نظرة عامة
لطالما نوقش مستقبل الفلسطينيين دون مشاركتهم أو نوقش ضمن إطارٍ مقيَّد ومفروض عليهم. فمعظم الأفكار المطروحة بشأن المستقبل في الفضاءات السياسية السائدة تُعنى في المقام الأول في تعزيز احتواء السكان الفلسطينيين الأصليين وضمان أمن دولة الاستيطان الإسرائيلية. وأحدثها “رؤية السلام” التي طرحتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.910
إن هذه “الرؤيةَ” بعيدةٌ كل البعد عن الولاية السياسية الثورية المنوطة بمنظمة التحرير الفلسطينية التي تأسست في عقد الستينات وسعت إلى تحرير فلسطين وشعبها من المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني الذي أسَّس دولة إسرائيل.11 وهي بعيدةٌ كلَّ البعد أيضًا عن حل الدولتين الذي فُرض باعتباره المستقبلَ الأنسب والأقرب إلى التحقيق للإسرائيليين والفلسطينيين، وصارَ جزءًا من الرواية التي تصف إسرائيلَ وفلسطين كفئتين قوميتين متناحرتين وليس كيانين وُجِدا بسبب المشروع الصهيوني.
تبنت منظمة التحرير الفلسطينية هذه الرواية ضمنًا حين اعتمدت خطة النقاط العشر في 1974، وصراحةً من خلال المجلس الوطني الفلسطيني في 1988. وترسَّخت هذه الرواية في اتفاقات أوسلو في مطلع التسعينات التي تضمنت جدولًا زمنيًا لإقامة الدولة الفلسطينية على الأرض المحتلة عام 1967. وانقلب التأطير السياسي السابق الذي وضعته منظمة التحرير للنضال باعتباره نضالًا مناهضًا للاستعمار، وتحوَّل التركيز من التحرير الجمعي إلى التركيز على النجاح الفردي والمكاسب الرأسمالية خلف واجهة “دولة في الانتظار”.
لقد أحدثَ هذا التغيرُ السياسي والخطابي أيضًا تحولًا جوهريًا في المجتمع المدني الفلسطيني الذي بات أكثر اعتمادًا على رعاية المانحين الأجانب، وقيَّد المخيلة الجمعية الفلسطينية بأجندة سياسية محددة، وهمَّش اللاجئين والفلسطينيين المواطنين في إسرائيل.
نجح الجهد المبذول لحصر الرؤية الفلسطينية الجمعية في إطار إقامة الدولة ضمن حدود 1967 إلى حدٍ كبير Share on Xوبينما يتحول الضم الإسرائيلي لسائر الضفة الغربية المحتلة من الضم بحكم الواقع إلى الضم بحكم القانون، تستميت العديد من الأطراف الثالثة في التمسك بحل الدولتين باعتباره الحلَّ الأفضل لحماية مصالحها الدبلوماسية والتجارية مع إسرائيل. ولا يزال بعض الفلسطينيين ينظرون إلى إقامة الدولة باعتباره الإطار المستقبلي الأقرب إلى التحقيق في المدى القصير. ويجذبهم لباسه القومي، ولا سيما أن إقامة الدولة باتت المنظور السائد لتخيل التحرير. وهكذا نجح الجهد المبذول لحصر الرؤية الفلسطينية الجمعية في إطار إقامة الدولة ضمن حدود 1967 إلى حدٍ كبير.
ومع ذلك، ثمة محاولات لتوسيع القيود، ومحاولات أكثرُ جرأةً لتجاوزها تمامًا. تركز هذه الورقة السياساتية على إمكانيات بلورة رؤيةٍ جمعية لمستقبل الفلسطينيين. وتستند إلى تجربة الفلسطينيين في وضع الرؤى والتصورات، وتناقش سُبل تحقيق الإجماع الذي يمكن أن ينهض برؤية تتبناها غالبية الشعب الفلسطيني.
رؤى المستقبل: ما لها وما عليها
طرحت مجموعةٌ من الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل في 2006-2007 رؤيةً مستقبلية مفصّلةً كمحاولةٍ جادة لتوسيع حدود القدرة على التصور والتفكير. وكانت جهودها بمثابة تعبيرٍ جمعي غير مسبوق عن التطلعات السياسية والاجتماعية لهذه الفئة من الشعب الفلسطيني. وفُصِّلت هذه الرؤية المستقبلية في أربع وثائق: وثيقة رؤية المستقبل، دستور متساوٍ للجميع، الدستور الديمقراطي، إعلان حيفا. وتُسمَّى مجتمعةً وثائق رؤية المستقبل (وأشير إليها فيما يلي باسم “الوثائق”)، وكان إعدادها ونشرها جهدًا جماعيًا ساهمَ فيه سياسيون ومفكرون فلسطينيون وقادةٌ في المجتمع المدني الفلسطيني.
تبنت الوثائق مطالبَ المجتمع الفلسطيني في إسرائيل السياسية والاجتماعية من وجهة نظر الجماعة، وطرحت كذلك روايةً تاريخية فلسطينية دقيقة. وقدَّمت بذلك إطارًا نظريًا منظَّمًا للحقوق الفلسطينية داخل دولة إسرائيل. ولم تعرض الوثائق أفكارًا جديدة، بل أكَّدت ما كان يُطالب به الكثيرون منذ عقود. ومع ذلك، كانت تلك هي المرةَ الأولى التي تُطرح فيها هذه الأفكار بهذا الوضوح وبهذه الرؤية الجلية لشكل المستقبل الأكثر قبولًا لدى الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل.
تدعو الوثائق دولةَ إسرائيل إلى التخلي عن طابعها اليهودي، وإلى المساواة بين مواطنيها كافة. وتؤكد، في الوقت نفسه، الهويةَ الفلسطينية القومية للمجتمع الفلسطيني في إسرائيل وانتماءَه إلى العالم العربي ومكانته كشعبٍ أصلي. إن الرواية التاريخية جلية في الوثائق، وتجعل النكبةَ مرجعًا زمنيًا محوريًا والسببَ في كل معاناةٍ فلسطينية. وتصفُ بصراحةٍ ووضوح نواةَ المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في فلسطين:
في أواخر القرن التاسع عشر بدأت الحركة الصهيونية مشروعها الكولونيالي-الاستيطاني في فلسطين. ولاحقاً، قامت، بتساوق مع الاستعمار العالمي وبتواطؤ الرجعية العربية معها، بتنفيذ مشروعها الرامي إلى احتلال وطننا وتحقيق هدفها بتحويله إلى دولة لليهود – إعلان حيفا، ص 11-12.
إن إسرائيل وليدة عملية استيطان بادرت إليه النخب اليهودية-الصهيونية في أوروبا والغرب وساهمت في تنفيذه دول استعمارية وتعزَّز بتكاثف الهجرة اليهودية إلى فلسطين على ضوء نتائج الحرب الحرب العالمية الثانية والهولوكوست – التصور المستقبلي للعرب الفلسطينيين في إسرائيل، ص 9.
إن التركيزَ على ضرورةِ جبر الظلم التاريخي المتمثل في النكبة هو ما يُميز هذه الوثائق عن غيرها من مبادرات الفلسطينيين الموطنين في إسرائيل الداعية إلى المساواة. ومع أن الوثائق تتطرق بإيجاز إلى القمع المستمر الذي تتعرض له فئات الشعب الفلسطيني الأخرى، وتدعو إلى إنهاء الاحتلال العسكري لأراضي 1967، وتُطالب إسرائيلَ صراحةً بالاعتراف بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين عملًا بقرار الأمم المتحدة رقم 194، إلا أنها لا تتناول كيفية عودة اللاجئين. ولا تجعل إنهاءَ الاحتلال وتطبيقَ حق العودة متطلبًا مسبقًا لتحقيق مطالب الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل.
إن التركيزَ على ضرورةِ جبر الظلم التاريخي المتمثل في النكبة هو ما يُميز هذه الوثائق عن غيرها من مبادرات Share on Xتقتصر هذه الوثائق في تركيزها بوضوح على ظرف الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل، وتفصلُ قضيتهم عن قضية الفلسطينيين الآخرين إمّا بقصد أو دون قصد، وتتموضع بثبات ضمن إطار حل الدولتين. وباختصار، لا تدعو رؤية المستقبل التي تتبناها الوثائق إلى تفكيك الهيكل القائم وإنما إلى إصلاحه. وهي لا تطرح خريطةً للمستقبل إلا ضمن الحدود والقيود التي فرضها النظام الاستعماري الاستيطاني، في تجاهل تام لاعترافها بأصلية العنصر الفلسطيني على الأرض.
ثمة مساعي أخرى لتصور مستقبل بديل كالمبادرات التي تروج حلَّ الدولة العلمانية الواحدة الجامعة لكل مَن يعيش على الرقعة الواقعة بين نهر الأردن وبين البحر الأبيض المتوسط. وعلى سبيل المثال، تطرح حملةُ الدولة الديمقراطية الواحدة، التي انطلقت من حيفا، برنامجًا سياسيًا من عشر نقاط يتضمن بندًا يدعو إلى إعمال حق عودة اللاجئين واستعادة ممتلكاتهم وبنودًا أخرى تضمن المساواة. ولكن، على غرار وثائق رؤية المستقبل، لا تدعو حملةُ الدولة الديمقراطية الواحدة إلى إنهاء الاستعمار رغم وصفها إسرائيل كدولةِ استعمار وفصلٍ عنصري. وكانت هناك محاولات من أفراد أو منظمات لصياغة رؤى بديلةٍ للمستقبل بالتركيز على قضايا محددة مثل حق عودة اللاجئين الفلسطينيين. ومن تلك المحاولات الخطة المفصلة للعودة التي وضعها سلمان أبو ستة، وكذلك محاولات المنظمات الشعبية المختلفة في فلسطين مثل المنظمات الشبابية التي تتصور إعادةَ بناء القرى المطهَّرة عرقيًا (انظر التعقيب الذي كتبته مستقبل مختلف: حين يتخيل الفلسطينيون).
تحقيق الإجماع
صَدَرت وثائقُ رؤية المستقبل من خلال التشاور والحوار بين العديد من المفكرين وقادة المجتمع المدني والسياسيين من المجتمع الفلسطيني في إسرائيل، ولكنها لم تكن نتيجة إجماعٍ عريض يشمل فئات المجتمع الأخرى، ولعله من الأسباب الكامنة وراء محدودية تأثير الوثائق ومدى وصولها.
يجب أن يكون الإجماع جزءًا أساسيًا في التعبير عن رؤية مستقبل الشعب الفلسطيني بأكمله. فالإجماع يعني الاتفاق أو التوافق الذي تتوصل إليه الجماعة أو المجموعة من الناس. ويمكن استخدام المصطلح للدلالة على الإجماع على العملية أو على القرار النهائي. وبخلاف التصويت بالأغلبية الذي قد يُفضي إلى نتائج خلافية ويُقصي شرائح كبيرة من الشعب، يتطلب الإجماع من جميع الأطراف المعنية أن تتفاوض حتى تتوصل إلى اتفاق. ويمكن لعملية التوصل إلى الأجماع أن تساعد في بناء علاقات الثقة بين المجموعات والأحزاب المختلفة.
إن من الضرورة بمكان في ظل غياب السيادة والحكم الذاتي (ولا سيما في السياقات الاستعمارية)، أن نفكر في التوصل إلى إجماع ثوري أكثر يُستمدُ من الشعب بوسائل لا تتسنى بالضرورة من خلال ما يُعتبر إجراءات ومؤسسات ديمقراطية اعتيادية. ويضرب التاريخ الفلسطيني أمثلةً شهدت الإجماع الثوري كجزء من العملية، كما في السنوات الأولى من عمر منظمة التحرير الفلسطينية وإبان الانتفاضة الأولى بالإضافة إلى حالات أكثر معاصرةً.
صاغ مؤسسُ منظمة التحرير الفلسطينية والمندوب الفلسطيني في جامعة الدول العربية، أحمد الشقيري، الوثائقَ السياسيةَ الأولى للمنظمة بما فيها الميثاق الوطني والقانون الأساسي. وحازت تلك الوثائق لاحقًا على موافقة مجلسٍ مكون من 422 فلسطيني اجتمعوا في القدس وكان من بينهم وجهاء، وزعماء محليون، ومهنيون من أطباء ومحامين وغيرهم، وممثلات عن المنظمات النسائية (بالرغم من أن النساء في نهاية المطاف استحوذن على عددٍ محدود من المقاعد). وكان من الواضح غياب ممثلين من مخيمات اللاجئين ومن طبقة الفلاحين والكادحين.12 وكان ذلك مدعاةً للاستياء ولا سيما في أوساط الطلاب والناشطين الشباب بمن فيهم المنتمون إلى حركة فتح والجماعات الإسلامية. إن غياب التمثيل، والشعور بخنوع منظمة التحرير للدول العربية، والقلق من أن المنظمة لم تعد كيانًا ثوريًا زرع بذور التغيير الهيكلي الجذري. وأجمعت المجموعات المسلحة على ضرورة التغيير، وكانت تلك المجموعات والفصائل تحظى بشرعية شعبية كبيرة نتيجة كفاحها المسلح ضد إسرائيل. واختير ياسر عرفات رئيسًا لمنظمة التحرير سنة 1969، وكان ذلك بمثابة استيلاء سياسي على الحكم قادته حركةُ فتح بدعمٍ من بعض المجموعات والفصائل المسلحة الأخرى.
لقد جلبَ تولي فتح قيادة المنظمة عقدًا من التعددية السياسية لم تقتصر على الجماعات المسلحة والأحزاب السياسية بل شملت الاتحادات والنقابات وغيرها من المنظمات. واستمر الإجماع الأولي على الشكل الذي ينبغي أن تتخذه حركةُ التحرير الفلسطينية – أي النضال الثوري المسلح المتحرر من سيطرة الدول العربية – إلى أن دحرت إسرائيلُ منظمة التحرير الفلسطينية خارج لبنان في 1982 (انظر تأملات جميل هلال بشأن القيادة الفلسطينية). وبعدها، ومع انتقال الجماعات المسلحة إلى الأرض الفلسطينية المحتلة، طُمسَ ما تبقى من الإجماع بفعل أساليب عرفات المتسمة بسلطويتها المتنامية في تعيين الممثلين وتثبيتهم وبسبب الإفراط في تمثيل نخب الشتات.
إن من الضرورة بمكان في ظل غياب السيادة والحكم الذاتي (ولا سيما في السياقات الاستعمارية)، أن نفكر في التوصل إلى إجماع ثوري أكثر Share on Xفي عام 1987انتقلت روح الثورة إلى الشارع الفلسطيني، وتجلّت في الاحتجاجات الجماهيرية العارمة إبان الانتفاضة الأولى التي نجمت عن سنوات من التنظيم القاعدي الذي أرسى الأسس لتسيس الجماهير والنضال الشعبي. وشكَّلت الاتحادات والمنظمات الطلابية والجمعيات والفصائل السياسية تحالفًا عُرف باسم القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، وكُلِّفت باتخاذ القرارات، وطبقت نظامًا للقيادة بالتناوب يراعي روح التمثيل ويستجيب للاعتقالات المتكررة لقادتها. كانت الانتفاضة تتمحور حول مفهوم “قوة الشعب” كشكلٍ من أشكال الإجماع الثوري الشعبي. وفي هذا السياق، كتبت ليندا طبر: “تبوأ اليسار موقع القيادة في هذه العملية…وقد استثمرت الحركة، في سياق تأكيدها على الشعب باعتباره وسيلة النضال وغايته ’في طاقة الشعب وقدراته‘ وإيمانه في قوته…نظر اليسار إلى الشعب باعتباره حيزًا يمكن فيه بناء أشكال مستقلة من القوة التي تتمكن من تعزيز مسيرة النضال من أجل تشكيل وقائع بديلة.”13
تُعد حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها من التعبيرات المعاصرة عن الإجماع. تأسست حركة المقاطعة في 2005 استجابةً لنداء أطلقته 170 جهة فلسطينية ضمت اتحادات وشبكات لاجئين ومنظمات نسوية ونقابات مهنية ولجان مقاومة شعبية ومنظمات أخرى في المجتمع المدني الفلسطيني. وقد أجمَعَ هؤلاء على ثلاثة مطالب أساسية: 1) إنهاء الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي لكافة الأراضي الفلسطينية والعربية وتفكيك الجدار، 2) الاعتراف بالحق الأساسي بالمساواة الكاملة لفلسطينيي أراضي العام 48، 3) احترام وحماية ودعم حقوق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم التي هُجِّروا منها واستعادة ممتلكاتهم كما نص على ذلك قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 194.
لقد كان نداء حركة المقاطعة عريضًا لدرجة أنه انبرى لجوهر النضال الفلسطيني بتشخيص مشكلة الصهيونية باعتبارها بناءً منظَّمًا، وبالتخاطب مع الشعب الفلسطيني كلِّه بأجزائه الجغرافية الثلاث. وتُعدّ حركة المقاطعة تعبيرًا صاخبًا عن رفض عملية أوسلو التي ما اكتفت باستبعاد مكونين رئيسيين من الشعب الفلسطيني (اللاجئين والفلسطينيين المواطنين في إسرائيل) وإنما أخفقت في التصدي للقضية الرئيسية ألا وهي الصهيونية كمشروع استعماري استيطاني. وجاء النداء ردًا على فشل القيادة الفلسطينية وتقاعسها، ولا سيما بعد صدور الرأي الاستشاري من المحكمة الجنائية الدولية في 9 تموز/يوليو 2004 بخصوص جدار الفصل الإسرائيلي. ومع أن سبب وجود حركة المقاطعة يتمثل في حشد الدعم الدولي للضغط على إسرائيل كي تمتثل للقانون الدولي، فإنها بلا شك تُمثل رؤيةً للمستقبل من خلال مطالبها الثلاثة. وأكثر ما يُثير الإعجاب في حركة المقاطعة، بالإضافة إلى تمكُّنها من جمع الغالبية العظمى من مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني والأحزاب السياسية لمؤازرة النداء، احتكامُها إلى الإجماع في تسيير أعمالها وصنع القرار فيها بالرغم من تعدد وجهات النظر السياسية والاجتماعية بتنوع الممثلين في هيئتها القيادية المعروفة باسم اللجنة الوطنية الفلسطينية للمقاطعة.
الأهم من ذلك هو أن حركة المقاطعة ليست حزبًا سياسيًا وليست ممثلًا للشعب الفلسطيني. ولكنها كحركةٍ سياسية تُبرهن تمامًا على إمكانية تحقيق الإجماع بين الفلسطينيين على قضايا يمكن ترويجها كأجندة سياسية ورؤية للمستقبل. وبالنظر إلى مناخ الاستقطاب السياسي السائد حاليًا وانعدام الممارسة الديمقراطية، يغدو هذا المثال لتحقيق الإجماع جديرًا بالتفكر والتأمل.
التحديات والإمكانيات
صدرت مؤخرًا مجموعةٌ قصصية بعنوان “فلسطين +100” (Palestine +100) شاركَ فيها مجموعة من المؤلفين الفلسطينيين الذين تخيَّلوا فلسطين في العام 2048 – أي بعد مائة عام على النكبة.14 ترسم العديدُ من تلك القصص حبكات مروِّعة عن النظام الإسرائيلي وكيف سيتحول لكابوسًا وجحيمًا أكثر بفعل التكنولوجيا المتقدمة. المرعب أكثر هو أن العديد من خيالات المستقبل تلك يمكن تصديقها وحدوثها مرشح، ولا سيما مع التدهور السريع الحاصل على الأرض. لذا بات يتحتم على الفلسطينيين اليوم أكثر من ذي قبل أن يعبروا عن بدائل لذلك المستقبل الممكن، وأن يتجاوزا القيادة الفلسطينية العاجزة التي لم تتمكن إلى الآن من الوقوف في وجه “رؤية” إدارة ترامب.
إن من الأهمية بمكان في هذا السياق أن ندركَ العقبات الماثلة وسُبل الالتفاف عليها لتفاديها. وأولى العقبات التي يواجهها الفلسطينيون عند مناقشة المستقبل هي عقبة “إمكانية التنفيذ،” أي الممكن تحقيقه في إطار الهيمنة الحالي. ولكن ما المقصود بإمكانية التنفيذ ومَن يحددها؟ تقوم إمكانية التنفيذ عمومًا على مفاهيم ما هو مُمكن ومنطقي وعملي التي يحددها متقلدو مناصب السلطة. وفي حالة فلسطين، حدَّد إطار أوسلو إمكانيةَ التنفيذ منذ ما يزيد على عقدين من الزمن، حيث أملى بأن يكون مستقبل الفلسطينيين ضمن حدود إطار الدولتين، وألا تُمنَح السيادة الفلسطينية إلا على مراحل وضمن شروط. أمّا القضايا الأخرى مثل قضية القدس واللاجئين، فقد أُجِّلت “للوضع النهائي”. وفي هذا الصدد، يُعارض ريتشارد فولك في كتاباته حول مستقبل الفلسطينيين حُجة إمكانية التنفيذ ولا سيما إطارَ الدولتين الذي يرى أنه ينطوي على خصائص عقيمة:
… آفاق إمكانية التنفيذ تحصر خيارات الفلسطينيين في اثنين: إمّا الموافقة على جولة أخرى من المفاوضات الفاشلة سلفًا وإمّا رفض المفاوضات وتحمُّل المسؤولية عن إعاقة الجهود الساعية لإحلال السلام.15
وهكذا فإن “المستقبل الممكن” لا يضمن ولا بأي حالٍ من الأحوال إعمالَ الحقوق الفلسطينية أو تحقيق التحرير. وفي المقابل، يحضُّ فولك على تفضيل “سياسة التحرر والانعتاق” في النقاشات حول المستقبل. ويشير بعض الفلسطينيين والناشطين إلى هذه السياسة باسم “مقاربة الحقوق أولًا”. فلا بد أن تقوم أي رؤية للمستقبل على أساس إعمال الحقوق الفلسطينية الأساسية وتحقيق السيادة، وليس على أساس إمكانية التنفيذ.
لا يضمن 'المستقبل الممكن' ولا بأي حالٍ من الأحوال إعمالَ الحقوق الفلسطينية أو تحقيق التحرير Share on Xأمّا العقبة الثانية التي ينبغي أن يتغلب عليها الفلسطينيون فتتمثل في مفهوم الاستمرارية الاستعمارية في تخيلات المستقبل. يقول فانون، مُعلِّقًا على الاستعمار الفرنسي في الجزائر، بأنه “كان يُبنى دائمًا على الافتراض بأنه باقٍ للأبد”16 تسعى النُظم الاستعمارية والاستعمارية الاستيطانية إلى السيطرة على تصورات الواقع والتحكم فيها من أجل إخضاع الشعوب الأصلية والمستعمَرة لدورة من القمع لا يبدو لها نهاية. لذا لا بد للفلسطينيين أن يتخيلوا مستقبلًا خاليًا من القمع. ولا بد من التأكيد على أن هذا التخيل ليس خيالًا وإنما تصورٌ لِشكل المستقبل دون استعمار.
العقبة الثالثة هي نبذُ خطاب المنظمات غير الحكومية والنيوليبرالية، حيث أفضت سنوات من النيوليبرالية والعمل في منظمات غير حكومية في فلسطين إلى تحييد الخطاب سياسيًا، وتقييد التصورات لِما هو ممكن (انظر مقالة حازم جمجوم “استرداد البعد السياسي في الرواية الفلسطينية“). ومن الضرورةِ بمكان في عملية التخيل الجمعي إحياءُ الخطاب المحلي للتحرير وإنهاء الاستعمار، وإنشاءُ قاموس مشترك.
قد يبدو التوصل إلى رؤية مشتركة للمستقبل أمرًا مستحيلًا في السياق الراهن المتسم بالاستقطاب السياسي والتشرذم. غير أن الأمثلة المذكورة آنفًا تُبين أن الفلسطينيين حققوا الإجماع في قضايا رئيسية، وتمكَّنوا من مواصلة العمل والتعبئة بموازاة الاحتفاظ بالتعددية السياسية. إن ثقافة الإجماع تحتاج مَن يتعهدها ويرعاها ويبني عليها، ولا سيما في سياق المجتمع الفلسطيني المشتت جغرافيًا واجتماعيًا وسياسيًا.
- لقراءة هذا النص باللغة الفرنسية، اضغط/ي هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.
- اسمها الكامل هو “رؤية السلام والازدهار ومستقبل أكثر إشراقا لإسرائيل والشعب الفلسطيني.”
- فايز صايغ، الاستعمار الصهيوني في فلسطين (بيروت: مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، 1965).
- يزيد صايغ، الكفاح المسلح والبحث عن الدولة: الحركة الوطنية الفلسطينية، 1949-1993، ص 99.
- ليندا طبر، “قوة الشعب: الدروس المستفادة من الانتفاضة الأولى،” مركز دراسات التنمية، جامعة بيرزيت، نيسان/أبريل 2013، ص 3.
- Basma Ghalayini, ed., Palestine +100: stories from a century after the Nakba, (Manchester, UK: Comma Press, 2019).
- Richard Falk, “Rethinking the Palestinian Future,” Journal of Palestine Studies, Volume 42, Summer (2013): p.83.
- Frantz Fanon, A Dying Colonialism, New York: Grove Press, (1965), p.179-180.