لمحة عامة
في هذه الورقة، تتناول رندة فرح، مستشارة الشبكة لشؤون السياسات، العلاقة القائمة بين وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) واللاجئين استنادا إلى ما قامت به من بحث أنثروبولوجي في الأردن.1 ترى فرح بأن الأونروا قامت بدور يوزاي دور حكومة في المنفى تقوم بخدمة رعاياه ، ولا سيما قبل تولي منظمة التحرير الفلسطينية زمام القيادة في منتصف الستينيات من القرن الماضي وبعد أن تخلت عن اللاجئين عملياً ان لم يكن نظرياً او قانونياً من خلال توقيع إعلان المبادئ مع إسرائيل في عام 1993. وتشير المستشارة إلى أن الأونروا هي منظمة إنسانية فريدة ولكنها ليست ثابتة أو متجانسة وهي ليست فوق السياسة او التسييس. كما تقول إنها مسرح للمصالح المتعددة وأحيانا المتضاربة. وتخلص إلى أن وجود الأونروا في المناخ السياسي الراهن هو أمر جوهري ويرجع ذلك بالأساس إلى ان وجودها مؤشر يدل على المسؤولية الدولية تجاه اللاجئين الفلسطينيين وبحقهم في العودة )رقم 194 (3) بوصفها طرفاً في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
الأونروا في الأردن
الأونروا هي واحدة من أكبر المنظمات الإنسانية وأقدمها. تأسست هذه المنظمة بتاريخ 8 كانون الأول/ ديسمبر 1949 بعيد النكبة الفلسطينية، والتي شهدت نزوح ما ينوف عن 750,000 فلسطيني ممن طردوا على يد المليشيات الصهيونية أو فرّوا منها إبان تأسيس دولة إسرائيل. وبسبب رفض إسرائيل المتكرر لحق اللاجئين في العودة، ظلت الولاية المنوطة بالأونروا تتجدد تلقائيا. وفي الوقت الراهن، توفر الأونروا خدمات أساسية في مجالات التعليم والصحة والإغاثة والخدمات الاجتماعية للاجئين الفلسطينيين المسجلين في الشرق الأوسط والبالغ عددهم 4,766,670.2 وفي الأردن، الذي يستضيف أكبر عدد من اللاجئين خارج فلسطين التاريخية، تعمل الأونروا في عشرة مخيمات يقطنها 341,494 لاجئا مسجلا، أو 17.2 في المئة من اللاجئين المسجلين في المملكة والبالغ عددهم 1,983,73. 3
ومن المفارقة أن المجتمع الدولي – من خلال مفوضية الأمم المتحدة العليا لشؤون اللاجئين – يشجع على إعادة اللاجئين إلى أوطانهم باعتبار أن ذلك هو الحل الدائم الأفضل للاجئين حول العالم، ولكنه يقف عاجزا أمام تيسير عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، والضغط على إسرائيل كي تمتثل لقانون اللاجئين.4
أبرمت الأونروا عندما بدأت عملها في أيار/ مايو 1950 اتفاقات مع البلدان المضيفة أرست الإطار القانوني لعملياتها. وأحيانا كانت الأونروا تتشاور بشأن المسائل العملية وبصورة غير رسمية مع اللاجئين من قادة المخيمات في العادة الذين كان الكثير منهم يرأسون قراهم سابقا. إن غياب جسم سياسي فلسطيني فاعل وقادر على تعبئة اللاجئين وتمثيلهم كجماعة وطنية واحدة، بالإضافة إلى السياسيات القمعية التي مارستها الدول، دفعت بالأونروا لتشغل مركز الصدارة، حيث قامت بالكثير من الوظائف التي تقوم بها الحكومات لضمان الاحتياجات الاساسية تجاه رعاياها. كما لعبت الأونروا دور رب العمل في القطاع العام ووظفت اللاجئين في مناصب مختلفة. وكان الكثير من هؤلاء الموظفين يقطنون المخيمات وهو ما منح اللاجئين شعورا بأنهم “يملكون” الأونروا. ومع ذلك، ظل الموظفون الفلسطينيون والمحليون داخل الوكالة مدركين لأوجه عدم المساواة والهوة القائمة بينهم وبين الموظفين الدوليين الذين يتمتعون بصلاحيات أكبر في صناعة القرار، ويرتبطون بصلة أوثق بالممولين الغربيين الذي يملكون أجندات مختلفة للوكالة، ويتقاضون رواتب ومزايا أعلى.
وبحلول أواخر عقد الستينيات، كانت منظمة التحرير الفلسطينية قد طورت مؤسساتها وقاعدة مناصريها في الأردن. ومع بضعة استثناءات، اتسمت العلاقة بين المنظمة والأونروا في تلك الفترة بالتعايش السلمي. وعجزت بعثة الأونروا الإنسانية أو “الإنمائية” عن ترويض النضال الوطني الفلسطيني مثلما خشي بعض الفلسطينيين. وكمنظمة للتحرير، منحت منظمة التحرير الفلسطينية قاطني المخيمات كرامة وصوتا سياسيا واحدا؛ بيد أن الانضواء في كنف المنظمة، وبخاصة العضوية في حركة فتح، أصبح لا يقل أهمية عن التمتع بصلة بوكالة الأونروا، كان يُسهل في ضمان فرص العمل أو التعليم أو الحصول على الدعم المالي والمادي. ولفترة من الزمن، قامت منظمة التحرير الفلسطينية في توفير بعض الخدمات للاجئين وحتى في تقديم المساعدات المالية لبعض الأسر في المخيمات وكانت “الممثل” لمحنتهم، غير أن عصر المنظمة الذهبي في الأردن لم يدم طويلا حيث انتهى بطردها في عام 1971.
الأونروا ومنظمة التحرير الفلسطينية في أعقاب أوسلو
ظل اللاجئون منذ طردهم وقبل ظهور منظمة التحرير الفلسطينية يرفضون بعفوية خطط الإدماج أو التوطين. فعلى سبيل المثال، أصر معظم اللاجئين بأن وضعهم كلاجئين كان مؤقتا ورفضوا بحزم خطط تحسين البنى التحتية في المخيمات كما رفضوا استبدال سقوفهم “الزينكو” بسقوف إسمنت او مواد أكثر متانة من سقوف “الزينكو” المهلهلة لمساكنهم المتواضعة. وبحلول منتصف عقد الستينيات، تزامن صعود نجم منظمة التحرير الفلسطينية مع انفتاح الأسواق الخليجية. واتجه اللاجئون، الذين تخرج الكثير منهم من مراكز التدريب التابعة لوكالة الأونروا، إلى دول الخليج النفطية بحثا عن العمل. إن هذا الشعور الجديد بالتمكن الاقتصادي وتنامي قوة منظمة التحرير الفلسطينية خلق روحا من الثقة السياسية التي انتقصت من نفوذ الأونروا ومكانتها كمؤسسة “الإعاشة” الرئيسية، ولكنه لم ينتقص من أهمية الدعم المادي الذي كانت تقدمه للكثير من أسر اللاجئين الفقيرة. لقد زاد حضور منظمة التحرير الفلسطينية جرأة الفلسطينيين وشجعهم على الوقوف في وجه اختزال تطلعاتهم السياسية وحقوقهم القانونية الى مجرد قضية إنسانية. وبالرغم من طرد منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن وإعادة تجمعها في لبنان في عامي 1970 و1971، فإن نفوذها استمر إلى أن دمرت إسرائيل بنيتها الأساسية في عام 1982.
وفي عام 1987، أشعل الفلسطينيون فتيل الانتفاضة الأولى في الأراضي الفلسطينية المحتلة والتي ترافقت بنمو حركات سياسية جديدة أخذت تتحدى هيمنة منظمة التحرير الفلسطينية، وكان على رأس تلك الحركات حركة المقاومة الإسلامية (حماس). وتفاقم موقف المنظمة الضعيف أصلا بتوقيعها في عام 1993 على إعلان المبادئ المنشئ للسلطة الفلسطينية والذي مثل تحولا جذريا في السياسة الوطنية الرسمية وبداية الانقسام الحاد على صعيد التوافق الوطني.5
لقد أسفر إعلان المبادئ والاتفاقات اللاحقة والمعروفة عموما “بعملية سلام” أوسلو عن إقصاء لاجئي نكبة عام 1948 لأن الإطار الأمريكي-الإسرائيلي الذي ارتكزت إليه هذه الاتفاقات لم يكن قائما على القانون الدولي فضلا عن أنه تجاهل قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 (3). لقد اعتُبر توقيع منظمة التحرير الفلسطينية على هذه الاتفاقات خيانةً وتنصلاً من مسؤوليتها تجاه اللاجئين. وهنا مجددا، برزت وكالة الأونروا، رغم افتقارها انتداباً واضحاً من الامم المتحدة لتقوم بمسؤلية الحماية الدولية، ورغم ميزانيتها المتضائلة، باعتبارها المنظمة الوحيدة المسؤولة عن اللاجئين في الدول المضيفة. لذا فقد ساور اللاجئون وموظفو الأونروا المحليون القلق بوجه خاص عندما أعلن المفوض العام بُعيد توقيع إعلان المبادئ بأن وكالة الأونروا سوف تتحضر، على ضوء “عملية السلام،” لحل نفسها في غضون فترة مدتها خمس سنوات. 6 وقد تفاقم الاضطراب السياسي جراء قرار الوكالة القاضي بتمويل برنامج إقرار السلام الرامي إلى مساعدة السلطة الفلسطينية في تشييد بنيتها الأساسية. 7
لقد كشف برنامج إقرار السلام بأن وكالة الأونروا ليست في منأى عن الوسط السياسي، وإنما متورطة للغاية في الترتيبات السياسية المحلية والدولية المتغيرة. فالتأييد العلني الذي أبدته الأونروا لمفاوضات أوسلو السياسية، وخططها آنذاك الهادفة إلى “حل” نفسها، والخطوات التي اتخذتها لمساعدة السلطة الفلسطينية في بناء مؤسسات “الدولة،” قبل حل مشكلة اللاجئين، كشف عن الصلات المعقدة بين المجالين الإنساني والسياسي. وفي الوقت ذاته، كان موظفو الأونروا الذين قابلتهم أثناء تلك الفترة متشائمين للغاية بشأن مستقبلهم. وأشاروا إلى أن نقلهم لاستلام وظائف حكومية في القطاع العام في الأردن سوف يكون صعبا وسيشكل انسلاخا من البيئة الفلسطينية التي ألِفوها والتي نشأت في إطار الأونروا بعد كل هذه العقود.8
لقد عطلت أوسلو منظمة التحرير الفلسطينية وأفرغتها من سلطتها وفعالياتها السياسية من خلال تفتيت المؤسسات الوطنية الفلسطينية، وتوجيه الموارد والتركيز السياسي نحو “الداخل” – الأراضي الفلسطينية الواقعة تحت إدارة السلطة الفلسطينية – على حساب اللاجئين. ورغم الولاء الذي تظهره السلطة الفلسطينية بشعاراتها “لحق العودة،” وهو القضية الجوهرية والأكثر أهمية في النضال الوطني، فإنها قد دفنت هذا الحق تحت عنوان “الحق في تقرير المصير” أي الحق في إنشاء دولة مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وليس حق اللاجئين في العودة الفعلية إلى مسقط رأسهم في فلسطين التاريخية.
لقد أسفر ذلك عن نشوء مزاج سياسي تشاؤمي ولا سيما في أوساط اللاجئين في المنفى. أما الأونروا فقد استمرت كمؤسسة ذات مكانة فريدة ترمز إلى المصير السياسي المعلق للاجئي عام 1948 وحقهم في العودة المُهمَل والساقط فعليا بحكم المبادئ الناظمة لاتفاقات أوسلو.
نموذج فريد لمنظمة إنسانية دولية
في سياق النظام الإنساني الأشمل، ثمة سمات فريدة تتميز بها العلاقة بين الأونروا واللاجئين الفلسطينيين. وتبرز من بينها ثلاث سمات، أولها هو أن الأمم المتحدة التي أنشأت وكالة الأونروا متواطئة في خلق مشكلة اللاجئين الفلسطينين، ومن ذلك على وجه الخصوص خطتها التقسيمية (قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181) التي استخدمها قادة الحركة الصهيونية لتبرير التطهير العرقي في فلسطين، وإن كان بتحريف المصطلحات في بنود القرار والتوسع إلى ما وراء الأراضي المخصصة لدولة الأغلبية اليهودية. وثانيا، قبلت الأمم المتحدة بإسرائيل كدولة عضو قبل أن تطبق حق اللاجئين في العودة. وثالثا، وبخلاف المنظمات الدولية الأخرى، فإن الغالبية العظمى من موظفي الأونروا هم فلسطينيون، رغم أن ثمة ما يقل عن 200 موظف دولي يشغلون مناصب تنفيذية ويملكون سلطة ونفوذا أكثر من الموظفين المحليين.
لقد أجريت في السنوات القليلة الماضية بحوثا في مخيمات اللاجئين الصحراويين في الجزائر، حيث العلاقة بين الوكالات الإنسانية واللاجئين الصحراويين تختلف عن علاقة الأونروا باللاجئين. تشرف البوليساريو، وهي جبهة التحرير الوطني الصحراوية، على المخيمات بواسطة لجان شعبية يتولى فيها اللاجئون الصحراويون المسؤولية عن تنظيم المخيمات وتوزيع المساعدات الدولية. وقد مكّنت الدولة المضيفة قيام هذا النموذج، إذ تعترف الجزائر بالجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية كدولة ذات سيادة وتسمح لها بالعمل بهذه الصفة ضمن حدود المخيمات. وهكذا تعمل جبهة البوليساريو كرادع للتدخل المباشر والهيمنة التي تمارسها مؤسسات المعونة الدولية. وفي الواقع، تُدار “المخيمات” كولايات أو محافظات في دولة قومية مُقامة على شريط من أراض “مستعارة” من الجزائر بصفة مؤقتة، واللاجئون في هذه الحالة هم مواطنو الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية التي لها دستور ومؤسسات حكومية. ويُمكن أن يُعزى نجاح النموذج الصحراوي أيضا إلى كون جبهة البوليساريو قد تشكلت قبل حرب 1975 التي أدت إلى تشريد اللاجئين الصحراويين، وهو ما يعني بأن الجبهة تولت دورا قياديا منذ البداية في تأسيس المخيمات وإدارتها.9
وفي المقابل، قامت منظمة التحرير الفلسطينية بعد النكبة بسبعة عشر عاما ولم تحظ بدعم مماثل من الدول العربية المضيفة. وعلاوة على ذلك، لم تكن لمنظمة التحرير الفلسطينية استراتيجية موحدة تختص بلاجئي المخيمات، بل كان لديها سياسات وممارسات فصائلية. أما لجان اللاجئين فكانت حاضرة على الدوام في المخيمات ولكنها كانت إما بمبادرات عفوية أو مرتبطة بفصائل محددة ضمن إطار منظمة التحرير.
إن الأونروا منظمة تتقاطع فيها العمليات المحلية والإقليمية والدولية، وتعكس المفارقات والتناقضات والمشهد السياسي المتغير في المنطقة بقدر ما تعيد تشكيل المجتمع الفلسطيني. ليس للوكالة هوية واحدة بل هويات متعددة وهي مسرح للمصالح والسياسيات المتنوعة وأحيانا المتضاربة. لذا، ليس من المستغرب أن علاقة الأونروا بالفلسطينيين قد تذبذبت عبر العقود القليلة الماضية: فالفلسطينيون يدركون بأن إسرائيل والقوى الغربية كان لديها خطط إبان عقد الخمسينيات لدمجهم في المنطقة العربية من خلال مشاريع اقتصادية كبرى تنفذها الأونروا على أمل أن يُسلِّم اللاجئون بنزوحهم وتجريدهم من ملكياتهم. وفي الواقع هناك تناقض متأصل في العلاقة بين الأونروا واللاجئين، إذ إن تاريخ الأونروا يبدأ بعد النزوح حينما جرى تحويل الفلسطينيين إلى “لاجئين،” ومهمتها “الإنسانية” قائمة على وجود “المستفيدين.” وبالنسبة للاجئين الفلسطينيين، فإن تاريخهم يبدأ قبل نكبتهم، أي قبل عام 1948 في قراهم وبلداتهم الأصلية، وهم يؤكدون على هوياتهم السياسية. ومع ذلك، فإن الفلسطينيين يدركون أهمية الأونروا كرمز لحقوقهم السياسية والقانونية، وكمصدر رئيسي للرزق في أماكن مثل لبنان وغزة، ورغم الشكوك حول سياساتها وبرامجها، فإنهم يعارضون بحزم حلها حتى يحصلوا على حقوقهم.
ما فتئت الاتهامات تستهدف وكالة الأونروا ليس من جانب الفلسطينيين وحسب بل من الإسرائيليين والقوى الغربية. فقد قطعت كندا مؤخرا تمويلها عن الوكالة، في حين أن العديد من المسؤولين في الولايات المتحدة يتهمونها بدعم “منظمات إرهابية.” أما إسرائيل فتوجه اتهامات مماثلة وتقوم كذلك بقصف موظفي الأونروا ومبانيها، بما في ذلك طواقمها الطبية ومدارسها. وفي أثناء زيارتي لمقر الأونروا في عَمان في شهر تموز/ يوليو الماضي، أشارت بيث كتاب، مديرة برنامج الإغاثة والخدمات الاجتماعية في الوكالة إلى أن الأونروا من أكثر المنظمات الإنسانية الخاضعة للتمحيص والتدقيق في العالم. إن الموقف الذي تتبناه إسرائيل ومناصروها يُحمّل الأونروا ذنب صلتها (“بالإرهاب”) ويتوجب على المسؤولين في الوكالة أن “يثبتوا” على الدوام براءة الأونروا. إن موقف إسرائيل الماكر تجاه الوكالة واتهاماتها التي تتردد أصداؤها في تصريحات المسؤولين في الدول الغربية بوجود صلات للأونروا “بالإرهاب،” إنما يبين المحاولات التي لا تلين والتي يقوم بها المعسكر المؤيد لإسرائيل على الدوام من أجل تخفيض ولاية وكالة الأونروا أو إعادة توجيهها أو تقليصها كي تناسب مصالحهم.
الخلاصة
رغم أن اللاجئين كانوا حذرين من دور الأونروا وسبب وجودها عند تأسيسها، فإنهم وبفعل افتقارهم إلى جسم سياسي ممثل لهم يعرب عن تطلعاتهم السياسية في العودة تعاملوا مع الأونروا كحكومتهم المعنية بتحقيق رفاههم. وعند ظهور منظمة التحرير الفلسطينية، في فترة أصبحت فيها أسواق الخليج الوجهة الجاذبة للعمالة، اكتسب اللاجئون ثقة سياسية واقتصادية وبدت الأونروا أقل أهمية لبقائهم. غير أن اتفاقات أوسلو في عقد التسعينيات أحدثت أزمة وطنية وشرخا بين السلطة الوطنية والغالبية العظمى من اللاجئين. وهذا ما أعاد الأونروا إلى موقع الصدارة مجددا، حيث حافظت على أهميتها ليس كحكومة معنية بالاعاشة وإنما بوصفها حيزا يمكن للاجئين من خلاله أن يعاودا المطالبة بحقوقهم السياسية والقانونية التي تجاهلتها اتفاقات أوسلو وانتهكتها. إن وجود الأونروا يعني عدم التوصل إلى حل سياسي واستمرار قضية اللاجئين دون حل.
إن الصلات الفريدة بين اللاجئين والأونروا تتباين باختلاف البلد الذي تعمل فيه الوكالة، والسياق التاريخي، والمناخ السياسي. ومع ذلك، وخلافا للدعاية الإسرائيلية، فإن وجود الأونروا لم يشجع النضال الوطني الفلسطيني ولم يحتوه. بل تعامل الفلسطينيون مع الأونروا بطرق مختلفة كما فعلوا مع مؤسسات أخرى. وعلى مدار العقود القليلة الماضية، ضَمِنَ نضالهم عدم نجاح الوكالة في إخماد قضيتهم السياسية. وبقدر ما كان للموظفين المحليين انتشار بارز وسائد على الأرض، اكتسبت الوكالة روح الثقافة الفلسطينية في الحياة اليومية للاجئين. وهذا بالطبع لا ينطبق على شعور موظفي الأونروا المحليين وكيفية معاملتهم ضمن الوكالة مقارنة بالموظفين الدوليين، حيث يعاملهم الموظفون الدوليون في أغلب الأحيان كأنهم ” مستعمرون.”
لقد لمست في زيارتي الأخيرة إلى الأردن تغيرات تسترعي الاهتمام، وليس أقلها الطرق الكبيرة التي بنيت في السنوات الأخيرة وتقطع كل مخيمات اللاجئين تقريبا. بل كان هناك برامج “تنموية” أيضا من أبرزها برامج تقدم الدعم للأسر الراغبة في الانتقال للعيش خارج المخيمات (كمخيم البقعة على سبيل المثال). أما السؤال الذي ينبغي مناقشته هو ما إذا كانت هذه البرامج التنموية وبرامج البنية التحتية المقامة في الأردن وغيره من أماكن تواجد عمليات الأونروا ومرافقها مرتبطة بأجندات سياسية أشمل تسعى إلى إبطال قضية اللاجئين. مَن هي الجهات الفاعلة المعنية؟ وكيف اتُخذت هذه القرارات والبرامج؟ وما هي الآثار المترتبة عليها؟ ثمة حاجة للنظر في هذه المشاريع بموازاة التغيرات السياسية الأخرى، لأن الخطر المتربص هو أن تحاول إسرائيل إبرام اتفاقية “وضع نهائي” مع السلطة الفلسطينية بحيث تستطيع استخدامها في إلغاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 (3). وفي تلك الحالة، فإننا قد نسمع مجددا دعوات لحل الأونروا وتفكيك المخيمات الفلسطينية أو على الأقل تسليم مهامها إلى المؤسسات المحلية.
إن لوكالة الأونروا أهمية بالغة في ظل المناخ السياسي الراهن بالنسبة للنضال الوطني الفلسطيني وذلك للأسباب الرئيسية التالية: أولا، الوكالة طرف موقع على كافة قرارات الأمم المتحدة بما فيها قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 (3) لذا فهي ملزمة بدعم هذا القرار. وباعتبار اللاجئين مسؤولية دولية ومسؤولية تقع على عاتق الأمم المتحدة، فهم يظلون تذكيرا ماثلا بالحقوق المرتبطة بالتطهير العرقي والطرد الجماعي. وثانيا، برزت الأونروا، في ظل غياب جبهة وطنية تحتل فيها قضية اللاجئين مكانة مركزية في مشروع التحرير، كمؤسسة تحافظ على إبراز اللاجئين على الساحة الدولية، وتشير إلى أن ولايتها لا تزال قائمة. أما السبب الثالث فهو لأن الأونروا تبقى في ظل غياب مؤسسات الدولة الخازن الأوحد والأهم للذاكرة الفلسطينية التاريخية عبر ستة عقود. فقد احتفظت بسجلات اللاجئين منذ مطلع الخمسينيات وجمعت ذاكرة مؤسسية تشهد على هذا التاريخ الجمعي. ومع ذلك، فهذه الأسباب وغيرها لا تبرئ الأونروا من التلاعب بها سياسيا بيد القوى الكبرى والدول المضيفة، وهو ما يتطلب موقفا متيقظا من الفلسطينيين حيال توجهات الوكالة وسياساتها وبرامجها الحالية والمستقبلية.
- للاطلاع على تفاصيل أكثر بشأن القضايا التي أثيرها في هذه الورقة، انظر فرح، رندة ” UNRWA: Through the Eyes of its Refugee Employees in Jordan” Refugee Survey Quarterly، 2010، الصفحات 389-411، و” Refugee Camps in the Palestinian and Sahrawi National Liberation Movements: A Comparative Perspective” Journal of Palestine Studies، 2009، العدد 2، الصفحات 76-93. ↩
- يشير هذا العدد إلى عدد اللاجئين المسجلين لدى الوكالة، ولكن هناك الكثير من اللاجئين والمشردين الداخليين الفلسطينيين غير المسجلين. ↩
- للحصول على معلومات إحصائية أكثر بشأن اللاجئين، انظر الموقع الإلكتروني الرسمي لوكالة الأونروا على الرابط التالي: www.unrwa.org، أو بديل/المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين على الرابط التالي: www.badil.org ↩
- للاطلاع على مقالة جيدة في هذا الشأن، انظر B. S. Chimni, “The geopolitics of refugee studies: A view from the South”, Journal of Refugee Studies, 11(4),
1998, 350-374 ↩ - لقد تعمدت استخدام مصطلح السلطة الفلسطينية بدلا من السلطة الوطنية الفلسطينية لأن السلطة الفلسطينية لا تملك في الواقع أي سلطة قانونية لتمثيل “الأمة الوطنية” التي تشمل على سبيل المثال اللاجئين الفلسطينيين في الأردن ولبنان. لم تحظ السلطة الفلسطينية عقب توقيع اتفاقات أوسلو ولغاية الآن بمكانة الدولة ذات السيادة، وإنما تتربع على حكم ذاتي محدود على أراض مجزأة في الضفة الغربية. كما إن هناك سلطة فلسطينية منفصلة ومحدودة تقودها حركة حماس في قطاع غزة، ولكن حدودها مغلقة وتقع تحت السيطرة الإسرائيلية والمصرية. ↩
- يذكر المفوض العام للأونروا في مقدمة تقريره المقدم للجمعية العامة A/49/13 المؤرخ في 21 أيلول/ سبتمبر عام 1994: “فمع قيام السلطة الفلسطينية في قطاع غزة ومنطقة أريحا، والامتداد المنتظر للحكم الذاتي في بقية الضفة الغربية، دخلت الأونروا عهدا جديدا من علاقتها مع الشعب الفلسطيني. فبالاضافة إلى مواصلة الخدمات التي قامت بتقديمها لأكثر من 40 سنة، ستبدأ الوكالة من الآن فصاعدا عملية التحضير لتسليم مرافقها وخدماتها وبرامجها في النهاية للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.” ↩
- أُطلق برنامج إقرار السلام في تشرين الأول/ أكتوبر عام 1993. انظر الوثائق الرسمية للجمعية العامة، الدورة الخامسة والخمسون، الملحق رقم 13 (A/55/13)، وثيقة الأمم المتحدة رقم A/55/13. ↩
- تظهر تصريحات مسؤولي الأونروا استحالة “الحياد،” ففي حين كان بعضهم صريحا إزاء الانتهاكات الإسرائيلية، كالناطق الرسمي للأونروا كريس جانيس، ولا سيما إبان الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة، فإن آخرين منهم يعلنون على الملأ موقفهم الموالي لإسرائيل ومعارضتهم لحملات المقاومة الفلسطينية السلمية. انظر على سبيل المثال التصريح الذي أدلى به مدير عمليات الأونروا في غزة، جون غينغ، في ” the Jewish Week” على الرابط التالي: http://www.thejewishweek.com/features/new_york_minute/unrwa_head_dont_boycott_israel ↩
- أقامت جبهة البوليساريو الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية كدولة في المنفى ضمن المخيمات في الجزائر بتاريخ 27 شباط/ فبراير 1976. ↩