Palestine 2010: Time for Plan B

لمحة عامة

إن احتمال أن تفضي المبادرات الدبلوماسية الجارية إلى تسوية جدية على أساس حل الدولتين هو احتمال غير قائم فعلياً، كما يرى مُعين رباني المستشار في شؤون السياسات لدى الشبكة، وذلك لأن إسرائيل تصر على فرض سيطرتها الدائمة على القدس الشرقية ومساحات واسعة من الضفة الغربية، ولأن الولايات المتحدة وأوروبا تفتقران إلى الإرادة السياسية لكبح جماح وتيرة التوسع الإسرائيلي. ويتوقع معين رباني مستقبلاً غير مشرقاً ينطوي على عزل وتشتيت أكبر للفلسطينيين في الأراضي المحتلة وداخل إسرائيل، وتهميش واندثار أكثر لفلسطينيي الشتات، وصراع وجودي متنامٍ إقليمياً تقع فيه المبادرة على عاتق الجهات غير الحكومية التي تعمل خارج حدود إسرائيل/فلسطين. لذا، فبدلاً من الارتكان إلى الدبلوماسية وسيناريوهات السلام البديلة المتواصلة على أمل يائس بتغيير إطار العمل الأمريكي الإسرائيلي المهيمن، ينبغي لمناصري حق الفلسطينيين في تقرير المصير أن يركزوا جهودهم على كبح الوقائع على الأرض أو عكسها حيثما تسنى والاضطلاع بحملات عالمية للتصدي لإفلات إسرائيل من العقاب والترويج لمفهوم مساءلة إسرائيل عما تقترفه بحق الشعب الفلسطيني. ويخلص معين رباني إلى أن هذا هو الخيار الواقعي الوحيد للحفاظ على الحقوق الفلسطينية، وربما لإرساء خيارات دبلوماسية جادة على المدى البعيد.‏

لماذا لا يمكن أن تنجح محادثات السلام

ما فتئ المبعوث الخاص للولايات المتحدة، جورج ميتشل، منذ أن بدأ مهمته قبل ما يقرب من 18 شهراً يتنقل في رحلات مكوكية بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وها هو يأتي في هذه المرة ولديه مهلة مفترضة مدتها أربعة أشهر لإحراز “التقدم”. ولكن ليس ثمة ما يدل على أن الولايات المتحدة (وبالتالي “المجتمع الدولي” الأوسع) تمتلك الإرادة لممارسة ضغط متواصل على إسرائيل لتحقيق الحد الأدنى المطلوب لضمان إذعان القيادة الفلسطينية – ولا حتى إذعان محمود عباس. وفي حال حدوث ذلك وهو من غير المرجح، فإنه من غير الواضح أن تتمكن الحكومة الإسرائيلية الحالية – أو أي حكومة مستقبلية أقل تطرفاً – من أن تتحمل الرضوخ لمثل هذه المطالب. وفي الواقع، فإن التزام قطاعات كبيرة داخل المجتمع الإسرائيلي ومؤسساته، بما فيها المؤسسة الأمنية، بالحفاظ على سيادة إسرائيلية دائمة على القدس الشرقية وأراضي الضفة الغربية يجعل من إمكانية تنفيذ قرار إسرائيلي رسمي بالانسحاب من الأراضي المحتلة أمراً مستبعداً للغاية. ( انظر كميل منصور موقف في قضية).

ثمة عوامل أخرى كالانقسام الفلسطيني الداخلي وغياب التصدي العربي للهيمنة الإقليمية الإسرائيلية تساهم في سد الطريق وتعمل على جعل خيار الوضع الراهن خيار إسرائيل الأقل كراهةً. وعلى الرغم من مهمة ميتشل، فإنه يبدو من المعقول الاستنتاج بأن واشنطن والاتحاد الأوروبي سوف يصلان مجدداً، وإن على مضض، إلى النتيجة ذاتها.

وفي حين أن الواقع قد طغى فعلياً على احتمالات التوصل إلى تسوية على أساس حل الدولتين، فإن الحل الديمقراطي أو ثنائي القومية قد غدا بديلاً مستبعداً حدوثه بدرجة أكبر في المستقبل المنظور، لأنه سيتطلب تحولات متعددة وعميقة تكون على الأقل بعمق التحولات التي حدثت في جنوب إفريقيا إبان عقد التسعينات، ولكن هذه المرة في بيئة محلية وإقليمية ودولية مواتية بقدر أقل بكثير؛ فالتحديات التي تواجه محو الصهيونية تفوق بكثير تحديات طرد إسرائيل من الأراضي التي احتلتها عام 1967.

لذلك فإن التحليل الواعي للحقائق يومئ إلى مستقبل بغيض: عزل وتشتيت بصورة أكبر للفلسطينيين في الأراضي المحتلة وداخل إسرائيل، والمزيد من التهميش والاندثار لفلسطينيي الشتات، ولا يقابل هذا كله أي اعتراض من الحكومات الغربية بل تقابله مستويات غير مسبوقة من الدعم العربي. ومن المرجح أن تقترن هذه الأمور بصراع وجودي متنامٍ إقليمياً تقع المبادرة في سياقه على عاتق الجهات غير الحكومية التي تعمل خارج حدود إسرائيل/فلسطين. إن قيام ما سمّاها سلام فياض، وهو رئيس الوزراء الذي عينته السلطة الفلسطينية، “دولة ميكي ماوس” سوف يخدم استمرار هذه التطورات عوضاً عن كبحها.

وفي حين أن هذه الاستنتاجات ليست إلا ضرباً من التكهن، بمعنى أنه لا يمكن التحقق منها ولا دحضها على وجه قاطع رغم أنها مستخلصة من الأدلة المتوفرة، فإن أحد مدلولاتها يشير إلى أن الإبقاء على التركيز منصباً بشكل أساسي على حل النزاع، عن طريق الدعوة على سبيل المثال إلى موقف أمريكي وأوروبي أقوى ينادي بحل الدولتين، هو بمثابة خوض معركة الأمس. فما كان معقولاً وممكناً قبل مؤتمر مدريد لعام 1991 الذي شهد تدشين انطلاق المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين – وربما ما كان كذلك لغاية أواخر التسعينات – قد غدا اليوم غير قابل للتحقيق بسبب انتفاء الشروط المطلوبة كلها تقريباً.

تشخيص المأزق

إن من الضروري أن يدرك المرء كيف خرج المأزق المبين أعلاه إلى حيز الوجود ولا سيما بقدر ما يتعلق الأمر بمساهمة الدبلوماسية الأمريكية والأوروبية. فباختصار، يمكن القول إن إطار عمل الدبلوماسية المتشكل في أوائل عقد التسعينات أرسى عدة اتجاهات قوضت في نهاية المطاف احتمالات التوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض.

أولاً وقبل كل شيء، لم تدخر واشنطن جهداً منذ أواخر عقد الثمانينات – ولا سيما إبان عهد الرئيس بيل كلينتون – لإقصاء القانون الدولي كإطار للمفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين وكحل للصراع. وكثيراً ما يُنسى أن واشنطن وحتى مرحلة متقدمة إبان عهد الرئيس كارتر والرئيس ريغان قد أيدت أو تغاضت عن قرارات مجلس الأمن الدولي التي أكدت على عدم شرعية كافة النشاطات الاستيطانية الإسرائيلية (بما في ذلك في القدس الشرقية)، واعتبرت ضم إسرائيل للقدس الشرقية “لاغياً وباطلاً”، وأصرت على انطباق اتفاقية جنيف الرابعة على جميع الأراضي المحتلة في حرب حزيران/يونيو 1967.

لقد ظل دينيس روس في صميم هذا التحول الطارئ على السياسة الأمريكية. فلقد بدأ هذا الموالي البارز لإسرائيل مسيرته في العمل الحكومي إبان عهد الرئيس كارتر وقد علا شأنه مع تعاقب الإدارات الأمريكية حتى أصبح في عهد الرئيس كلينتون مبعوث الولايات المتحدة للشرق الأوسط. وكان أبرز إنجاز حققه روس على الأرجح هو نجاحه في استخدام الحسابات التي وضعها تحالف حكومات إسرائيل المتزايدة تطرفاً كسقف للحقوق الفلسطينية. وقد أقرّ آرون ديفيد ميلر، وهو نائب روس، في وقت لاحق التأكيدات الفلسطينية بأن روس كان وسيطاً متحيزاً وميؤوساً منه: “كثيراً جداً ما اضطلعت الثلة القليلة التي عملت معها إبان إدارة كلينتون، وأنا من ضمنها، بدور المحامي عن جانب واحد فقط وهو إسرائيل.”‏ ‏1‬‬‏ لقد شهد عهد روس وهو على رأس المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية تسارعاً غير مسبوق على صعيد الاستعمار الإسرائيلي ترافقه مستويات غير مسبوقة من التستر الأمريكي عن تصرفات إسرائيل. فلقد قوض روس فعلياً أي احتمال لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي التوصل إلى تسوية على أساس حل الدولتين. وحينما انهار كل شيء وكأنه بيت من ورق في عام 2000 (وهي نتيجة عزاها روس إلى ياسر عرفات، في واحدة من أوقح المواقف السياسية المعروفة لتبرير الذات)، أعلنت واشنطن في عام 2003 (بدعم أوروبي كامل) إطار عمل جديد،”خريطة الطريق المستندة إلى الأداء لإيجاد حل دائم للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني على أساس وجود دولتين.” وقد أعُلن إطار العمل هذا في سياق الحملة الأمريكية الإسرائيلية الرامية لتغيير النظام الفلسطيني (استبدال ياسر عرفات بمحمود عباس)، وكانت معايير تحقيق السيادة صارمة للغاية (بما في ذلك، على سبيل المثال، إنهاء غير مشروط “للعنف [الفلسطيني]” وإقامة “ديمقراطية فاعلة”)، لدرجة أنها لو طُبقت على المستعمرات الإفريقية والآسيوية إبان القرن العشرين، لما حققت السيادة سوى تلك المستعمرات التي احتوت حركات مغاورين فاعلة.

وفي المقام الثاني وتبعاً لما ذُكر آنفاً، قبلت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في الممارسة العملية بتعريف إسرائيل للأراضي المعنية بوصفها أراضٍ “متنازعاً عليها” بدلاً من أراضٍ “محتلة.” وبذلك، تُرك الأمر للمُحتل وللخاضع للاحتلال (للمحتل في الواقع الفعلي) لتحديد إدارة هذه الأراضي. وهذا نموذج يختلف اختلافاً جذرياً عن النموذج المستخدم في إنهاء الاستعمار في الهند وإندونيسيا في أواخر الأربعينات وفي جنوب إفريقيا وتيمور الشرقية في التسعينات، حيث تركزت المفاوضات بالأساس حول وضع آليات مرضية للطرفين المعنيين من أجل التوصل إلى نتيجة محددة سلفاً وهي إنهاء الحكم الأجنبي (أو حكم الأقلية).2

وفي هذا الصدد، يجدر التذكير بأن رصاصة الرحمة التي سددها التوسع الاستيطاني إلى حل الدولتين جاءت بعد وليس قبل بدء المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين في عام 1991. ولم يتبلور هذا الوضع بسبب نجاح إسرائيل وحسب في استغلال الدبلوماسية لتعزيز سيطرتها على الأراضي التي تسعى إلى ضمها بشكل دائم، وإنما – وعلى قدر أكبر من الأهمية – لأن واشنطن والعواصم الأوروبية وجدت على الدوام أن من مصلحتها التغاضي عن هذا الوضع.‏

إن من أكثر الأمثلة وضوحاً في هذا الصدد هو إنشاء إسرائيل مستوطنة هار حوما على جبل أبو غنيم جنوب شرق القدس في عام 1996، وبناء الجدار في الضفة الغربية منذ عام 2002. فبدلاً من انتهاز هذه الفرصة لإعادة صياغة العملية أو على الأقل تعليقها وحمل إسرائيل على إلغاء المبادرات أحادية الجانب والتي تهكمت أيما تهكم على النموذج القائم على حل الدولتين، مارست الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضغوطاً كبيرة على الفلسطينيين لإعادتهم إلى إطار العمل القائم المعيب والمحتضر (اتفاقات أوسلو وخارطة الطريق على التوالي). ولم تكن ممارسة تلك الضغوط بسبب انعدام الإدراك بأن أنشطة إسرائيل آنفة الذكر قد شكلت ضربات قاصمة لاحتمالات قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة وذات سيادة. أما التجسد الأخير لهذا النهج فيتمثل في زيارات ميتشل المكوكية الجارية. إن واشنطن بتخليها عن تجميد الاستيطان الإسرائيلي قد فرضت مجدداً وعلى نحو فعال توسعاً مستمراً لهذا الاستيطان كشرط مسبق لاستئناف المفاوضات والتي أصبحت بالتالي دونما جدوى.

ومع ذلك، فإن التطور الأخطر لا يزال يكمن في التحويل السياسي للأراضي المحتلة إلى أراض متنازع عليها، وفي بعض الحالات إلى أراض إسرائيلية بحكم الواقع. فقد تخلت أمريكا وأوروبا فعلياً عن معظم القدس الشرقية وجُل المستوطنات الرئيسية في الضفة الغربية لإسرائيل. وفي الواقع، فإن قبول إسرائيل مؤخراً في منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي ما هو إلا اعتراف فعلي من أعضاء المنظمة بالسيادة الإسرائيلية الدائمة على هذه الأراضي. وفي حين أن الولايات المتحدة قد سعت قبل عقد من الزمن لتقسيم الأراضي الفلسطينية المحتلة على أساس أن “ما هو يهودي هو لإسرائيل وما هو عربي هو للفلسطينيين”، فإن التوجه الحالي كما يبدو يفيد بأن ما هو يهودي هو غير قابل للتفاوض، وما هو عربي هو مطروح للنقاش. وفي ظل هذه الظروف، فإن المفاوضات ليست – ولا يمكن أن تكون – حول كيف ينبغي لإسرائيل أن تخرج، وإنما (كما الحال في آيرلندا قبل ما يقرب من قرن من الزمان) أين ينبغي أن تبقى.‏

الخيارات في زمن النزاع المتنامي

لقد حدا الاعتداء المميت الذي ارتكبته إسرائيل مؤخراً بحق أسطول الحرية المتجه إلى غزة، والإدانة واسعة النطاق للتصرف الإسرائيلي، بعدد من المعلقين إلى الاستنتاج بأن نقطة التحول التي طال انتظارها على صعيد التسامح الدولي مع خروج إسرائيل على القانون قد تم بلوغها أخيراً. كيف لا وللتاريخ طرائقه في صنع تحولات مفاجئة وغير متوقعة، فثمة سيناريوهات معقولة – كنشوب حرب جديدة في الشرق الأوسط أو تغيير النظام في القاهرة أو نشوب عصيان جماعي للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل – يمكن أن تكون بمثابة حافز لحدوث تغير كبير في العلاقة الإسرائيلية الفلسطينية. ومع ذلك ونظراً لإلحاح الوضع الراهن، فإن من الحماقة انتظار الخلاص مما هو غير متوقع دون فعل شيئ – ولا سيما أن من المستحيل التكهن بالتأثير الفعلي لما هو غير متوقع وأن تأثيره قد يكون كارثياً. وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أنه وفي أعقاب الهجوم الإسرائيلي غير القانوني والأشد فتكاً على قطاع غزة بأسره قبل عام واحد، فقد أصبح الحصار في الواقع أكثر إحكاماً.

وفي نهاية المطاف، لا يمتلك الفلسطينيون خياراً سوى إعادة بناء حركتهم الوطنية، فمن دونها ستستمر قدرتهم على تقرير المصير في الضمور بغض النظر عن التغيرات الحاصلة في البيئة الأوسع. وإلى أن يتم بلوغ هذا الهدف، ينبغي لمناصري حق الفلسطينيين في تقرير المصير أن يركزوا على الأولويات الآنية بدلاً من النتائج على المدى البعيد.

وكما هو مبين أعلاه، يكاد الواقع على الأرض يكون لا رجعة فيه على الوجه الأكيد، وبالتالي فليس ثمة احتمال لنجاح حل الدولتين (أو أي حل آخر) في ظل الظروف الراهنة. بل إن كافة المؤشرات تدل على ازدياد القمع والصراع وهو ما يسفر عن حالة متنامية من عدم الاستقرار في المنطقة قد تمتد إلى ما وراءها، في ظل غياب احتمال التوصل إلى نتيجة سارة في عمر جيل قادم واحد على الأقل.

إن غريزة إحياء المحادثات بشأن التسوية القائمة على حل الدولتين ووضع سيناريوهات لتحقيق هذا الهدف راسخة بشكل مسلم به رسوخ المشروع الاستيطاني الإسرائيلي. ورغم ذلك، ينبغي لمناصري حق الفلسطينيين في تقرير المصير أن يسعوا على الأقل لضمان عدم السماح للمفاوضات بأن تمضي قدماً على حساب الواقع على الأرض، وذلك من أجل عكس الاتجاه السائد منذ مؤتمر مدريد المنعقد في عام 1991 والذي جعل الدبلوماسية أكثر أهمية من الواقع وتعامل مع التوسع الاستيطاني الإسرائيلي المستمر بمثابة إزعاج عابر. وبالنظر إلى انغماس القيادة الفلسطينية الحالية في الدبلوماسية التي ترعاها الولايات المتحدة، فإن إعطاء الأولوية للحقوق الفلسطينية هو أمر يسهل قوله أكثر من فعله. ومع ذلك، تبدو أفضل الخيارات المتاحة بأنها لا تنطوي على الدعوة إلى عملية أكثر إنصافاً من خلال الانخراط مع المشاركين فيها، وإنما على العمل خارج إطارها. وهذه هي الحال تحديداً لأن العودة إلى طاولة المفاوضات هي الوصفة دوماً لعلاج العدوان الإسرائيلي الأخير – دون التصدي له، بالطبع، بأي شكل آخر.

ينبغي أن يركز الفلسطينيون على التفكيك التدريجي لما بنته إسرائيل وحققته تدريجياً داخل الأراضي المحتلة منذ عام 1967 مستخدمين أدوات كالفتوى التي أصدرتها محكمة العدل الدولية في عام 2004، وتقرير غولدستون، والوثائق المماثلة، والمؤسسات والتي تفضل قيادتهم الحالية إلقاءها في سلة القمامة. ونظرا لمحدودية الموارد، ينبغي أن تنصب الأولوية على مواجهة الإفلات الإسرائيلي من العقاب وعكس اتجاهه تدريجياً بغية جعل إسرائيل مسؤولة عن تصرفاتها، بدلاً من إنشاء بنية تحتية مكلفة تجعل الفلسطينيين مدينين بطرق مختلفة وتبقى مهددة على الدوام بإلحاق الدمار بها (كما حدث في 2001 و 2002).

ثمة مجموعة من التدابير العملية التي يمكن الضغط بها على الحكومات الأوروبية والأمريكية لرفع كلفة المشروع الاستيطاني الإسرائيلي. وتشمل هذه التدابير التصدي لوضع المؤسسات الأمريكية المعفاة من الضرائب والتي تلعب دوراً حاسماً في توسيع المستوطنات، وإنهاء مراوغة الاتحاد الأوروبي المستمرة منذ 40 عاماً فيما يتعلق بالوصول التفضيلي لمنتجات المستوطنات إلى الأسواق الأوروبية، واتخاذ تدابير أكثر مباشرة من قبل الحكومات المعنية مثل استحضار بنود حقوق الإنسان في اتفاقية الشراكة المبرمة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل.

ومن الأولويات الرئيسية في هذه المرحلة العمل مجدداً على تعزيز الإجماع الدولي/إجماع القوى العظمى على أن المشروع الاستيطاني الإسرائيلي بما فيه ضم القدس الشرقية هو غير قانوني بموجب القانون الدولي وأنه ينبغي التعامل معه وفقاً لذلك. وبعبارة أخرى، استعادة توافق الآراء الذي كان سائداً قبل عام 1991 بأن الأراضي المعنية هي أراضٍ محتلة بدلاً من انتظار الانتهاء من المفاوضات الثنائية لتحديد إدارة هذه الأراضي.

ثمة فرصة ضئيلة بأن تصدر الحكومات الفردية مثل هذا الإعلان، غير أن ما يبدو ممكناً هو إصدار قرار جديد في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يعيد طرح المبادئ ذات الصلة التي أقرها المجلس مراراً وتكراراً في مناسبات سابقة. وليس هناك ما يضمن الخروج بنتيجة إيجابية على الإطلاق إلا إن احتمالات ذلك معقولة بما يكفي في عام 2010 – فهي حتماً أعلى مما كانت عليه في أي وقت منذ عام 1991. والسبب في ذلك تحديداً هو أن واشنطن مرشحة بصورة أقل لأن تستخدم حق النقض ضد قرار يكون إعلاناً بحتاً. فإذا أُخضعت واشنطن إلى حملة ذكية تمزج بين الرأي العام المحلي والشركاء الدوليين – ولا سيما إذا لم تكن ثمة خطوات عقابية فورية حاضرة على جدول الأعمال – فإن من الممكن إقناع واشنطن بأن من مصلحتها أن تكف بين الفينة والأخرى عن عادتها في موالاة إسرائيل أكثر من إسرائيل نفسها. إن الفائدة من صدور قرار كهذا تتمثل في أنه سيُنشط النقاش حول المشروع الاستيطاني الإسرائيلي ويوفر مادة قيمة لأولئك المنخرطين في الجهود الرامية لحمل حكوماتهم على التصدي لهذه المسألة. والأهم من ذلك كله هو أنه سوف يُظهر بوضوح بأن الغاية من الدبلوماسية ترمي إلى عكس الواقع بدلاً من تعزيزه.

أما على مستوى العمل والرأي العام، فهناك أيضاً الكثير الذي يمكن عمله لنزع الشرعية عن الاحتلال وعزل إسرائيل على غرار الحملات المناهضة للفصل العنصري في عقدي السبعينات والثمانينات، ولا سيما في أوروبا وأمريكا اللاتينية (انظر عمر برغوتي موقف في قضية حول مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها). وكما توضح حركة غزة الحرة، إن من الممكن أيضاً تحدي السياسة الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني – والتواطؤ الغربي والعربي مع هذه السياسات – تحدياً مباشراً من دون رعاية حكومية. بيد أن من الأفضل كثيراً بالطبع لو كان هناك تأييد من الدولة كما يتضح من خلال الرد التركي على الهجوم الذي استهدف أسطول الحرية. ولكن الدرس الأساسي هو أن دعم الدولة ليس شرطاً مسبقاً. فحتى من دون الدور النشط الذي لعبته أنقرة في أعقاب حمام الدم، فإن صدى الصدمة العالمية الناجمة عن تصرف إسرائيل قد جعل مسألة إجراء تحقيق بواسطة لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان – وربما اتخاذ تدابير قانونية إضافية – نتيجة حتمية فعلياً.

وبدلاً من السعي لإقناع الفلسطينيين للبحث عن الخلاص من خلال المفاوضات الفارغة التي لا جدوى منها، ينبغي أن تنصب هذه الجهود على إيقاف الإفلات الإسرائيلي من العقاب وعكس اتجاهه في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ويرقى هذا في الممارسة العملية إلى الدعوة إلى مفهوم جديد كلياً بأن إسرائيل مسؤولة عن تصرفاتها وينبغي أن تحاسَب عليها. وعلاوة على ذلك وبدلاً من مواصلة التفاوض من أجل التفاوض، فإنه ينبغي للفلسطينيين ومن يؤيدون نضالهم من أجل الحصول على حق تقرير المصير أن ينخرطوا في العمل بنشاط أكبر وأكثر مباشرةً مع الرأي العام العالمي لمواجهة الإفلات الإسرائيلي من العقاب، وتهدئة السعي غير المجدي لكسب ودّ “أصدقاء” في مناصب عليا ظلوا على الدوام راعين للسلوك الإسرائيلي وإفلات إسرائيل من العقاب. هذا النهج ليس الأكثر فعالية وحسب من حيث المحافظة على الحقوق الفلسطينية، بل هو الخيار الوحيد السانح على المدى البعيد من أجل وضع الأساس لمزيد من الجهود الدبلوماسية الهادفة والحقيقية. وبعبارة أخرى، لن تصبح المفاوضات خياراً ناجعاً إلا حينما تنطوي على ترتيبات مرضية للطرفين بخصوص كيف ينبغي لإسرائيل أن تخرج وليس أين ينبغي أن تبقى. ونحن ما زلنا بعيدين للغاية من ذلك اليوم الذي تخلُص فيه إسرائيل إلى أن إنهاء الاحتلال هو في مصلحتها.‏

  1. آرون ديفيد ميلر، “The Much Too Promised Land ” (نيويورك: راندوم هاوس) 75. عبّر ميلر عن فكرته هذه في مقالة رأي كتبها سابقاً على النحو التالي: “لقد ظل الكثير من المسؤولين الأمريكيين المشاركين في صنع السلام بين العرب وإسرائيل، ومن ضمنهم أنا، ولفترة طويلة جداً نقوم بدور محامي إسرائيل، وننسق معها ونلبي طلباتها على حساب إحراز مفاوضات سلام ناجحة.” آرون ديفيد ميلر، “Israel’s Lawyer”، صحيفة واشنطن بوست، 23 أيار/مايو 2005.
  2. وعلى هذا الأساس، على سبيل المثال، أرسى رئيس جنوب إفريقيا السابق ثابو مبيكي أثناء حديثه في منتدى الجزيرة في العاصمة القطرية الدوحة في 24 أيار/مايو 2010 المقارنة التالية بين تجربة جنوب إفريقيا والتجربة الفلسطينية:
    لربما ينبغي لنا أن نخلص إلى بعض أهم الدروس الخاصة بهذه التجربة [تجربة جنوب إفريقيا]. فاستناداً إلى أحد هذه الدروس، غدا الطريق إلى المفاوضات سانحاً حالما أدركت السلطة الحاكمة المهيمنة في بلادنا أنها لا تستطيع تحقيق أهدافها بأي وسيلة أخرى، بما في ذلك مواصلتها اللجوء إلى وسائل القمع الكثيرة التي كانت تحت تصرفها… ويبدو لي أن بعض العناصر التي تميز كلا من الحالتين، أي الصراع في جنوب إفريقيا والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، هي كما يلي: رغم أن هنالك اتفاقاً في الظاهر على وجوب أن تفضي المفاوضات إلى “حل يقوم على أساس دولتين،” فإنه لا يوجد في الواقع أي اتفاق على هذه المسألة الأساسية، إذ لم توافق الحكومة الحالية في إسرائيل على احترام حدود عام 1967، واعتبار القدس عاصمة فلسطين المستقلة: إن من شأن ما يُسمى بالجدار الأمني الذي بنته إسرائيل في الضفة الغربية والمستوطنات التي تعكف على بنائها أن تخلق بموضوعية وقائع جديدة على الأرض تمنع اعترافها بحدود عام 1967. وهكذا وفي حين استطاعت الأطراف المتحاربة في جنوب إفريقيا أن تتفق على ما كان أكثر شيئ أساسياً وجوهرياً بالنسبة لمستقبل البلاد، فإن ذلك لم يتحقق في السياق الإسرائيلي الفلسطيني…

    ثابو مبيكي، “Lessons of the South Africa Experience: Thoughts on the Israeli-Palestinian Conflict”، متاح على موقع http://mideast.foreignpolicy.com/posts/2010/05/26/lessons_of_the_south_africa_experience_thoughts_on_the_israel_palestinian_conflict (تم الدخول إلى الموقع في 28 أيار/مايو 2010)

معين رباني كاتب مستقل ومحلل متخصص في الشؤون الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي. هو من كبار الباحثين في مؤسسة الدراسات الفلسطينية ، يساهم في تحرير مجلة(Middle...
في هذه المقالة

أحدث المنشورات

 السياسة
بعد عام من المعاناة تحت وطأة العنف والدمار المستمرين ، يقف الفلسطينيون عند لحظة مفصلية. تتناول يارا هواري، في هذا التعقيب، الخسائر الهائلة التي تكبدها الشعب الفلسطيني منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 والفرص المنبثقة عنها للعمل نحو مستقبل خالٍ من القمع الاستعماري الاستيطاني. وترى أنّ الوقت قد حان الآن لكي تتحول الحركة من رد الفعل إلى تحديد أولوياتها الخاصة. وكجزء من هذا التحول، تحدد يارا ثلاث خطوات ضرورية: تجاوز التعويل على القانون الدولي، وتعميق الروابط مع الجنوب العالمي، وتخصيص الموارد لاستكشاف الرؤى الثورية لمستقبل متحرر.
Al-Shabaka Yara Hawari
يارا هواري· 22 أكتوبر 2024
منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، قتلت القوات الإسرائيلية ما يزيد عن 40,000 فلسطيني في غزة، وجرحت 100,000 آخرين، وشرَّدت كامل سكان المنطقة المحتلة تقريبًا. وفي ذات الوقت شرَعَ النظام الإسرائيلي في أكبر اجتياح للضفة الغربية منذ الانتفاضة الثانية مما أدى إلى استشهاد ما يزيد عن 600 فلسطيني واعتقال 10,900 آخرين. كما وسعت إسرائيل نطاق هجومها الإبادي الجماعي في لبنان، مما أسفر عن مقتل ما يزيد على ألف شخص ونزوح أكثر من مليون آخرين. يسلط هذا المحور السياساتي الضوء على مساعي الشبكة في الاستجابة لهذه التطورات على مدار العام الماضي، من وضع أحداث السابع من أكتوبر في سياق أوسع للاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، إلى استجواب آلة الحرب الإسرائيلية متعددة الأوجه، إلى تقييم العلاقات الإقليمية المتغيرة بسرعة. هذه المجموعة من الأعمال تعكس جهد الشبكة المستمر في تقديم رؤية فورية للوضع الفلسطيني.
لا تنفك شركات الأسلحة البريطانية تتربّح من بيع الأسلحة لإسرائيل من خلال التراخيص الصادرة من الحكومة البريطانية، حيث بلغ إجمالي هذه الصادرات منذ العام 2008 ما يقدر بنحو 740 مليون دولار، وهي ما تزال مستمرة حتى في ظل الإبادة الجماعية الجارية في غزة. يشعر البعض بتفاؤل حذر إزاء احتمال فرض حظر على الأسلحة بعد فوز حزب العمال في انتخابات يوليو/تموز 2024، وبعدَ أن وعدَ بالانسجام مع القانون الدولي. في سبتمبر/أيلول 2024، علقت الحكومة البريطانية 30 ترخيصاً من أصل 350 ترخيصاً لتصدير الأسلحة إلى إسرائيل. ويرى الناشطون وجماعات حقوق الإنسان أن مثل هذا القرار محدود للغاية. وبناء على ذلك، تُفصِّل هذه المذكرة السياساتية الالتزامات القانونية الدولية الواقعة على عاتق بريطانيا وكذلك المناورات الحكومية الممكنة فيما يتصل بمبيعات الأسلحة لإسرائيل.
شهد الحموري· 15 سبتمبر 2024
Skip to content