ملخص تنفيذي
داهمت الشرطة الإسرائيلية في 22 تموز/يوليو 2020 معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى، ومركز يبوس الثقافي، وشبكة فنون القدس (شفق) في القدس الشرقية ونهبت موجوداتها بحجة تمويلها الإرهاب. واعتقلت أيضًا مديري هذه المؤسسات واحتجزتهم. لا تُعدّ هذه الهجمات على المراكز الثقافية الفلسطينية جديدة، وإنما تعكس المسعى الإسرائيلي الممنهج والمستمر في تدمير القدس الفلسطينية.
اضطلعت القدس تاريخيًا بدورٍ أساسي في تشكيل الهوية السياسية والاجتماعية الفلسطينية. ولكن منذ احتلالها وتقسيمها في 1948 إلى شَطر غربي تسيطر عليه إسرائيل وشَطر شرقي يسيطر عليه الأردن، عملت إسرائيل بجدٍ على طمس الهوية الفلسطينية للقدس من خلال حملات التطهير العرقي واحتلالها المستمر الذي يجعل حياة الفلسطينيين لا تُطاق في المدينة. وسعت إسرائيل على قدمٍ وساق منذ احتلالها القدس الشرقية في 1967 إلى محو الوجود الفلسطيني في المدينة من خلال تشييد الجدار الفاصل، وفرض متطلبات غير عملية لاستدامة الإقامة، وخطط التطوير الحضري التي تنطوي على إزالة المباني الفلسطينية وبناء أخرى غيرها، وإغلاق المؤسسات السياسية والثقافية الفلسطينية مرارًا وتكرارًا.
يُعدّ بيت الشرق الكائن في حي الشيخ جراح بالقدس المؤسسةَ السياسيةَ والثقافيةَ الفلسطينية الوحيدة التي صمدت لأطول فترة في وجه حملة التدمير الإسرائيلي. أنشأت عائلةُ الحسيني العريقة بيت الشرق في العام 1987، واكتسب المبنى أهميةً لاستخدامه في حفظ المواد المؤرشفة وكحيزٍ للتنظيم السياسي، واستُخدم في تسعينات القرن الماضي كمقر لمنظمة التحرير الفلسطينية في القدس. غير أن النظام الإسرائيلي أغلق بيت الشرق في العام 2001، وقضى بذلك على السلطة السياسية الفلسطينية الوحيدة المعتَرف بها في القدس.
دأب النظام الإسرائيلي، منذئذٍ، على منع المؤسسات السياسية الفلسطينية من ممارسة نشاطها في القدس. وأغلق منذ العام 2000 ما يزيد على 42 مؤسسة فلسطينية في القدس الشرقية بحججٍ مختلفة تراوحت بين الانتماء السياسي "غير المشروع" وبين التخلُّف عن دفع الفواتير. وهكذا فإن الهجمات الأخيرة على المراكز الفلسطينية الثلاثة في المدينة تندرج ضمن المسعى الإسرائيلي المتواصل الرامي إلى تعطيل الحياة السياسية والثقافية الفلسطينية في القدس. وهي تمثل أيضًا جهودًا متجددة ومنسَّقة تهدف إلى تشويه سمعة المنظمات الحقوقية والأهلية الفلسطينية وتدميرها. وتضطلع منظمة مونيتر بدورٍ بارز في هذا الصدد، حيث ترتبط بِصلات مع الحكومة وتعمل مع وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية بهدف قطع التمويل الدولي عن المنظمات الفلسطينية لإجبارها على الإغلاق.
تحقق المنظمة هذا الهدف بطريقتين: اتهام المنظمات الفلسطينية بدعم حركة المقاطعة أو العمل معها، واتهام المنظمات أو الأفراد "بالانتماء إلى منظمات إرهابية" أو "تمويل الإرهاب." وهذه الاتهامات محض افتراء ولا سند لها، فضلًا على أن مصطلح "الانتماء" تُركَ عامًا وفضفاضًا عن قصد، حتى يتسنى تصنيف أي تعبيرٍ سياسي فلسطيني تحت باب "الانتماء". وبالرغم من الشك والريبة التي تعتري ادعاءات منظمة مونيتر بحق المنظمات الفلسطينية، إلا أن المجتمع الدولي يَحفل بها ويستخدمها لقمع المجتمع المدني الفلسطيني بتقليص التمويل أو قطعه أو حتى سحبه نهائيًا. وبالرغم من إطلاق سراح مديري المؤسسات الثقافية الثلاث في القدس الشرقية، إلا أن وصمة دعم الإرهاب التي التصقت بهم ستعود عليهم وعلى منظماتهم بالضرر دون شك.
وفيما يلي بضعة مقترحات لمقاومة تدمير المؤسسات الثقافية والسياسية الفلسطينية في القدس:
- ينبغي للفلسطينيين حول العالم أن يُشدِّدوا على أهمية المحافظة على المؤسسات والمنظمات الفلسطينية في القدس من خلال الدعم المالي وبذل جهود التضامن المتواصلة والفعالة.
- ينبغي للفلسطينيين في الضفة الغربية التصدي لإضعاف مكانة القدس كعاصمة فلسطين، وذلك بنبذ الحديث عن رام الله واعتبارها العاصمة الفلسطينية المزيفة.
- ينبغي للجهات الحكومية الثالثة أن تقدم الدعم العلني وغير المشروط للمؤسسات الفلسطينية في القدس، ولا سيما تلك الواقعة تحت هجمات النظام الإسرائيلي.
- ينبغي للجهات الحكومية الثالثة أن تدرك أهمية وجود تمثيل سياسي فلسطيني في القدس، وأن تدعمَ، في سبيل ذلك، إعادةَ دور بيت الشرق كمقر لهذا التمثيل، كما فعل الاتحاد الأوروبي في 2014، وأن تمارسَ الضغط السياسي لتحقيق ذلك.
- لا ينبغي للجهات الحموكية الثالثة أن تتخذَ منظمة مونيتر أو وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية كمصدرٍ شرعي للمعلومات المتعلقة بالفلسطينيين والمنظمات الفلسطينية. وينبغي أيضًا أن تصنِّف منظمة مونيتر علنًا بأنها ذراع للدولة الإسرائيلية تنفذ أجندة موجهة نحو شيطنة المجتمع المدني الفلسطيني وتجريمه.
- يجب على المجتمع الدولي أن يرفضَ تهمتي "النشاط الإرهابي" و"الانتماء" السياسي اللتين يكيلهما النظام الإسرائيلي كتهمتين لا أساس لهما، ولا سيما أن تعريف "الانتماء" الفضفاض صُمِّم تحديدًا لاستهداف أي فلسطيني.
نظرة عامة
داهمت الشرطة الإسرائيلية في 22 تموز/يوليو 2020 معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى، ومركز يبوس الثقافي، وشبكة فنون القدس (شفق) في القدس الشرقية ونهبت موجوداتها، وعاثت فيها خرابًا وصادرت الوثائق والملفات والحواسيب الثابتة والمحمولة والهواتف. واعتقلت مديري تلك المؤسسات، سهيل خوري ورانيا إلياس وداوود الغول، حيث اقتادتهم من منازلهم بعد مداهمتها أيضًا. وفي حين أُوقِف سُهيل ورانيا ليومٍ واحد في مركز احتجاز إسرائيلي، قضى داوود أسبوعين في سجن المسكوبية خضع أثناءها للاستجواب. وبحسب الكثير من وسائل الإعلام المحلية والدولية، فإن اعتقالهم جاء على خلفية الاشتباه في تمويل الإرهاب، وهي تهمة يكيلها النظامُ الإسرائيلي عمومًا للناشطين الفلسطينيين.1
إن هذه الهجمة على مؤسسات القدس الشرقية الثقافية ليست ظاهرةً جديدة، بل واحدةٌ من سلسلةِ هجمات متواصلة ما انفك يتعرض لها الفلسطينيون في المدينة على مر العقود. وفي أيار/مايو 2018، استحكمت قبضة إسرائيل على المدينة أكثر عندما نقلت الولايات المتحدة سفارتها من تل أبيب إلى القدس، الأمر الذي ألقى الضوء على المسار التدهوري للفلسطينيين في المدينة. وهذه الهجمةُ أيضًا جزءٌ من جهود الجهات الفاعلة الرسمية وغير الرسمية المستمرة التي تستهدف المجتمع المدني الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة وداخل الخط الأخضر. يتناول هذا الموجز السياساتي الاعتداءات الأخيرة على المؤسسات الفلسطينية في القدس الشرقية في إطار القمع الأشمل الذي تمارسه إسرائيل على المجتمع المدني الفلسطيني، ويقدم توصيات من أجل مقاومة الجهود الساعية إلى تدمير القدس الفلسطينية.
تدمير القدس الفلسطينية
اضطلعت القدس على الدوام بدورٍ أساسي في تشكيل الهوية الفلسطينية عبر التاريخ الفلسطيني. وعلى الرغم من أنها لم تضاه المدن الفلسطينية الساحلية كحيفا ويافا في الأهمية الاستراتيجية والاقتصادية قبل العام 1948، إلا أنها استأثرت بأهمية اجتماعية وسياسية وثقافية دائمة لدى الفلسطينيين. يوضِّح رشيد الخالدي بأن “مدارس القدس وصُحُفها وأنديتها وشخصياتها السياسية كانت مؤثرة في فلسطين كلها حتى قبل أن يضع الانتداب البريطاني حدودَ الدولة عقب الحرب العالمية الأولى.”2
أصبحت القدس بعد الاحتلال البريطاني لفلسطين في العام 1917 وإعلان الانتداب رسميًا في 1922 مسرحًا للتنظيم السياسي ضد حُكم الاستعمار البريطاني والاستعمار الاستيطاني الصهيوني. وعلى وجه التحديد، تدفق الفلسطينيون بأعداد كبيرة إلى شوارع القدس احتجاجًا على إقدام بريطانيا على تنفيذ وعد بلفور الصادر في 1917 والذي تعهَّد بمساهمة بريطانيا في إقامة “وطن قومي” لليهود في فلسطين، واحتجاجًا على الاستيلاء على الأراضي والهجرة اليهودية المستمرة إلى فلسطين. وأصبحت المدينة أيضًا، إبان السنوات الأولى من الحكم البريطاني، مركزًا للتنظيم السياسي النسائي، حيث انعقد في 1929 مؤتمر النساء العربيات لأول مرةٍ في القدس، وانبثقت منه اللجنة التنفيذية للسيدات العربيات، وكانت تلك بداية الحركة النسائية الفلسطينية السياسية والمنظمة.
كانت القدس بمثابة العاصمة السياسية والإدارية لحكومة بريطانيا في فلسطين طوال عقود الحكم البريطاني الثلاثة، واكتسبت صفة فريدة في الفترة التي سبقت الحرب العربية-الإسرائيلية في 1948، حيث إن خطة التقسيم الصادرة من الأمم المتحدة في 1947، والمنسجمة تمامًا مع التوجه الاستعماري الساعي إلى تقسيم الأرض، اقترحت تقسيم فلسطين إلى دولة يهودية وأخرى عربية، مع إبقاء القدس (وبيت لحم) كيانًا منفصلًا – أي مدينة مدوَّلة لا تخضع للسيادة اليهودية ولا العربية. ولكن الفلسطينيين رفضوا هذه المحاولة الاستعمارية لتقسيم فلسطين التاريخية بهدف ترسيخ الحُكم الأجنبي في القدس.
اضطلعت القدس على الدوام بدورٍ أساسي في تشكيل الهوية الفلسطينية عبر التاريخ الفلسطيني Share on Xوهكذا كانت فلسطين تتعرض للتطهير العرقي بالفعل عند قيام دولة إسرائيل في العام 1948، حين احتلت القوات الصهيونية ما بات يُسمى لاحقًا القدس الغربية ومن ضمنها الأحياء الفلسطينية المزدهرة مثل الطالبية والقطمون والبقعة التي كانت تؤوي 60,000 فلسطيني طُرِد معظمهم من المنطقة، وفرَّ بعضهم إلى الأجزاء الشرقية من المدينة. ولم يُسمَح لأي منهم بالعودة. وعند رسم خطوط الهدنة في 1949، شُطرت القدس إلى قسمين: القدس الغربية الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية والقدس الشرقية الخاضعة للسيطرة الأردنية، وبذلك طُمست الهوية الفلسطينية للمدينة.
ومنذ حرب الأيام الستة في 1967، احتلت إسرائيل القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان السورية. ومن نتائج الحرب أيضًا أنّ إسرائيل ضمت القدس بأكملها بحكم الواقع وبحكم القانون، حيث طبَّقت قانونها وإدارتها على القدس الشرقية بموجب مرسوم القانون والإدارة الصادر في 1967. ورسَّخت مكانةَ المدينة بحكم القانون في العام 1980 حين سنَّت قانون القدس، الذي سرعان ما أغلقت بموجبه البلديةَ الفلسطينية في القدس الشرقية، ودمجتها بالبلدية الإسرائيلية في القدس الغربية. وعلاوةً على ذلك، فَرضت إسرائيل قوانين الطوارئ على سائر الأرض المحتلة، وحظرت بموجبها غالبية المنظمات السياسية الفلسطينية والمؤسسات التابعة لها.
أعطت الحكومة الإسرائيلية المقدسيين الفلسطينيين “إقامةً دائمة،” ولم تمنحهم الجنسية، أي أنهم أصبحوا فعليًا عديمي الجنسية. وبذلك استطاع النظام الإسرائيلي أن يحرمهم حقوقَهم الكاملة، بما فيها الحق في التصويت، بينما أجبرهم في الوقت ذاته على دفع الضرائب. وكثيرًا ما يَسحب الإقامة الدائمة، المُجحفة أصلًا، من الفلسطينيين الذين يختارون السكنَ خارج المدينة، وأحيانًا من الذين ينخرطون في العمل السياسي. ومنذ العام 1967، سحبَ النظام الإسرائيلي نحو 14,000 إقامةٍ دائمة من الفلسطينيين، أي أنه لم يكتف بتجريدهم الجنسية وإنما شرَّدهم أيضًا.
تستخدم السلطات الإسرائيلية كذلك التخطيط الحضري كآلية رئيسية لمحو الوجود الفلسطيني في القدس وتحقيق هدفها المعلن المتمثل في إيجاد أغلبية سكانية يهودية في المدينة. ينطوي التخطيط الحضري على حصر الفلسطينيين في أحياء معينة، والامتناع عن إصدار تصاريح البناء لهم، وهدم منازلهم، وتوفير موارد وخدمات غير كافية للأحياء الفلسطينية. ويندرج تشييد الجدار الفاصل في 2002 ضمن المسعى الإسرائيلي الرامي لجعل حياة الفلسطينيين لا تُطاق في المدينة، فقد بُني الجدار ليتخذ مسارًا متعرجًا عبر الضفة الغربية بحجة حماية الأمن الإسرائيلي. وفي القدس، يمرّ عبر الأحياء الفلسطينية المتاخمة، وفي بعض الأحيان يقطعها تمامًا. ويفصل معظمَ القدس الشرقية عن الضفة الغربية، ويُضطر الفلسطينيين إلى قطع مسافة طويلة عبر نقاط التفتيش إذا أرادوا المرور عبر جانبي الجدار. وترقى هذه الإجراءات وغيرها إلى سياسة ممنهجة ومنظمة تهدف إلى إجبار أكبر عدد من الفلسطينيين على الخروج من القدس وإبقاء الباقين في جيوبٍ حضرية تخضع لسيطرة مُحكَمة.
تعطيل الحياة السياسية والثقافية الفلسطينية في القدس
بالإضافة إلى السياسات الممنهجة الهادفة إلى جعل حياة الفلسطينيين شاقةً وعسيرة في القدس، تعكف إسرائيل على تعطيل حياة الفلسطينيين السياسية والثقافية في المدينة. فبعد احتلال القدس الشرقية في 1967 وضمها لاحقًا، أخذ النظام الإسرائيلي يقمع العمل السياسي والثقافي الفلسطيني بشدة. وقد تمكَّن النظام الإسرائيلي بفضل إنفاذ قوانين الدفاع، التي استحدثها الانتداب البريطاني في 1945، من ممارسة القمع والرقابة على نطاق واسع. فحظرَ الكتب، وحذَف الكلمات القوية والمؤثرة مثل فلسطين والصمود والعودة من المناهج المدرسية والكتب والبرامج الإذاعية والمسرحيات. ويشير مؤسس رابطة الفنانين الفلسطينيين، سليمان منصور، إلى أن الفلسطينيين في السنوات التي تلت احتلال 1967 “كانوا يعيشون في مَعزل ثقافي، مفصولين عن المستجدات والتطورات الثقافية. فقد كانت الحركة صعبة. ومُنع فنانون كثيرون من السفر والتنقل. وكثيرًا ما كانوا يُعتقَلون وتُصادَر أعمالهم […] لقد كانت محاولةً لقتل أي روح إبداعية وفنية لدى الفلسطينيين.”
وبالنسبة إلى الكثير من الفلسطينيين، ارتبطت الثقافة لِزامًا بالسياسية، ولا سيما أن وجودهم في حد ذاته كان عملًا سياسيًا في نظر النظام الإسرائيلي. ولذلك استُخدمت العديد من المساحات الثقافية في التنظيم السياسي أيضًا، وخصوصًا في ظل الحظر الإسرائيلي المُطبق بالقوة العسكرية على المؤسسات السياسية الفلسطينية. وكان بيت الشرق الكائن في حي الشيخ جراح بالقدس الاستثناءَ الوحيد، حيث كان المؤسسة السياسية الوحيدة الممثلة للفلسطينيين في المدينة، وكان مركزًا للبحث وأرشفة التاريخ الفلسطيني.
بُني بيت الشرق في 1897 كقصر لعائلة الحُسيني العريقة. وبعد 1948، اتخذ المبنى طابعًا عموميًا أكثر إذ أصبح يُستخدم كبيت ضيافة ومكاتب. وفي أعقاب العام 1967، حوِّلت الطوابق العليا إلى مكاتب لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين في الشرق الأدنى (الأونروا). وفي 1983، استأجرت جمعية الدراسات العربية المبنى كاملًا بتمويل من منظمة التحرير الفلسطينية واستخدمته في عملها البحثي والأرشيفي وأنشأت فيه مكتبة. وكان لبيت الشرق في تلك الفترة دورٌ مهم في إحياء الوعي الوطني الفلسطيني لدرجة أنه أُغلق إبان الانتفاضة الأولى لثلاث سنوات. وبعدها ببضع أعوام، اتخذه الوفد الفلسطيني مقرًا له أثناء مؤتمر مدريد للسلام المنعقد في 1991، واستُخدم في أحيانٍ كثيرة في عقد التسعينات لاستضافة الديبلوماسيين الأجانب. وعندئذ كان بيت الشرق قد غدا رمزًا لصمود الفلسطينيين في المدينة.
وفي 10 آب/أغسطس 2001، داهمت القوات الإسرائيلية بيت الشرق ونهبت محتوياته من وثائق ومواد مؤرشفة، وأغلقت مكاتب المؤسسة. ولم تكن تلك الممارسةُ جديدةً على القدس ولا على المدن الأخرى. فكثيرًا ما تداهم القوات المسلحة الإسرائيلية المؤسسات الفلسطينية وتنهبها، كما فعلت في المكتبات الخاصة والعامة في القدس الغربية في 1948 وحتى مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت سنة 1982. غير أن إغلاقَ بيت الشرق في 2001 كان حدثًا بارزًا بوجه خاص لأن جميع الأطراف المشاركة في عملية أوسلو للسلام اعترفت به كمقر لمنظمة التحرير الفلسطينية، كما اعترفت بالقدس الشرقية عاصمةً شرعية للدولة الفلسطينية المستقبلية. وكان إغلاقه بدايةَ حقبةٍ جديدة من انحسار الوجود السياسي الفلسطيني في المدينة، حيث دأب النظام الإسرائيلي، منذئذ، على منع المؤسسات السياسية الفلسطينية من ممارسة نشاطها في القدس.
وترقى هذه الإجراءات وغيرها إلى سياسة ممنهجة ومنظمة تهدف إلى إجبار أكبر عدد من الفلسطينيين على الخروج من القدس وإبقاء الباقين في جيوبٍ حضرية تخضع لسيطرة مُحكَمة Share on Xتعرضت المؤسسات الثقافية الفلسطينية أيضًا لاعتداءات وإغلاقات كثيرة. ومنها على سبيل المثال المسرح الوطني الفلسطيني (الحكواتي) الذي ظل منذ تأسيسه في 1984 يقاوم الرقابة والتهديدات بإغلاقه، حيث مُنعت أنشطته في أكثر من 35 مناسبة منذ افتتاحه، بما في ذلك في 2008 حين سعى المسرح إلى استضافة مهرجان قُبيل اختيار القدس عاصمة الثقافة العربية لعام 2009. وفي 2015، أطلق المسرح مناشدةً عامة بعد تلقي تهديدات من سلطة إنفاذ القانون والتحصيل الإسرائيلية التي جمَّدت حسابه المصرفي وهدَّدت بمصادرة مبناه. وقد تذرَّعت السلطات الإسرائيلية بتراكم مبالغ طائلة على المسرح لحساب البلدية وشركة الكهرباء ومؤسسة التأمين الوطني، لكن دون أن تُعلِّق على عدم شرعية وجود تلك المؤسسات أصلًا في القدس الشرقية. ولا يزال المسرح يواجه تهديدًا وشيكًا بالإغلاق حتى يومنا هذا.
أغلق النظام الإسرائيلي منذ العام 2000 ما يزيد على 42 مؤسسة فلسطينية في القدس الشرقية بحججٍ مختلفة تراوحت بين الانتماء السياسي “غير المشروع” وبين التخلُّف عن دفع الفواتير. ومنذ إقرار قانون “مكافحة الإرهاب” في الكنيست في 2016، مارست السلطات الإسرائيلية قمعًا أشدَّ وأوسع نطاقًا على المؤسسات الفلسطينية ومنظمات المجتمع المدني. يحتوي القانون على بنود من قانون الطوارئ، وهو مُصمَّم، بحسب منظمة عدالة الحقوقية غير الحكومية، “لقمع نضال المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل [وفي القدس الشرقية] وقمع أنشطتهم السياسية الداعمة للفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة.” يتيح هذا القانون للدولة استخدامَ “الأدلة السرية” على نطاق واسع في محاكمة المتهمين، ويجعل الردَّ الوافي على تلك التهم أمرًا صعبًا. ويوسِّع القانون أيضًا تعريف “النشاط الإرهابي” ليشمل “التعبير العلني عن دعم المنظمات الإرهابية أو التعاطف معها.” أي أنه يحظر التعبير السياسي الفلسطيني بما أن النظام الإسرائيلي يعدّ الأحزاب السياسية الفلسطينية منظماتٍ إرهابيةً.
هجمة منسَّقة جديدة
تُعدُّ الهجمات المذكورة أعلاه على معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى ومركز يبوس الثقافي وشبكة فنون القدس (شفق) جزءًا لا يتجزأ من المسعى الإسرائيلي الرامي إلى تعطيل الحياة السياسية والثقافية الفلسطينية في القدس. ومن ناحية أخرى، فإنها تمثل جهودًا جديدة ومنسَّقة تهدف إلى تشويه سمعة المنظمات الحقوقية والأهلية الفلسطينية وتدميرها، ولا سيما تلك التي تحصل على تمويل دولي. وتقود هذه الجهود بشكل رئيسي منظمةُ مونيتر، التابعة للحكومة الإسرائيلية رغم ادعائها بأنها غير حكومية، حيث تنسق حملاتها التشهيرية مع وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية، التي يترأسها منذ 2015 جلعاد إردان، السياسي الذي ظل يسعى إلى تقييد حرية الفلسطينيين في التعبير، ويشنَّ حربًا شعواء على حركة المقاطعة ومناصريها بملايين الدولارات وبالتنسيق مع جهاز الاستخبارات الإسرائيلي – الموساد.
بدأت منظمة مونيتر كمنظمةٍ هامشية لا يأخذ أحدٌ تقاريرها المغلوطة وغير المدروسة على مَحمَل الجد. وكانت تُركِّز جهودها على تصيُّد المدافعين عن حقوق الإنسان والافتراء عليهم، كما فعلت مع عمر شاكر مدير مكتب منظمة هيومن رايتس ووتش في فلسطين الذي طُرد في النهاية من البلاد في عام ٢٠١٩ بعد معركة قضائية طويلة لاقت اهتمامًا دوليا. غير أن عملها أصبح أكثر عدوانية وتنسيقًا منذ العام 2015 على أقل تقدير، وصارت تستهدف قطع التمويل الدولي عن المنظمات الفلسطينية لإجبارها على الإغلاق. وتُحقق هدفها هذا من خلال طريقتين تتبعهما في الهجوم على المنظمات والشخصيات الفلسطينية.
تتمثل الطريقة الأولى في اتهام هؤلاء بدعم حركة المقاطعة أو العمل لديها، في ظل الجهود المتنامية لتجريم حركة المقاطعة في أوروبا والولايات المتحدة بالرغم من وجود هيئات قانونية عديدة مثل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تؤكد على قانونية المقاطعة كشكلٍ من أشكال التعبير السياسي. أمّا الطريقة الثانية فتتمثل في اتهام المنظمات أو الأفراد “بالانتماء إلى منظمات إرهابية” أو “تمويل الإرهاب.” غير أن تقريرًا لمجموعة عمل السياسات، المؤلفة من أكاديميين وصحفيين ودبلوماسيين سابقين إسرائيليين مؤيدين لحل الدولتين، يبين أن منظمة مونيتر لا تقدم أدلةً تدعم هذه التهمة التي لا تفتؤ تقذف بها المنظمات والأفراد. فقد راجعت مجموعة عمل السياسات منشورات منظمة مونيتر وخلصت في تقريرها – والذي عنوانه الفرعي هو “تشويه سمعة المنظمات الحقوقية التي تنتقد الاحتلال الإسرائيلي” – إلى أن:
الأساليبُ التي تستخدمها منظمة مونيتر بعيدةٌ كل البعد عن التحقيقات الشاملة التي تضطلع بها المنظمات الحقوقية والأهلية التي تهاجمها. ويبدو أن منشوراتها تستند كثيرًا إلى معلومات منتقاة من شبكة الإنترنت وأصداء الادعاءات التي تُطلقها المصادر الإسرائيلية الرسمية. فضلًا على أنها تركز منشوراتها انتقائيًا على تفنيد الملاحظات والاستنتاجات التي تنشرها المنظمات المستهدفة.
بعبارة أخرى، على الرغم من الاتهامات التي تكيلها منظمة مونيتر مُفتراة، وتشهيرية، ولا أساس لها، ولا يدعمها سوى بحث هزيل، إلا أن الكثيرين في المجتمع الدولي باتوا، على نحو مستَغرب، يأخذون هذه المنظمة على مَحمل الجد، الأمر الذي له تداعيات سلبية على المجتمع المدني الفلسطيني، حيث تؤدي البيئة التي خلقته حملة التشويه المتنامية هذه إلى تقليص التمويل، وفي بعض الحالات إلى قطعه وسحبه نهائيًا. وفي الآونة الأخيرة، مثلًا، أبلغَ الاتحاد الأوروبي شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية بأنه سيطبق بندًا يُلزم جميع الشركاء بعدم التعامل مع أي جهة مشمولة في قائمة عقوبات الاتحاد الأوروبي، مما تسبب في تخشي البعض أن يؤدي ذلك إلي الاضطرار إلى فحص الموظفين العاملين لديهم، والمتعاقدين معهم، والمستفيدين من المساعدات، كشرطٍ للحصول على التمويل. تشمل قائمة العقوبات الجهات الخاضعة للعقوبات وكذلك المنظمات والأفراد المصنفين كإرهابيين. وتشمل القائمة معظم الأحزاب السياسية الفلسطينية، بما فيها حماس والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ومع أن قائمة العقوبات لا تشمل أفرادًا فلسطينيين حتى الآن، إلا أن ذلك قد يتغير مستقبلًا مع ازدياد الضغط الذي تمارسه إسرائيل والمنظمات من قبيل منظمة مونيتر.
أغلق النظام الإسرائيلي منذ العام 2000 ما يزيد على 42 مؤسسة فلسطينية في القدس الشرقية بحججٍ مختلفة تراوحت بين الانتماء السياسي ‘غير المشروع’ وبين التخلُّف عن دفع الفواتير Share on Xتنظر غالبية المجتمع الدولي إلى معظم الأحزاب السياسية الفلسطينية، باسثتناء فتح، كمنظمات إرهابية، والأدهى أنها تُسلِّم في معظم الأحيان بالتعريف الإسرائيلي الفضفاض لمصطلح “الانتماء”. ومنذ العام 1967، اعتقل النظام العسكري الإسرائيلي 800,000 فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، أي ما يُعادل 20% من العدد الكُلي لسكان الأرض المحتلة. ويُحاكم الكثير من هؤلاء على أساس “الانتماء” أمام المحاكم العسكرية الإسرائيلية التي تبلغ نسبة الإدانة فيها 99%. تستطيع إسرائيل معاقبة الفلسطينيين على أي نشاط سياسي من خلال أوامرها العسكرية التي تبررها بحجة حماية الأمن. وبموجب تلك الأوامر، حظرت إسرائيل الاحتجاجات والاجتماعات السياسية التي يحضرها أكثر من عشرة اشخاص، كما حظرت نشر المقالات والصور السياسية. توجِّه إسرائيل الاتهامات أيضًا للفلسطينيين “بالانتماء” إلى جماعات سياسية مصنفة لديها كمنظمات إرهابية. وبالتالي، فإن مشاركة تعليق منشور على إحدى وسائل التواصل الاجتماعي أو حتى تقديم القهوة لعضو في إحدى المنظمات المحظورة قد يندرج تحت تعريف “الانتماء”.
واجهت المؤسسات الثقافية الثلاث في القدس الشرقية تهمة “التهرب الضريبي والاحتيال” في بادئ الأمر، ثم تبيَّن لاحقًا أن اعتقال مديريها كان بتهمة تمويل منظمات إرهابية. ومن الواضح أن منظمة مونيتر قد لعبت دورًا في صدور هذه الاتهامات من خلال تقاريرها وافتراءاتها المستمرة على تلك المنظمات. وبالرغم من إطلاق سراح المديرين الثلاثة، إلا أن الاتهامات لا تزال قائمة. فضلًا على الوصمة التي التصقت بهم بسبب اتهامهم بدعم منظمات إرهابية، والتي قد يكون لها تداعيات مضرة في بيئة تشهد تراجعًا في التمويل الدولي المشروط أصلًا، وتزايدًا في القيود التي يفرضها النظام الإسرائيلي.
توصيات سياساتية
فيما يلي بضعة مقترحات لمقاومة تدمير المؤسسات الثقافية والسياسية الفلسطينية في القدس في ظل هذا الوضع الصعب والمقلق:
- ينبغي للفلسطينيين، في الشتات وعلى أرض فلسطين التاريخية، أن يُشددوا على أهمية المحافظة على المؤسسات والمنظمات الفلسطينية في القدس. وينبغي أن ينطوي ذلك على الدعم المالي وبذل جهود التضامن المتواصلة والفعالة.
- ينبغي للفلسطينيين في الضفة الغربية مقاومة إجراءات السلطة الفلسطينية التي تُضعِف مكانة القدس كعاصمة فلسطين، حيث تُركِّز استثماراتها في رام الله باعتبارها المركز الإداري لفلسطين. وعليهم التحرك بجد لنبذ الحديث عن رام الله واعتبارها العاصمة الفلسطينية المزيفة.
- ينبغي للجهات الحكومية الثالثة أن تقدم الدعم العلني وغير المشروط للمؤسسات الفلسطينية في القدس، ولا سيما تلك الواقعة تحت هجمات النظام الإسرائيلي. وينبغي فعل ذلك كعملٍ مضاد لعجز المجتمع الدولي، وتواطئه في بعض الحالات، فيما يتعلق بترسيخ السيطرة الإسرائيلية على القدس.
- ينبغي للجهات الحكومية الثالثة أن تدرك أهمية وجود تمثيل سياسي فلسطيني في القدس، وأن تدعمَ، في سبيل ذلك، إعادةَ دور بيت الشرق كمقر لهذا التمثيل، كما فعل الاتحاد الأوروبي في 2014، وأن تمارسَ الضغط السياسي لتحقيق ذلك.
- لا ينبغي للجهات الحكومية الثالثة أن تتخذَ منظمة مونيتر أو وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية مصدرًا شرعيًا للمعلومات المتعلقة بالفلسطينيين والمنظمات الفلسطينية. وينبغي أيضًا أن تصنِّف منظمة مونيتر علنًا كذراع فعلي للدولة الإسرائيلية ينفذ أجندة مكرسة لشيطنة المجتمع المدني الفلسطيني وتجريمه.
- يجب على المجتمع الدولي أن يرفضَ تهمتي “النشاط الإرهابي” و”الانتماء” السياسي اللتين يكيلهما النظام الإسرائيلي كتهمتين لا أساس لهما، ولا سيما أن تعريف “الانتماء” الفضفاض صُمِّم تحديدًا لاستهداف أي فلسطيني.
- لقراءة هذا النص باللغة الفرنسية أو باللغة الأسبانية، اضغط/ي هنا أو هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.
- رشيد الخالدي، الهوية الفلسطينية: بناء الوعي الوطني الحديث (نيويورك: دار نشر جامعة كولومبيا، 2009)، 33.