يوليو 2024 إلى أن المسؤولية تقع على عاتق القوة المحتلة لوقف الأعمال غير القانونية وليس على السكان الرازحين تحت الاحتلال للتفاوض على حريتهم. وبالتالي، من غير المرجح أن تُفضي مفاوضات وقف إطلاق النار الحالية إلى التحرر من الاحتلال، فستواصل إسرائيل ممارسة السيطرة على غزة وحياة الفلسطينيين.
وبالرغم من أن الهدنة وتدفق معونات الإغاثة إلى غزة تساعد السكان على تجنب خطر الموت والمعاناة، فإن بنود الاتفاق لا تحل الأزمة الإنسانية الكارثية. فإعادة الانتشار العسكري وتعطيل آليات توصيل المساعدات وتوزيعها تُعزز السيطرة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية. فضلًا على أن تصريحات المسؤولين الإسرائيليين والأمريكيين الداعية إلى إزاحة حماس عن السلطة تُظهر رغبةَ إسرائيل، باعتبارها قوة احتلال، في مواصلة حصار غزة.
إنّ أقلَّ ما يمكن للمجتمع الدولي فعله الآن، بعد إخفاقه في إنهاء الإبادة الجماعية، هو أن يُحاسبَ النظام الإسرائيلي على جرائمه الشنيعة، ويضعَ حدًّا لاحتلاله الاستعماري، وألا يُجبرَ الفلسطينيين على التفاوض مرةً أخرى على حريتهم.