ملخص تنفيذي
فرضت الحرب السورية على الفلسطينيين اللاجئين في سوريا عنفًا وبؤسًا ونفيًا للمرة الثانية. وأبرزت كذلك معضلةً أساسية تواجههم، وهي إمّا أن يضطروا إلى الالتزام بحيادهم السياسي بسبب موقفهم الضعيف، وإمّا أن يدعموا النظام رغم دوره المباشر في معاناتهم.
- بالرغم من أن نظامي الأسد الأب والابن دافعا بالكلام عن القضية الفلسطينية على مدار أربعة عقود، فإن دعمهما الفعلي للقضية على الأرض كانت متقلبًا في أحسن أحواله. فقد دأب نظام الأسد في الحرب الجارية على استغلال القضية الفلسطينية لخدمة مصالحه، كما في مناشدته المجتمع الدولي وتحذيراته من حدوث عدم استقرار في إسرائيل إذا أُطيح به.
- حاولت حماس والسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية البقاء على الحياد في الحرب السورية، التي أثارت الشقاق والخلاف بين الفلسطينيين في الأرض الفلسطينية المحتلة والشتات وداخل سوريا. وقد تحالفت فصائل فلسطينية عدة داخل سوريا مع نظام بشار الأسد صراحة.
- يستطيع الفلسطينيون أن يتجاوزوا الخيارَ الزائف بين الحياد وبين دعم النظام وأن يعملوا من أجل حقوق الإنسان الفلسطيني والسوري بطريقتين: أولًا، من خلال الاعتراف بأن تجربة الفلسطينيين في سوريا تتطلب فهمًا لكيفية تأثرِ هويتهم بعيشهم في سوريا، وثانيًا، الإقرار بأن الحرب السورية تكشف حدود الهيئات التمثيلية الفلسطينية، وتؤكد أهمية تعزيز شبكات التضامن وتوسيعها.
توصيات سياساتية
1. على منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية أن تعيدا النظر في موقفهما المحايد إزاء الفظائع الجماعية التي يرتكبها النظام السوري بحق مواطنيه وبحق الفلسطينيين في سوريا.
2. على حركات التضامن الفلسطينية أن ترفض استيلاء النظام السوري على القضية الفلسطينية، وأن تؤكد التزام شبكات التضامن بحقوق الإنسان والعدالة في كل مكان.
3. على حركات التضامن الفلسطينية أن توصل أصوات الفلسطينيين السوريين وأن تدافع عن حقهم في نيل العدالة وجبر ما وقع عليهم من ضرر في سوريا، وحقهم غير القابل للتصرف في العودة إلى ديارهم في فلسطين.
لمحة عامة
يعاني الفلسطينيون في سوريا، كملايين السوريين، هولَ الحرب المستعرة منذ خمس سنوات. غير أنهم ليسوا كالسوريين في أن وضعهم المتداعي قد ازداد سوءًا باعتبارهم عديمي الجنسية في سوريا. لقد أودت الحرب بحياة الآلاف منهم، وأجبرت مئات الآلاف على الفرار من منازلهم في سوريا، ليصبحوا نازحين في الداخل السوري أو لاجئين في بلد مضيف آخر.1
لقد فرضت عليهم الحرب عنفًا وبؤسًا ونفيًا للمرة الثانية. وأبرزت كذلك معضلةً أساسية تواجه فلسطينيي سوريا، وهي إمّا أن يضطروا إلى الالتزام بحيادهم السياسي بسبب موقفهم الضعيف، وإمّا أن يدعموا النظام رغم دوره المباشر في معاناتهم، وذلك على حساب حقوق الإنسان الفلسطيني والسوري.
تتناول هذه الورقة السياساتية مسألةَ الحياد بالنظر أولًا إلى النظام السوري كحليف للفلسطينيين، ومن ثم تقييم الدور الذي لعبته الفصائل الفلسطينية في الحرب. وتتطرق الورقة أيضًا إلى قضيتين متصلتين دفعتهما الحرب إلى الواجهة وهما وضع سوريا كوطنٍ ثان للفلسطينيين وضعف الهيئات التمثيلية الفلسطينية، والتداعيات على الحركة الوطنية الفلسطينية الأشمل. وتختتم الورقة بتوصيات حول سُبل القادة الفلسطينيين وحركات التضامن في الارتقاء في الدفاع عن حقوق الإنسان وتعزيز الحق في تقرير المصير.
الفلسطينيون وتركة العروبة الأسدية الفوضوية
الجالية الفلسطينية في سوريا جزءٌ من النسيج الاجتماعي الأوسع في البلاد. ولم تكن مخيمات الفلسطينيين تخضع لحراسة مشددة قبل العام 2011، ولم تكن فرصهم في الحصول على التعليم والعمل المهني مقيدة كما هي الحال مثلًا في لبنان. ونتيجة لذلك، كان هناك قدر من “سورنة” الفلسطينيين، بمعنى أن الكثيرين من لاجئي الجيلين الثاني والثالث شعروا أن سوريا كانت جزءًا من هويتهم. وفي الوقت نفسه، كان هناك قدر من “فلسطنة” السوريين القاطنين بالقرب من المخيمات.
لم يكن هذا الاندماج المتبادل بفضل كرم نظام الأسد مع الفلسطينيين، بل لأن الإطار القانوني الذي يمنح الفلسطينيين وضعًا مماثلاً للسوريين (باستثناء التمتع بالجنسية السورية والحق في التصويت) كان نافذًا قبل حكم حافظ الأسد. يرى الكاتب الفلسطيني المنحدر من مخيم اليرموك، نضال بيطاري، أن السبب الكامن وراء النوعية الجيدة نسبيًا لحياة الفلسطينيين قبل 2011 يتمثل في عدم مشاركتهم نسبيًا في الحياة السياسية السورية، ولا سيما بعد أحداث لبنان في الثمانينات. وعوضًا عن ذلك، ركزت المشاركة السياسية الفلسطينية على القضايا الفلسطينية مثل حركة حق العودة. وأدى الردع الحكومي والمراقبة الدقيقة للمنشقين الفلسطينيين المحتملين أيضًا إلى عزوف الفلسطينيين عن الانخراط في الشأن السوري. وعلى سبيل المثال، تأسس فرع المخابرات العسكرية 235 في دمشق – “فرع فلسطين” – لمراقبة النشاط السياسي والعسكري للفلسطينيين. أمّا اليوم فهو مرفق سيء الصيت يشتهر باحتجاز السوريين من غير الفلسطينيين أيضًا وتعذيبهم، وفقًا لمعتقلين سابقين جمعت شهاداتهم منظمةُ هيومن رايتس ووتش في 2012.
تميزت علاقة الرئيس الراحل حافظ الأسد بالفلسطينيين منذ بداية حكمه بالرغبة في تعزيز سلطته المحلية وتحقيق التوازن في مواجه المصالح الأمريكية-الإسرائيلية في المنطقة. يقول باتريك سيل إن الأسد اعتبر الفلسطينيين منذ بداية حكمه مسؤوليةً على كاهله، ولكنه ظل داعمًا لقضيتهم في خطاباته.2 وبلغ ذلك أوجه في تدخل الأسد في الحرب الأهلية اللبنانية ضد القوى التقدمية المدعومة من الفلسطينيين، ممّا باعد بين الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات والأسد. وأصبحت سوريا معنيةً في المقام الأول بإدارة القضية الفلسطينية من خلال تبنيها، وتعزيز اتكالية القيادة الفلسطينية على الرعاية السورية للقضية.3 وكان هذا أساسيًا، بالنسبة إلى حافظ الأسد، لتحقيق استراتيجية رئيسية في الصراع العربي الإسرائيلي الأوسع وهي استرداد الأرض السورية التي احتلتها إسرائيل في عام 1967، والحيلولة دون خسارة المزيد من الأراضي. وكان التلاعب بمنظمة التحرير الفلسطينية يُعدُّ أيضًا أساسيًا لامتلاك القدرة على لعب “الورقة الفلسطينية”. وبالرغم من أن سيطرة حافظ الأسد على بيئته الأوسع، التي ضمت فلسطينيين، كانت من شواغله الرئيسية، كما يقول رشيد الخالدي، فإن تلاعبه بالحركة الفلسطينية كان مدفوعًا أيضًا بتخوفه من استبعاده من أي اتفاق يُبرَم مع إسرائيل.
'الاستقرار' يعني المصلحةَ العامة التي تُبطل إحقاق العدالة لمصلحة نظام يفرضه القوي Share on Xعندما خرجت الانتفاضات في سوريا في 2011، أراد معظم الفلسطينيين البقاءَ على الحياد لتجنب ما حدث لهم في الأردن في السبعينات، وفي لبنان في الثمانينات، وفي الكويت في 1991، وفي العراق في مطلع العقد الأول من الألفية. وقد انطوى الانضمام إلى أي فصيل من الفصائل المعارضة للنظام السوري على مخاطر عالية، حتى في إطار الحركة الشعبية التي كان ينتمي إليها الكثير من الشباب الفلسطينيين. وهذا الانتماء لم يكن مستَغربًا، حيث إن دمج الفلسطينيين في المجتمع السوري عنى، أيضًا، أنهم كذلك خضعوا للرقابة الاجتماعية التي مارسها نظام الأسد في جميع أنحاء البلاد. وكان اعتقال المعارضين وتعذيبهم ممارسةً شائعة قبل وصول موجة الانتفاضات العربية إلى الشوارع السورية في 2011 بوقتٍ طويل. وبالتالي، لم تكن حياة الفلسطينيين على أرض الواقع في سوريا أفضل حالاً ولا أسوأ من حياة الرعايا الآخرين بالرغم من أن خطابات بشار الأسد المعادية للغرب والصهيونية جعلته يبدو كحليف صَدوق للفلسطينيين.
وهكذا فإن حافظ وبشار لم يكونا منارةً للمقاومة، بل هما يمثلان الإرث العروبي الفوضوي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وحقوق الإنسان الفلسطيني.
الحيادُ السياسي إغراءٌ وفخ
عكست معظم الفصائل الفلسطينية التوجه المبدئي لفلسطينيي سوريا نحو الحياد، والذي يرقى في الواقع إلى حد التأييد الضمني لنظام الأسد. فحاولت حركة حماس الحفاظَ على علاقات جيدة بالإخوان المسلمين ونظام الأسد بالتزام الصمت إزاء ما يجري في سوريا. وفي مطلع 2012، انسحبت حماس من التحالف ومن النظام السوري، على الرغم من أنها ظلت مترددةً في انتقاد النظام علنًا، ولكن مع التحولات الأخرى في قوى المنطقة بعد 2011 اضطرت حماس إلى البحث عن داعمين آخرين، وتحويل ميزان القوى في قطاع غزة نحو الدعم القطري أو الإيراني.
وفي خطوة مثيرة للجدل، أعادت حركة فتح علاقتها بنظام الأسد في منتصف العام 2015 بعد قطيعة استمرت 32 عامًا. وعلى الرغم من أن إعادة العلاقات وُصِفت كخطوة نحو الحفاظ على الحياد، فإن موقفها مالَ في بعض الأحيان إلى الاعتذار عن عنف النظام. فعلى سبيل المثال، ظهر عضو اللجنة المركزية لحركة فتح عباس زكي وهو يتحدث عن معاملة الأسد للفلسطينيين في سوريا، مبررًا قصف مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في سوريا بتشبيه تلك الأفعال “بالطبيب الذي يريد اجتثاث الجزء الفاسد من الجسم.”
حرصت منظمة التحرير الفلسطينية في سوريا على التزام الحياد تحسبًا لأي حل للحرب في سوريا ينطوي على دورٍ لنظام الأسد.4 وفي حين يمكن تفهم هذا الحياد بالنظر إلى العلاقة المتوترة تاريخيًا بين الفلسطينيين وبلدان مضيفة أخرى، فإنه يدل أيضًا على ضعف منظمة التحرير الفلسطينية حينما يتعلق الأمر بالدفاع عن مصالح الشعب الفلسطيني وتمثيله.
لم يقتصر الخلاف على مسألة الحياد مقابل المشاركة الفاعلة في سوريا على الفلسطينيين في المنفى، بل شمل الفلسطينيين داخل سوريا أيضًا، وهو ما عكس الانقسام والندِّية داخل الحركة الفلسطينية. وتدور هذه الخلافات حول مسائل من قبيل طبيعة الانتفاضة السورية، ودور الإمبريالية الغربية، ومصالح إسرائيل في المنطقة. وقد أثارت هجمة روسيا وإيران والنظام السوري في شرق حلب جدلًا أكثر حول طبيعة الانتفاضة السورية والتدخل الأجنبي في البلاد.
ثمة فصائل فلسطينية عدة في سوريا متحالفة علنًا مع بشار الأسد، مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة التي يتزعمها أحمد جبريل، وهي الفصيل الفلسطيني الأوثق ارتباطًا بالنظام، وذراعه في حفظ الأمن والنظام في المخيمات الفلسطينية. وهناك أيضاً الميليشيات الفلسطينية-السورية من بين الميليشيات الكثيرة الموالية للنظام والمشارِكة في الحرب، ومن أمثلتها لواء القدس ولواء الجليل وقوات الجليل.
ومن الفصائل الأخرى المتحالفة مع النظام السوري جيشُ التحرير الفلسطيني الذي تأسس في بادئ الأمر ليكون الجناح العسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية. يُجنَّد الفلسطينيون في سوريا في الغالب في جيش التحرير الفلسطيني بدلًا من الجيش السوري النظامي. ويجسد جيش التحرير الانفصامَ في العلاقات الفلسطينية السورية، حيث شارك في الحرب الأهلية اللبنانية بالوكالة عن سوريا ضد منظمة التحرير الفلسطينية، بينما يرتبط اليوم ارتباطًا وثيقًا بقوات الصاعقة، وهي فصيلٌ آخر ينتمي رسميًا إلى منظمة التحرير الفلسطينية. ولا تملك قوات الصاعقة وجيش التحرير الفلسطيني أي أهمية تُذكر خارج الحدود السورية.
روسيا وإسرائيل تتشاطران الفهم الضيق ذاته لمصطلح 'الاستقرار' في الشرق الأوسط Share on Xيشيع لدى الكتائب الفلسطينية الموالية أن تصنِّف نفسها كمقاومة علمانية ترتبط القومية العربية والممانعة السورية ضمن إطارها بالقضية الفلسطينية. وينسجم خطابها ونموذج حزب البعث السوري القومي المعادي للصهيونية. فقد ازدادت جاذبية الموقف العلماني بسبب صعود الإسلاميين والفصائل السلفية الجهادية التي تقاتل النظام السوري، ممَّا يساهم زورًا في إظهار المعضلة السورية كخيارٍ بين العلمانية والتطرف. ورغم أن الموقف العلماني يستقطب هؤلاء الذين تأثرت معاناتهم بالمصالح الإمبريالية والعنف، فإنه لا يتماشى وواقع السياسة السورية تجاه القضية الفلسطينية، والتي استخدمها النظام، وفقًا لجان بيير فيليو، “كسلعةٍ يتاجر فيها كيف يشاء تحقيقًا لمصالحه.”5
إن التفكير المحبط بأن القضية الفلسطينية ليست سوى حجر شطرنج آخر في سياق الحرب في سوريا يتجلى أكثر حين يتمعن المرء في الخطاب الذي وظفه النظام السوري طوال الحرب لتبرير العنف الجماعي ضد المدنيين، واستمالة المجتمع الدولي. ففي الأيام الأولى للانتفاضة، قال رامي مخلوف، ابن عم بشار الأسد وشريكه المقرَّب، لصحيفة نيويورك تايمز: “إذا لم يكن ثمة استقرار هنا، فلن يكون هناك استقرار في إسرائيل… ولن يستطيع أحدٌ، ولا بأي حالٍ من الأحوال، أن يضمنَ ما سيحصل إذا حدثَ شيء لهذا النظام، لا سمح الله.”
يعني “الاستقرار” في هذا الخطاب المصلحةَ العامة المشتركة التي تُبطل المطالبات بإحقاق العدالة لمصلحة نظام يفرضه القوي. وبما أن الانتفاضات الشعبية والعنف السياسي جُعلت مرادفًا لعدم الاستقرار، فإن هذه النظرة تنفي المظالم التاريخية لأولئك الذين يصنَّفون، بحكم عسكرتهم، كمشكلةٍ أمنية ينبغي حلها – بممارسة عنفٍ أكبر في كثير من الأحيان. وكثيرًا ما يلجأ لهذا الخطابِ أيضًا اليمينُ الإسرائيلي المتطرف لتشويه الروايات الفلسطينية. يعي الفلسطينيون جيدًا الأثرَ الضار الناجم عن هذه الثنائيات الزائفة، إذ ما انفكوا يواجهون القمع الممنهج من أجل “الاستقرار”، ولا سيما منذ صعود التيار الإسلامي في فلسطين في عقدي الثمانينات والتسعينات.6
إن علاقة النظام السوري بروسيا إشكاليةٌ بالنسبة إلى الفلسطينيين أيضًا، ولا سيما أن إسرائيل وروسيا دأبتا في الآونة الأخيرة على توطيد علاقتهما. تسعى إسرائيل من وراء تعزيز العلاقة إلى تنصيب بوتين كوسيط بينها وبين النظام السوري، على افتراض أن النظام سوف ينجح في الحفاظ على سلطته بمساعدة التدخل الروسي. يقول البعض إن سبب هذا التحول في التركيز نحو الدعم الروسي هو زيادة الانتقادات الأمريكية والأوروبية للسياسات الإسرائيلية مثل توسيع المستوطنات غير الشرعية. فامتناع الولايات المتحدة مؤخرًا عن استخدام حق النقض وما تلاه من اعتماد قرار مجلس الأمن الدولي بشأن المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية قد يُفاقم هذا التوجه، رغم أن أحدًا لا يعرف إلى الآن كيف ستؤثر الإدارة الأمريكية الجديدة في النزاع العربي الإسرائيلي.
إن من السهل أن ننظر إلى التدخل الروسي في سوريا كثقلٍ مرحَّبٍ به لموازنة النفوذ الأمريكي في المنطقة، ولكن آمال القضية الفلسطينية ليست أفضل بكثير في ظل النفوذ الروسي، حيث إن روسيا وإسرائيل تتشاطران الفهم الضيق ذاته لمصطلح “الاستقرار” في الشرق الأوسط، حتى إن بوتين أبدى إعجابه بأساليب إسرائيل في مجال مكافحة الإرهاب أمام مؤتمر منعقدٍ في تشرين الأول/أكتوبر 2016، قائلًا إن على العالم أن “يتعلم من إسرائيل” لأنها “لا تتهاون أبدًا. بل تقاتل حتى النهاية. ولهذا السبب لا تزال موجودة… فلا خيارًا آخر.”
المجاهرة بالحق: فلسطينيو سوريا بعد الحرب
يستطيع الفلسطينيون أن يتجاوزوا الخيارَ الزائف بين الحياد وبين دعم النظام وأن يعملوا من أجل حقوق الإنسان الفلسطيني والسوري بطريقتين:
أولا، من خلال الاعتراف بأن تجربة الفلسطينيين في سوريا تتطلب فهمًا لكيفية تأثرِ هويتهم بعيشهم في سوريا. تكمن المشكلة في أن الاعتراف بأن الكثير من اللاجئين الفلسطينيين يعتبرون سوريا موطنهم الذي يتوقون للعودة إليه قد يشجع الأصوات المعادية للفلسطينيين الراغبة في تجريدهم من حقهم في العودة إلى فلسطين. ومع ذلك، يمكن للفلسطينيين أن يتضامنوا مع أولئك التواقين للعودة إلى حياتهم في سوريا وأن يدافعوا في الوقت نفسه عن حقهم في العودة إلى فلسطين – وهو من حقوقهم غير القابلة للتصرف، ولا يتوقف على نوعية الحياة التي يتمتعون بها في البلد المضيف. ومن الأهمية بمكان أيضًا أن نعترف بمستويات الهوية المختلفة التي قد يشعر بها أولئك الذين يعانون الحرمان والتهجير، وبأن فلسطينيي سوريا متعلقون بسوريا بقدر تعلقهم بمنازل أجدادهم في فلسطين.
ظهرت منظمات عديدة تعمل على توثيق أوضاع الفلسطينيين في سوريا، مثل الرابطة الفلسطينية لحقوق الإنسان – سوريا، التي تأسست في مخيم اليرموك، ومجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا، ومقرها في المملكة المتحدة. تقدم مؤسسة جفرا، ومقرها دمشق وحمص، مساعدات الإغاثة لمخيمات اليرموك وخان الشيح وجرمانا وحمص وغيرها. ولهذه المنظمات أهمية حاسمة في توثيق تجارب الفلسطينيين في سوريا وإبرازها. وهذا مهم بدوره في حماية الفلسطينيين في سوريا من مواجهة مصير إخوانهم الفلسطينيين الذين فروا من العراق قبل ما يزيد على عقد من الزمن، حيث ما يزال الكثيرون منهم عالقين في بلدان مضيفة دون جنسية، وغير قادرين على العودة إلى بيوت أجدادهم في فلسطين أو إلى الحياة التي بنوها لأنفسهم في العراق.
تكشف الحرب السورية حدود الهيئات التمثيلية الفلسطينية، وتؤكد أهمية تعزيز شبكات التضامن وتوسيعها Share on Xثانيًا، تكشف الحرب السورية حدود الهيئات التمثيلية الفلسطينية، وتؤكد أهمية تعزيز شبكات التضامن وتوسيعها. وفي هذا الصدد، تُعد حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) استراتيجية رئيسية للحركة الفلسطينية في ضوء فشل التمثيل السياسي، أو ركوده في أحسن الأحوال. فحركة المقاطعة أداةٌ لحشد التأييد للدفاع عن المعايير الأخلاقية، وأداةٌ لممارسة الضغط أثبتت نجاحها في كثير من الأحيان. تعتمد حركة المقاطعة في الأساس على الوعي والتضامن المجتمعي. إن مشاركة حركة المقاطعة ببوصلتها الأخلاقية في قضايا أخرى غير إسرائيل وبغية حشد التضامن مع حقوق الإنسان الفلسطينية (وغير الفلسطينية) وحركات العدالة الاجتماعية هي واجبٌ أخلاقي وضرورةٌ استراتيجية.
يتمثل الخيار الذي يواجهه الفرد الفلسطيني خارج سوريا إمّا في البقاء على الحياد لتعظيم حظوظ المصالح الفلسطينية من حيث إدراجها في جدول أعمال ذاك الطرف الذي سيتولى السلطة أو يحافظ عليها في سوريا، وإمّا في التضامن مع الشعب السوري. غير أن الموقف التضامني هو موقفٌ جدلي لأن الشعب السوري يواجه أزمة تمثيل، بوجود عددٍ وافر ممَّن يدَّعون التحدث باسمه، كما هي حال القضية الفلسطينية. وعليه قد يبدو موقف الحياد رهانًا مضمونًا أكثر، ولاسيما بالنظر إلى تحول ميزان القوة لمصلحة الأسد بعد قرار روسيا بالتدخل وانتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة. ومع ذلك، وبالنظر إلى التحولات التي يجريها النظام السوري بعناية في التركيبة السكانية في البلاد، علينا أن ننتظر لنرى ما إذا كان سيبقى مكان للاجئين الفلسطينيين المسلمين ذوي الأغلبية السنية إذا احتفظ الأسد بالسلطة، ولا سيما لأولئك الذين وقفوا ضد حكمه.
الحياد في سوريا موقفٌ لا يمكن الدفاع عنه فلسفيًا ولا أخلاقيًا بالنظر إلى طبيعة أعمال العنف الجارية ونطاقها. إن من أكثر الأفكار السائدة ضمن الحركة الفلسطينية هو أن يصدع الفلسطينيون بالحق، ويقفوا في وجه الظلم، ويدعوا إلى تقرير المصير في مواجهة القمع. وينبغي ألا تكون سوريا استثناءً ولا سيما بعد مأساة حلب، وبخاصة بينما تكافح روح الثورة المستنيرة من أجل النجاة من الاستبداد والتخريب الذي يمارسه نظام الأسد وخنقه الإسلاميين.
ينبغي لمنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، إنْ أرادتا اتخاذَ موقفٍ أكثر إنصافًا، أن تعيدا النظر في موقفهما المحايد إزاء الفظائع الجماعية التي يرتكبها النظام السوري بحق مواطنيه وبحق الفلسطينيين في سوريا. يمكن لحركات التضامن الفلسطينية أن ترفض استيلاء النظام السوري على القضية الفلسطينية، وأن تؤكد التزام شبكات التضامن بحقوق الإنسان والعدالة في كل مكان. وبإمكانها أيضًا أن تضخِّم أصوات الفلسطينيين السوريين وأن تدافع عن حقهم في نيل العدالة وجبر ما وقع عليهم من ضرر في سوريا، وحقهم غير القابل للتصرف في العودة إلى ديارهم في فلسطين. ويمكن لحركات التضامن الفلسطينية كذلك أن تؤكد تفانيها من أجل تعزيز التضامن العالمي في ضوء التطورات المقلقة على الصعيد السياسي الدولي، مثل انتخاب دونالد ترامب في الآونة الأخيرة رئيسًا للولايات المتحدة. ومهما كان هول المستقبل المرتقب، فسوف يأتي وقت تتبدل فيه الأمور بفضل التضامن المتفاني والنشاط الدؤوب. ولن نهتدي إلى تلك الوجهة إلا باتباع بوصلاتنا الأخلاقية.
- قبل العام 2011، كان اللاجئون الفلسطينيون المسجلون رسميًا في سوريا لدى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين في الشرق الأدنى (الأونروا) والبالغ عددهم 560,000 لاجئ يمثلون نحو 2% من سكان سوريا. ووفقاً للأونروا، أُعيد توطين 110,000 لاجئ منهم في بلدان أخرى منذ العام 2011، بما فيها لبنان والأردن. غير أن 450,000 لاجئ بقوا في سوريا، وغالبيتهم العظمى في دمشق. ثلثا هؤلاء نازحون، ويحتاج 95% منهم إلى مساعدات إنسانية تعجز الأونروا عن توفيرها في معظم الأماكن. تقول مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا، التي تحصي الضحايا والمعتقلين والمفقودين من الفلسطينيين في سوريا، إن أعداد هؤلاء بلغت حتى تاريخه 298 مفقودًا و1118 معتقلًا و3390 قتيلا، منهم 1124 قضوا في قصف القوات الموالية للنظام، و809 بالرصاص، و454 بالتعذيب المفضي إلى الموت. ومن هؤلاء الذي قضوا بالرصاص فلسطينيون موالون للنظام قتلوا في اشتباكات مع جماعات المعارضة، في حين قضى معظم ضحايا التعذيب في سجون النظام.
- Patrick Seale, Asad: The Struggle for the Middle East (Berkeley: University of California Press, 1989), 154-165.
- وثَّق يزيد صايغ دور حافظ الأسد الإشكالي في الحركة الوطنية الفلسطينية بإسهاب في كتابه
Armed Struggle and the Search for State: The Palestinian National Movement 1949-1993 (Oxford: Oxford University Press, 1999) 288-289, 575-577.
- تضم منظمة التحرير الفلسطينية في سوريا حركة فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وحزب الشعب الفلسطيني والاتحاد الوطني الفلسطيني (فدا) وجبهة النضال الشعبي الفلسطيني وجبهة التحرير الفلسطينية (فصيل أبو عباس). وبالإضافة إلى ذلك، هناك تحالف قوى المقاومة الفلسطينية، التي تشكلت لمعارضة اتفاقات أوسلو في 1993. وتحظى هذه المجموعة بدعم النظام السوري، وقد أسستها حركة حماس والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين والجبهة الشعبية-القيادة العامة ومنظمة الصاعقة وفتح الانتفاضة وجبهة التحرير الفلسطينية (فصيل أبو نضال الأشقر) وجبهة النضال الشعبي الفلسطيني والحزب الشيوعي الفلسطيني. وفي 1998، انشقت الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية عن التحالف.
- Jean-Pierre Filiu, From Deep State to Islamic State: The Arab Counter-Revolution and its Jihadi Legacy (London: Hurst & Co, 2015), 211.
- Robin Yassin-Kassab and Leila al-Shami, Burning Country: Syrians in Revolution and War (London: Pluto Press, 2016), 39.