المواضيع
طالعوا تحليلاتنا بخصوص المجتمع المدني وسُبله في رسم ملامح المشهد الثقافي والسياسي والسياساتي.
طالعوا استشرافاتنا بخصوص تغيرات المشهد السياسي وتداعياتها على فلسطين
استزيدوا معرفةً بالسياسات والممارسات التي تحدد شكل الاقتصاد الفلسطيني
تعرَّفوا أكثر على الأوضاع الفريدة التي يعيشها اللاجئون الفلسطينيون في الشرق الأوسط
التحليلات
تحليلات متعمقة للسياسات الحالية أو المتوقعة التي تؤثر في إمكانيات التحرير الفلسطيني.
رؤى ووجهات نظر حول المسائل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتعلقة بفلسطين والفلسطينيين حول العالم.
تحليلات موجزة لسياسات محددة وخلفياتها وآثارها.
تعقيبات تضم رؤى متنوعة من محللين متعددين.
تجميعات لأعمال سابقة أنجزتها الشبكة حول موضوع محدد.
مشاريع مطوَّلة ومخصصة تسعى إلى الإجابة عن أسئلة بحثية تقع خارج نطاق تحليلاتنا المعتادة.
مبادرة بحثية معنية بالسياسات أطلقتها الشبكة: شبكة السياسات الفلسطينية.
سلسلة ندوات شهرية عبر الإنترنت تجمع خبراء فلسطينيين.
متميز
اشتركوا في نشرة الشبكة البريدية الآن لتصلكم أحدث التحليلات السياساتية الفلسطينية على بريدكم الإلكتروني:
عتمة اليرموك من شرفاتنا على الفيسبوك
لو كان جوزيف كونراد محقًا في أننا نحيا كما نحلم، وحيدين، فإذن لاحتَملَ العكسُ شيئًا من الصِّحة أيضًا. فالموت والكوابيس، بخلاف الحياة والأحلام، قد تكون جماعيةً، كما جرَّب الفلسطينيون السوريون. فالمحظوظ منهم الآن ينظر مِن شرفته على الفيسبوك إلى قلب العتمة الذي بالكاد نجا منه. وإذا أمعَن النظرَ فيه، فلربما يلمحُ الرعبَ الذي يعيشه مَن ظلَّ عالقًا هناك. إن تفتتُ الشعبِ الفلسطيني يقتضي أن تكون معاناةُ الفلسطينيين، رغم كونها جماعيةً في نهاية المطاف، فريدةً ووليدة السياق الذي تُعاش فيه.1
“كنت أحلم بوطن وبت أحلم بالمخيم
كنت أحلم ببيت أكبر وأرقى أصبحت أحلم بغرفة للإيجار رخيصة الثمن
كنت أحلم بالسفر للراحة وبت أتمنى لو ألتقي أسرتي وأولادي
كنت صاحب عمل وأصبحت أبحث عن وظيفة ولم أوفق
كنت أحلم بالمستقبل وبت أحن إلى يوم واحد من الماضي
كنت أحلم بحياة مستقرة واليوم أحلم بموت مستقر حيث لا قبور تتسع هاماتنا
كنت أحلم وبت بلا أحلام” – محمد زيدان أبو جهاد
قبل أن يكون اليرموك اسمَ مخيمٍ للاجئين الفلسطينيين، كان اسمًا للمعركة التي كرَّست الحكم العربي في سوريا بعد الهزيمة التاريخية التي مُنيت بها الإمبراطورية البيزنطية سنة 636 ميلادية. ولكنه من الآن فصاعدًا سوف يُذكَر كمسرح لواحدٍ من أشد الحصارات وأطولها في سياق الحرب الأهلية السورية، حيث شَهِد حتى الآن فرارَ 160,000 من أهالي المخيم الفلسطينيين بينما الباقون البالغ عددهم 17,000-20,000 يواجهون خطر المجاعة أو الموت من المرض أو الإصابة. يقع مخيم اليرموك اليوم ما بين مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين في بيروت الذي حاصرته ومِن ثمَّ هاجمته المليشيات اليمينية اللبنانية المدعومة سوريًا سنة 1976، وبين الهجوم التالي بالبراميل المتفجرة على تجمعات الفلسطينيين في سوريا.
يحُول الحصار دون إدخال الإمدادات الغذائية والطبية إلى المخيم ويمنع الناسَ من مغادرته، وقد حدا هذا الوضع المروع بالمتحدث باسم وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)، وهي منظمة لطالما نأت بنفسها عن التصريحات السياسية، إلى القول حانقا: “اليرموك كلمةٌ جديدة تُضاف إلى قاموس اللاإنسانية، ففيه تمرُّ المجتمعات المستفيدة من مساعدات الأمم المتحدة في مجاعة […] حيث يُضطَّرُ كبار السن والمرضى والمحتضرون والرُضَّع إلى أكل علف الحيوانات في القرن الحادي والعشرين في عاصمة دولةٍ عضو في الأمم المتحدة، ليس لسببٍ سوى السياسة.”
ظل أهالي مخيم اليرموك، منذ الأسبوع الأول من تموز/يوليو 2013، ممنوعين من تأمين الضروريات الأساسية للحياة. وكُلُّ مَن يحاول كسر الحصار يقضي بالعادة رميًا بالرصاص. ومَن يُصاب، يُترَك ليموت إذ لا يُسمح لهم بالخروج من المخيم لتلقي العلاج الطبي اللازم. وبحسب التقديرات المتحفظة، لقي ما لا يقل عن 194 مدنيًا حتفه، 128 منهم، رُضَّعٌ وعجائز، قضوا موتًا من الجوع في ظل ظروف مأساوية. وتعرَّض الكثيرون من سكان المخيم للاعتقال والتعذيب والاختفاء القسري على يد قوات الجيش السوري والمجموعات الموالية للحكومة مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة. لقد صار سكانُ المخيم رمَّامين في محاولةٍ يائسة لتفادي الموت، فصاروا يسلُقون العشب، ويأكلون الكلاب والقطط، كملاذٍ أخير في انتظار تسويةٍ ما فتئت فرصها تتلاشى على غرار أوسلو بين ممثلي الحكومة وقوات المعارضة السورية.
يوجِّه الناشطون الفلسطينيون المحليون اللوم للنظام السوري وحلفائه الفلسطينيين، متمثلين في المقام الأول في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة، على الحصار والكثير من الفظائع المرتبكة منذ بداية الانتفاضة. وهناك حادثتان مأساويتان، على وجه الخصوص، كانتا بمثابة بداية النهاية للموقف الحيادي الموحد الذي تبناه مخيم اليرموك ازاء الحكومة السورية والانتفاضة عمومًا، وهما المسيرتان الشعبيتان في صيف 2011 باتجاه مرتفعات الجولان المحتلة على “الحدود” مع إسرائيل في ذكرى النكبة، التي هُجِّرَ فيها 750,000 فلسطيني قسرًا من وطنهم عند قيام إسرائيل في عام 1948، وفي ذكرى النكسة، التهجير الجماعي الثاني للفلسطينيين من فلسطين والذي تزامن مع الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967.
كان النظام حينها في أمس الحاجة لكسب التأييد في وجه الانتفاضة المتنامية ضده، ولذلك شجَّع، في كلتا المرتين، تلك المسيرات وسهَّل وصولها إلى الحدود، حيث أزال نقاط التفتيش، بل وأمَّنَ وسائل النقل إلى الحدود في ذكرى النكسة. لكن السلطات السورية والفصائل الفلسطينية التي حضَّت على الخروج في المسيرات توارت، عند أمس الحاجة إليها، عندما أطلق الجيش الإسرائيلي نيرانه المميتة ضد المتظاهرين العُزل وقتلَ 26 منهم.
يُحمِّل الناشطون النظامَ كذلك المسؤوليةَ عن القصف الجوي والتدمير المنهجي الذي طالَ مناطق واسعة في مخيمهم، وأدى إلى سقوط قتلى مدنيين في كانون الأول/ديسمبر 2012. وهم أيضًا لا يُبرؤون فصائلَ الجيش السوري الحر التي دخلت المخيم بالقوة في أعقاب القصف وأخذت تستولي على المنازل والمستشفيات وتعتدي على السكان. فمنذ اليوم الأول، أبدى مقاتلو الجيش السوري الحر تجاهلًا شبه تام لهياكل السلطة داخل اليرموك، وبالأخص، لم يراعوا موقفه المحسوب بعناية.
وصبَّ الناشطون أيضًا غضبهم على منظمة التحرير الفلسطينية/السلطة الفلسطينية لتقصيرها في دعم سكان المخيم الذي تعرضوا لقصف يومي وتناقص متسارع في إمدادات الغذاء والدواء، وهي كلها علامات على حصار وشيك. وتفاقمت مشاعر السخط تلك بفعل ما رَشَحَ من أنباء بأن منظمة التحرير الفلسطينية/السلطة الفلسطينية تُبدي في جهودها المبذولة للتوصل إلى تسوية بين القوات الحكومية والمعارِضة، بحسب التقارير، حرصًا على مصير الأسد أكبر من حرصها على الفلسطينيين المحاصرين، وبالتالي فإنها تبذل جهدًا أقل من أجل رفع الحصار أو التخفيف من معاناة الفلسطينيين السوريين العاجزين عن الحصول على تأشيرة سفر للبلدان التي يوجد فيها تمثيل دبلوماسي للسلطة الفلسطينية.
##الطقوس السورية في العودة إلى الحياة السياسية
عندما أطلق سوريٌّ اسم النكبة على أكثر مصائب الفلسطينيين إيلامًا في تاريخهم الحديث، كان ذلك من باب التأمل المتعاطف العقلاني. أمّا اليوم، فإن النكبة السورية تقتضي الإقرار المؤلم بخسارة العديد من المفاهيم التي يُمكن أن تضاف إلى الخسائر البشرية الهائلة. فعلى مدار سنوات حكم البعث الطويلة، لمَّا كانت سوريا “تدافع” عن القضية الفلسطينية، لم يُسمح للفلسطينيين السوريين قط بأن يكونوا فلسطينيين بالكامل ولا سوريين بالكامل. ورغم أن الدولة بذلت جهودًا مبكِّرة لدمج معظم الفلسطينيين في المجتمع السوري بمنحهم الحقوقَ نفسها الممنوحة للمواطنين السوريين، عدا حق المواطنة والتصويت، فإن هذه السياسة التي رُوِّج لها كثيرًا تغاضت عن حقيقتين: الأولى هي أن العديد من الفلسطينيين الذين دخلوا سوريا بعد موجة اللجوء الأولى، التي وقعت بين عامي 1948 و1956، ظلوا إلى حدٍ كبير بلا حقوق؛ والثانية هي الطبيعة والبُنية الشمولية للمجتمع الذي أُدمِج فيه الفلسطينيون.
اقتصر الإدماج في الأُطر القانونية والاجتماعية والاقتصادية السورية على الفلسطينيين الفارين إلى سوريا سنة 1956 أو قبلها وعلى ذراريهم. غير أن عددًا كبيرًا من الفلسطينيين قد فروا إلى سوريا بعد عام 1956 بسبب حروب وصراعات لاحقة. وقد دأبت الدولة السورية على تجاهل هذه الفئة في التحليلات التي تروج رواية الإدماج. يفتقر الفارون إلى سوريا إبان حرب 1967 مع إسرائيل، ومن الأردن بعد أحداث أيلول الأسود 1970-1971، ومن لبنان بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، ومن العراق بين عامي 2006-2008 إلى معظم الحقوق الأساسية الممنوحة لغيرهم من الفلسطينيين السوريين، مثل الحق في الإقامة الدائمة والحق في العمل دون الحاجة إلى إقامة وتصريح عمل. وبالنسبة للفئة الأخيرة، وهي الفلسطينيون الفارون من العراق، فقد مُنِعوا من دخول سوريا، وظلوا لسنوات في مخيم الهول الصحراوي للاجئين القريب من الحدود السورية العراقية حتى عرضت بلدانٌ، كالبرازيل في أقصى الأرض، أن تعيد توطينهم. ومن الجدير بالذكر أن هذه السياسات كلها اعتُمدت إبان حكم البعث، على عكس ما سبقها من سياسات عام 1956 كانت أكرم وأجود.
أدمجت سوريا الفلسطينيين الذين فروا إليها سنة 1956 أو قبلها أكثر ممّا أدمجت مَن جاؤوا بعدهم. ولكنهم أُدمجوا في نظام شمولي فرَّق بالقوة بين الشعب السوري وحرمه حقَّه في حرية التعبير السياسي، وحقَّه في تقرير مصيره مستخدمًا أجهزةً أمنية لا ترحم، وسياسات اقتصاديةً تؤمن الحد الأدنى من معايير المعيشة للطبقة المحكومة – وهي سياسة اقتصادية وأمنية لا تختلف كليًا عن تلك التي تنتهجها السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وبالتالي كان الإدماج الكامل يساوي الاحتواء الكامل و- كما هي الحال في معظم البلدان العربية الأخرى التي يوجد فيها لاجئون فلسطينيون – كان يساوي التقويض المنهجي لأي تعبيرات مؤسسية تحاول خط هوية وطنية فلسطينية متمايزة، وهذا الوضع لا يختلف، في الواقع، عن معاملة النظام لعموم الشعب السوري. ونتيجةً لذلك، لم يكن الفلسطينيون السوريون أحرارًا في التعبير عن الانتماء لا إلى سوريا ولا إلى فلسطين فيما يتعدى الترديد الببغائي لهتافات الوحدة العربية التي أجازها النظام. يُقارَن النموذج السوري في كثير من الأحيان بالمعاملة اللاإنسانية التي يلاقيها الفلسطينيون في لبنان، بيد أن ما تغفله تلك المقارنات هو مستوى الاستقلالية المؤسسية السياسية المتاحة للفلسطينيين في لبنان، ولو أنها استقلالية مكلفة وغير مقصودة ناجمة من سياسة عكسية تقوم على النبذ والاضطهاد.
ومع ذلك، فإن من منجزات الانتفاضة السورية أنها منحت حق العودة إلى السياسة لكل القاطنين في سوريا، بمن فيهم الفلسطينيون، حيث أدت المعاناة المشتركة جراء العنف إلى رسم معانٍ أخرى أكثر واقعيةً وسمواً لماهيات الهويات الجمعية سورية وفلسطينية على حدٍ سواء بعيدًا عن خطاب النظام. إن مشاهدةَ رفيقٍ متظاهرٍ يلقى حتفه، واستقبالَ خبرٍ بهلاك صديقٍ مقرَّب في الحصار، ورؤيةَ أحدِ الجيران تلطِّخ ملابسَه الدماءُ وهو يتلقى العلاج في عيادةٍ ميدانية مؤقتة، كُلها عوامل تُشكِّل طقوس عودة إلى المشاركة السياسية الجماعية.
يُثير حصار مخيم اليرموك ذكريات عابرةً للأجيال ظلت حيةً بفضل إصرار لاجئي الجيلين الثاني والثالث عن الخراب الأساس إبان نكبة الفلسطينيين الأولى، فهم اليوم يرون بأمّ أعينهم وبحميمة المعاينة ومن غير ذي حاجة للخيال أو الحكاية مخيماتهم – أحياءَهم – تختفي كما اختفت أحياء أجدادهم. وفي الوقت نفسه، فإن الحاجة الملحة لمساعدة الجيران وحماية مراكز مدينتهم غرست شعورًا جديدًا من التعلق بسوريا باعتبارها مسرحًا لذكريات معاشة كانت في السابق على وشك التلاشي. وهكذا، وقعت مفارقةٌ جديدة: في اللحظة التي شعرَ فلسطينيون سوريون كثيرون بأوج تعلقهم وتمسكهم بالانتفاضة كسوريين، قامت فصائل الجيش الحر، التي كانت تعمل في المناطق المحيطة بالمخيم ولاحقًا داخله، بالدوس بغتةً على شعورهم ذاك.
معنى النكبة الجديدة للمنكوبين سلفًا
إن الخيارات المتاحة أمام الفلسطينيين السوريين الذين صاروا لاجئين مرةً أخرى تتراوح بين المأساوي والعبثي. وهناك حرفا جرٍ يلخصان مفارقة اللجوء مرتين، حيث أطلق سكان مخيم اليرموك النازحون عنه، مع استمرار الحصار والنزوح الجماعي، نداءً فريدًا يطالب بالحق في العودة إلى اليرموك ومنه – الحق في العودة إلى حضن المخيم الآمن من الملاجئ المؤقتة الهشة التي وجدوها خارجه، والعودة من المخيم الذي طال المقام فيه إلى مدنهم وقراهم في الجليل التي ينحدرون منها.
لقد صارت العودةُ الثانية – وهي الحل العادل الوحيد لتسوية قضية اللاجئين الفلسطينيين أينما كانوا – أكثرَ إلحاحًا لأن ما يزيد على نصف الفلسطينيين السوريين البالغ عددهم 500,000 قد شُرِّدوا، بل إن كثيرين منهم شُرِّدوا أكثر من مرة. إضافةً إلى أن الأماكن التي يفرون إليها داخل سوريا ما فتئت تزدادُ خطورة. وحتى الأماكن المستقرة نسبيًا التي سَلِمت حتى الآن من وطأة القصف، بات الأمن يتراجع فيها باطراد، وما فتئت تُدَعُّ لاتخاذ موقفٍ واضحٍ موالٍ للنظام.
وفي خارج سوريا أيضًا، لا يأتي الأمان النسبي إلا بتكلفة بشرية عالية. فكل البلدان تقريبًا التي تستقبل اللاجئين الفارين من الصراع السوري في الوقت الحاضر ترحب بالمواطنين السوريين باعتبارهم اللاجئين “الجيدين” وتُغلق معابرها في وجه الفلسطينيين السوريين الذين يعامَلون معاملةَ اللاجئين الأزليين “السيئين”. لقد سمحت الحكومة اللبنانية سابقًا لِما يقرب من 53,000 فلسطيني نازحٍ من سوريا بالدخول، وهم اليوم يقيمون في مخيمات مكتظة أصلًا بأبناء جلدتهم الفلسطينيين وتعاني نقص الخدمات. أمّا الآن فتمنعهم عند الحدود من دخول البلاد، بينما ترحِّلُ آخرين من الداخل. ما انفك الأردن أيضًا يمنع الفلسطينيين السوريين من الدخول منذ مطلع 2013. أمّا الذين تمكنوا من الدخول قبل ذلك، وهم قرابة 14,000 لاجئ، فقد مُنِحوا صفةً تختلف عن صفة اللاجئين الآخرين الفارين من الصراع في سوريا. وفي حين أن الغالبية العظمى منهم يعيشون مع أسرٍ مضيفة أو في عقارات مستأجرة، وفقًا للأونروا، فإن بضع مئات منهم محشورون كالبهائم في مخيمات مقصورةٍ على الفلسطينيين، مثل سايبر سيتي، حيث تفيد التقارير بأنهم ممنوعون من مغادرتها. وجميع هؤلاء يعيشون ظروفًا قاسيةً. وبالإضافة إلى لبنان والأردن، فرِّّ الفلسطينيون السوريون أيضًا إلى مصر وليبيا وغزة وتركيا، وحتى جنوب شرق آسيا.
إن الأهوال التي يجابهها اللاجئون الفلسطينيون داخل سوريا، وما يلقونه من إهمال وسوء معاملة من الحكومات العربية في الخارج، دفَعَ الكثيرين منهم نحو التخوم الأخيرة، بالمعنى الحرفي والمجازي. وحتى قبل سقوط حمص في الآونة الأخيرة، بدأت نعوات الانتفاضة السورية تظهر في الصحف العربية، بينما ترسم تحليلات واقعية صورةً سوداوية لمصير الصراع القائم. فقد بات من المرجح، في ظل تشرذم وعدم تماسك قوى المعارضة داخل سوريا وخارجها، أن يُرسِّخ النظام سلطَته على أجزاء كبيرة من البلاد، ويتخلى عن الباقي بحكم الواقع. وفي هذا السيناريو، سوف ينتهي المطاف بمعظم الفلسطينيين في سوريا في مناطق تخضع لسيطرة النظام. لا يجد عامة الفلسطينيون في الوقت الحاضر مفرًا من الاختيار بين الحصار والجوع كما يحصل في مخيم اليرموك وبين معارضةٍ متشرذمة آخذةٍ بالضعف، ومُهمِلة بحقهم. وقد أخذ هؤلاء الفلسطينيون بالفعل يرضخون للنظام كما يظهر من المسيرات المؤيدة للحكومة ونشر دعاية النظام. وفي حين أن في هذا التوجه منجاةً لهم، فإنه يشكِّل انتكاسةً كبرى في الاحتمالات الثورية التي تجلت سابقًا في الانتفاضة من خلال مشاركات من قبيل الشهيد الفلسطيني السوري أحمد كوسا، وهو أحد المنظمين المجتمعيين والناشطين الفلسطينيين الذين وقفوا في صف الانتفاضة السورية ونسقوا مع الناشطين السوريين من داخل مخيم اليرموك.
الوجود كأزمة
يجد الفلسطينيون أنفسهم اليوم، كآبائهم في بيروت عام 1982 وأجدادهم في يافا عام 1948، مدفوعين باتجاه البحر حرفيًا. فنتيجةً لرفض إسرائيل حقَّ عودة الفلسطينيين السوريين – الذين ينحدر معظمهم من بلدات الجليل ومدنه القابعة على بُعد سويعات فقط – ونتيجةً لعجز منظمة التحرير الفلسطينية/السلطة الفلسطينية عن تقديم أي مساعدة ذات جدوى، يضطر الفلسطينيون لخوض رحلات طويلةٍ محفوفة بالمخاطر على قواربَ متداعية تتمايل مع الأمواج عبر البحر الأبيض المتوسط بحثًا عن بلدٍ يستقبلهم. وفي حين ينجوا الكثيرون، يغرقُ آخرون بلا أثر، وهم في ذلك أسوأ حظًا حتى من الشخصيات الخيالية للمؤلف الفلسطيني المعروف، غسان كنفاني، التي لاقت حتفها في رحلات مماثلة قبل نصف قرن ولكنها ظلت جثثًا هامدةً على كومة قمامة كعلامةٍ على المصير الجماعي الذي تخبئه الأيام.
في مكان ما في مخيمٍ اسكندنافي، ثمة ناجيةٌ محظوظة تتعلم لوحةَ مفاتيح جديدة وشبكةَ طرقٍ في مدينةٍ جديدة، تبدأ من الصفر، وحدها، مجددًا. وأثناء انتظار أوراق إقامتها، تَملُّ، وتدركُ أن النشأة في مخيم لاجئين لا تولد الإحساس بالألفة في مخيم آخر. وبالمثل، فإن الأقدمية في اللجوء لا تسفر عن تعاطف أكثر. وربما ستدرك أن الغموض الذي اعترى العلاقة بين الفلسطينيين السوريين والمخيم لمدة طويلة قد تبدد أخيرًا: فهو أكثر من مأوى مديد لهوية تواجه خطر التلاشي أو الاحتواء، فالمخيم بالنسبة للفلسطينيين السوريين هو صفد الجديدة، هو الجش وطبريا والشجرة. وفي سياق استعيابهم لصفة المخيم المؤقتة وقبولها، تغدو ذكريات المخيم عند لاجئي الجيلين الثاني والثالث كذكريات الجيل الأول عن فلسطين. فهي ليست تذكيرًا بمكانٍ سابق أو حياةٍ ماضية بقدر ما أنها تنشئ مجتمعًا متشرذمًا وغير متماسك لأولئك الذين خسروا كل شيء، ولكنهم بطريقة أو بأخرى لا يزالون قادرين على البدء من جديد في أي مكانٍ يستقبلهم. وبدلاً من تحمل الأزمات الوجودية، يتعلم الفلسطينيين كيف يتعاملون مع الوجود باعتباره أزمة. وهذا ما يسميه التاريخ بناء الأمة.
أحمد دياب
أحدث المنشورات
إيرادات المقاصة الفلسطينية: أداة إسرائيل لإسقاط السلطة الفلسطينية
تصورات استشرافية ورؤى سياساتية فلسطينية لغزة ومستقبلها
عودة ترامب وتداعياتها على النضال الفلسطيني
نحن نبني شبكةً من أجل التحرير.
ونحن نعمل جاهدين، باعتبارنا المؤسسة الفكرية الفلسطينية العالمية الوحيدة، للاستجابة للتطورات السريعة المؤثرة في الفلسطينيين، بينما نحافظ على التزامنا بتسليط الضوء على القضايا التي قد يتم تجاهلها لولا تركيزنا عليها.