ملخص تنفيذي
فشلت المؤسسة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية منذ تأسيسها في حماية الفلسطينيين من الاحتلال العسكري الإسرائيلي وهو المصدر الرئيس لانعدام أمنهم. وبدلًا من تمكين الفلسطينيين من مقاومة هذا الاحتلال، ساهمت السلطة الفلسطينية في تجريم النضال الفلسطيني من أجل الحرية.
- تعود هذه الدينامية إلى اتفاقات أوسلو لعام 1993، ولكنها اشتدت في العقد الماضي بتطور السلطة الفلسطينية إلى "دولة" تحركها الجهات المانحة. وقد استَحدثت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية بعد تعزز فاعليتها بسبب استثمارات المانحين الهائلة فيها وسائلَ جديدة لحماية المحتل الإسرائيلي، وأوجدت بالتالي مساحات "مؤمَّنة" يستطيع المحتل أن يتحرك بحريةٍ فيها تنفيذًا لمشروعه الاستعماري.
- يتسنى لإسرائيل بفضل تعاونها الأمني مع السلطة الفلسطينية أن تحققَ تطلعاتها الاستعمارية بينما تدَّعي سعيها لإحلال السلام. وهذا يتجلى في قيام أجهزة الأمن الفلسطينية باعتقال الفلسطينيين المشتبه فيهم المطلوبين إسرائيليًا، وقمع الاحتجاجات الفلسطينية ضد الجنود الإسرائيليين و/أو المستوطنين، وتبادل المعلومات الاستخباراتية بين الجيش الإسرائيلي وقوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية.
- سوف يكون التغيير صعبًا لأن النظام أوجدَ فئةً في المجتمع الفلسطيني تسعى للإبقاء عليه. تضم هذه الفئة عناصرَ الأمن في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتضم الفلسطينيين المتنفعين من الترتيبات المؤسسية ومن شبكة التعاون والهيمنة. ومع ذلك فإن التغيير ليس مستحيلًا.
توصيات سياساتية
يجب على السلطة الفلسطينية أن تأخذ خطواتٍ تدريجيةً، ولكن حاسمة، باتجاه تجميد التنسيق الأمني مع إسرائيل أو تعليقه، ومنها وضع حدٍ لتدخل الأجهزة الأمنية الفلسطينية في المسائل السياسية، وتخفيض المخصصات الأمنية في الموازنة السنوية، وتسريح قطاعات من جهاز الأمن وإعادة هيكلة ما يتبقى منها.
يجب على منظمات المجتمع المدني الفلسطينية أن تشكِّل تحالفات أكثر فاعلية وأن تكثف جهودها الرامية إلى محاسبة السلطة الفلسطينية على انتهاكاتها لحقوق الإنسان. ولا بد للمجتمع المدني أيضًا من التصدي لخطاب السلطة الفلسطينية الذي يُجرِّم المقاومة الفلسطينية على اعتبارها تمردًا أو عدم استقرار، ومن التدقيق في الجهات الفاعلة الخارجية، كمكتب التنسيق الأمني الأمريكي، التي تهيمن على قطاع الأمن في السلطة الفلسطينية دون مساءلة أو شفافية.
ينبغي لواضعي السياسات في الدول المانحة وللفلسطينيين الذين ييسرون تنفيذ برامج المانحين أن يتصدوا لمسألة "المعونة المؤمننة" أو "المساعدات المدفوعة أمنياً" وكيف حولت حركةَ تحررٍ إلى متعاقدٍ من الباطن مع المستعمر، وأدت إلى سلطوية واستبداد في السلطة الفلسطينية.
“التعاون” الإسرائيلي-الفلسطيني هو تسمية خاطئة، ليس فقط لأن “التنبؤ بنتيجة التعاون بين الفيل والذبابة ليس صعبًا”، كما يقول تشومسكي بفصاحته … بل لأن “التعاون” في ظل أوسلو لا يختلف في معظم الأحيان سوى قليلًا عمّا سبقه من احتلال وهيمنة. “التعاون”، في هذا السياق، هو في المقام الأول دلالة مقبولة ومُرضية دوليًا تُبهم طبيعة العلاقة الإسرائيلية الفلسطينية بدلًا من توضيحها. – جان سيلبي، 2003
أنا… أُشيد بالتنسيق الأمني المستمر بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. فهم ينسجمون على نحو لا يصدق. كانت لي اجتماعات، وكنت في الحقيقة منبهرًا وإلى حدٍ ما متفاجئًا فيها من مدى انسجامهم. فهم يعملون معًا بشكل جميل. – دونالد ترامب، 2017
لمحة عامة
فشلت المؤسسة الأمنية للسلطة الفلسطينية منذ تأسيسها في حماية الفلسطينيين من الاحتلال العسكري الإسرائيلي وهو المصدر الرئيس لانعدام أمنهم. وبدلًا من تمكين الفلسطينيين من مقاومة هذا الاحتلال، ساهمت السلطة الفلسطينية في تجريم النضال الفلسطيني من أجل الحرية. وبدلاً من الاعتراف بالمقاومة كرد فعل طبيعي على الاضطهاد الممؤسس، تصنِّف السلطةُ الفلسطينية، كما إسرائيل والمجتمع الدولي، المقاومةَ بأنها “تمرد” أو “عدم استقرار”. وهذا الخطاب، الذي يؤثِر أمنَ إسرائيل على حساب الفلسطينيين، يتماهى وخطاب “الحرب على الإرهاب،” ويجرِّم أشكال المقاومة كافة.1
تعود هذه الدينامية إلى اتفاقات أوسلو لعام 1993، ولكنها اشتدت في العقد الماضي بتطور السلطة الفلسطينية إلى “دولة” تحركها الجهات المانحة وتتبنى سياسات نيوليبرالية. وتُعد عملية إصلاح قطاع الأمن الموجهة من المانحين المحورَ الرئيسي لمشروع السلطة الفلسطينية لبناء الدولة فيما بعد العام 2007. وقد استَحدثت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية بعد تعزز فاعليتها بسبب استثمارات المانحين الهائلة فيها وسائلَ جديدة لحماية المحتل الإسرائيلي، وأوجدت بالتالي مساحات “مؤمَّنة” يستطيع المحتل أن يتحرك بحرية فيها تنفيذًا لمشروعه الاستعماري.
ما كان لهذا التطور أن يُفضي سوى إلى نتيجتين: تعاونٌ “أفضل” مع سلطة الاحتلال على نحو رسَّخ الوضع الراهن الهدام، وانتهاكٌ أكبر لأمن الفلسطينيين وحقوقهم الوطنية على يد حكومتهم وقوات أمنهم الوطنية.
يحلل هذا الموجز السياساتي تطور قوات الأمن الفلسطينية “وإصلاحها” منذ نشأة السلطة الفلسطينية، ثم يتناول التنسيق الأمني الفلسطيني-الإسرائيلي، وآثاره الضارة على قدرة الفلسطينيين على مقاومة قوات الاحتلال الإسرائيلية وكذلك على الحريات الأساسية. ويركز على قوات السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وليس على الوضع في غزة، الذي يتطلب بحثًا وتحليلاً منفصلين. ويختتم الموجز بتوصيات سياساتية من أجل إعادة صياغة عمليات قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية وإصلاح هياكلها حتى تعمل حقًا من أجل حماية شعبها.
ازدهار قوات أمن السلطة الفلسطينية
تطورت قوات أمن السلطة الفلسطينية في ثلاث مراحل: اتفاقات أوسلو (1993-1999)، والانتفاضة الثانية (2000-2006)، ومشروع السلطة الفلسطينية لبناء الدولة بعد العام 2007.
في المرحلة الأولى، انطوت اتفاقات أوسلو على مشروعين متوازيين، ولكن متضادين، هما بناء الدولة والتحرر الوطني. فقد انطوى المشروع الأول على بناء مؤسسات وبيروقراطية تشبه الدولة (سرعان ما تضخمت) تحت الاحتلال، بينما انطوى المشروع الثاني على مواصلة البرنامج الثوري الذي اعتمدته في السابق منظمة التحرير الفلسطينية من أجل تقرير المصير. وقد تجلى التوتر بين هذين المشروعين بالفعل في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي تسبب أسلوبُه في الحكم وشبكة الفساد والمحسوبية المعقدة الناتجة عنه في أن لا يكون تطور قوات أمن السلطة الفلسطينية شاملًا للكافة ولا شفافًا منذ البداية، بل كان زاخرًا بالمحسوبيات واستُخدم كأداة لمواجهة التهديدات التي فرضها مناهضو أوسلو ولتحقيق الاستقرار في صفوف السكان. وعزَّز، بدوره، اتفاقات “السلام” الوليدة. وقد وصل عدد المجندين التسعة آلاف في “قوة الشرطة” المنصوص عليها في اتفاق القاهرة لعام 1994 قرابة 50،000 عنصر أمن بحلول العام 1999.2
كان لتوسع القوى الأمنية – وكلها تتجسس على بعضها البعض، كما قال إدوارد سعيد ذات مرة – عواقبُ وخيمة على الفلسطينيين.3 فقد عززت مؤسسةُ عرفات السياسية الهياكل السلطويةَ القمعية الموجهة أمنيًا، وعطَّلت آليات المساءلة في النظام السياسي الفلسطيني. وأدى ذلك إلى ضعف الشرعية وتفاقم انعدام الأمن بالنسبة إلى الفلسطينيين. ومع نمو المؤسسة الأمنية في عدد أفرادها ومؤسساتها، ظل الفلسطينيون مفتقرين إلى الحماية، واستشرى الفساد والمحسوبية داخل القوى الأمنية. ومهدت مقاربة ’فرَّق تَسُد‘ الطريقَ لتفتيت الفلسطينيين أكثر في المستقبل.
تفوق حصة قطاع الأمن من موازنة السلطة الفلسطينية قطاعات التعليم والصحة والزراعة مجتمعة Share on Xأما في المرحلة الثانية، فقد دمّرت إسرائيلُ البنيةَ التحتية الأمنية للسلطة الفلسطينية إبان الانتفاضة الثانية لأن قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية شاركت في الانتفاضة. وأدى ذلك إلى خلق فراغ أمني ساهمت في سدِّه جهاتٌ فاعلة أخرى من خارج السلطة الفلسطينية نفسها، وترتَّب على ذلك نتائج متباينة بالنسبة إلى الفلسطينيين. فتفاقمت المنافسة بين الأطراف الفلسطينية وحدا الوضع بالمانحين الخارجيين والسلطة الفلسطينية وإسرائيل أن يهتموا أكثر بإنشاء قطاع أمني قوي ومهيمن. وفي حزيران/يونيو 2002، أعلنت السلطة الفلسطينية خطة المائة يوم للإصلاح. وفي العام 2003 طالبت خريطة الطريق “بإعادة بناء أجهزة أمن السلطة الفلسطينية وإعادة تركيز رؤيتها” على مواجهة “أولئك الضالعين في الإرهاب” وتفكيك “قوات الإرهابيين وبناهم التحتية.” وقد أُجبرت هذه القوات على مكافحة الإرهاب واعتقال المشتبه بهم، وحظر التحريض، وجمع الأسلحة غير المشروعة، وتزويد إسرائيل بقائمة أسماء المجندين في الشرطة الفلسطينية، وإطلاع الولايات المتحدة على التقدم المحرز.4
وهكذا فإن إصلاح قطاع الأمن الفلسطيني “ما يزال … عمليةً تتحكم بها أطرافٌ خارجية، ومدفوعةً بمصالح الأمن القومي الإسرائيلي والأمريكي، وتتسم بأن ملكية المجتمع الفلسطيني لها محدودة جدًا.”5 لقد قاد مجتمعُ المانحين الدوليين هذا الإصلاح في العام 2005 من خلال إنشاء بعثة الشرطة الأوروبية لتنسيق الدعم إلى الشرطة المدنية الفلسطينية (EUPOL COPPS) ومكتب التنسيق الأمني الأمريكي (USSC). واستمر هذا الوضع حتى يومنا هذا من خلال استراتيجية “سلاح شرعي واحد، قانون واحد، سلطة واحدة” التي تكفل للسلطة الفلسطينية احتكارَها القوةَ والعنف.6
أما المرحلة الثالثة فهي تهدف مشروع السلطة الفلسطينية لبناء الدولة ما بعد العام 2007، ولا سيما من خلال بعثة الشرطة الأوروبية ومكتب التنسيق الأمني الأمريكي، لإعادة تكوين أجهزة أمن السلطة الفلسطينية من خلال الوسائل الفنية بما في ذلك التدريب وشراء الأسلحة. وتهدف أيضًا إلى إعادة تكوينها سياسيًا بتقييد حركة حماس وجناحها المسلح، والحد من نفوذ المسلحين المتحالفين مع فتح من خلال الاحتواء والعفو، وتضييق الخناق على المجرمين، وتنفيذ حملات أمنية، ولا سيما في محافظات نابلس وجنين. وباتت هذه القوات تُعرف باسم قوات دايتون في إشارة إلى كيث دايتون الجنرال الأمريكي الذي قاد عملية “التحديث وإضفاء الطابع المهني” على المؤسسة العسكرية التابعة للسلطة الفلسطينية. وقد اتهمت منظماتٌ حقوقية محلية ودولية هذه القوات بعد إصلاحها بانتهاك حقوق الإنسان وقمع الحريات.
رسَّخت أحدثُ مرحلة في عملية الإصلاح طغيانَ المصالح الأمنية الإسرائيلية على المصالح الفلسطينية. فقد أدى نزعُ السلاح وتجريمه إلى إضعاف المقاومة الشعبية ضد الاحتلال، بما فيها المظاهرات والمسيرات السلمية، والدعوة ضد انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان، والنشاط الطلابي. وباتت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية تحمي أمن المحتل اليوم إلى حد كبير. وباختصار، أضحى أمنُ الفلسطينيين في خطر لأن قيادتهم تعاقدت من الباطن من أجل قمعهم. وأَحبطت خطةُ الإصلاح الأمني في مرحلة ما بعد 2007 النضالَ الوطني للشعب الفلسطيني وحركَته المقاومة وأمنَه اليومي، وأدت إلى تقويض المسيرة السياسية الفلسطينية.
التنسيقُ الأمني كهيمنة
إذا أردنا أن ندركَ حجم التنسيق الأمني، علينا أن نلاحظَ أن قطاعَ الأمن الفلسطيني يستأثرُ بنحو نصف موظفي الخدمة المدنية، وبنحو مليار دولار من موازنة السلطة الفلسطينية، ويتلقى نحو 30% من مجموع المساعدات الدولية المصروفة للفلسطينيين. وتفوق حصة قطاع الأمن من موازنة السلطة الفلسطينية قطاعات التعليم والصحة والزراعة مجتمعة. ويضم القطاع حاليًا 83,276 فرد في الضفة الغربية وقطاع غزة، بمن فيهم 312 عميدًا، 232 يتبعون للسلطة الفلسطينية و80 لحماس. وعلى سبيل المقارنة، يضم الجيش الأمريكي بأكمله 410 عمداء.7 وتبلغ نسبة أفراد الأمن لعدد السكان 1 إلى 48، وهي من الأعلى في العالم.
يحقق التعاونُ الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية أهدافَ اتفاق أوسلو المتمثلةَ في إضفاءِ الطابع المؤسسي على الترتيبات الأمنية، وإطلاقِ عمليةَ سلامٍ تخضع لرقابةٍ مُحكَمة من القطاع الأمني بهدف تمكين إسرائيل من تحقيق تطلعاتها الاستعمارية بينما تدَّعي سعيها إلى إحلال السلام. تتجلى عملية “السلام المؤمنن” أو “السلام المدفوع أمنياً” في وجوه عدة، بما فيها اعتقالُ قوات الأمن الفلسطينية الفلسطينيين المشتبه فيهم المطلوبين إسرائيليًا (كما حدث مع باسل الأعرج مؤخرًا حيث اعتقلته السلطة الفلسطينية ثم أطلقت سراحه كي تطارده القوات الإسرائيلية وتغتاله في نهاية المطاف)، وقمع الاحتجاجات الفلسطينية ضد الجنود الإسرائيليين و/أو المستوطنين، وتبادل المعلومات الاستخباراتية بين الجيش الإسرائيلي وقوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، وإدامة الباب الدوار بين السجون الإسرائيلية وسجون السلطة الفلسطينية والتي يودَع فيها الناشطون الفلسطينيون مرتين بسبب الجريمة نفسها، وعقد اجتماعات وحلقات عمل ودورات تدريبية دورية مشتركة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
على الرغم من تهديدات الرئيس الفلسطيني محمود عباس بوقف التنسيق الأمني، فإنه يصفه بأنه عقيدة “مقدسة” ويصف في خدمة “المصلحة الوطنية الفلسطينية“. غير أن أنشطة قوات الأمن الفلسطينية ومناورات عباس السياسية أدت بطبيعة الحال إلى خلق فجوة عميقة في الثقة بين الشعب الفلسطيني والسلطة الفلسطينية.
لقد أظهرت دراسات متعددة أجريت على مر السنين أن غالبية الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة (بين 60% و80%) يعارضون التنسيق الأمني مع إسرائيل. وفي استطلاع أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية آذار/مارس 2017، طالب ثلثا المستطلعين باستقالة عباس، وعبَّر 73% منهم عن اعتقادهم بأن عباس غير جاد في تهديده بتعليق التنسيق الأمني مع إسرائيل. وفي استطلاع أجرته وكالة معا الإخبارية في العام 2010، قال 78% من أفراد العينة المستطلعة إنهم يعتقدون أن قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية منخرطة في مراقبة الناس ورصد تحركاتهم والتدخل في خصوصيتهم. ووفقًا لمؤسسة تصوير فلسطين، قال 67% من العينة المستطلعة من الفلسطينيين في الضفة الغربية إنهم يشعرون أنهم يعيشون في ظل نظام غير ديمقراطي يقمع الحريات بسبب الاعتبار الأمني في المقام الأول.
سيظل التنسيق الأمني سمةً مميزة للواقع المنحرف الذي يحابي المحتل ما لم يتم التحرك - وبسرعة Share on Xتتغذى التصورات العامة السلبية حول التنسيق الأمني على التجارب المعاشة – التي لا تمر النخب فيها غالبًا – وعلى الخطاب الرسمي وما تضمنته أوراق فلسطين المسربة، كقول الجنرال الأمريكي كيث دايتون في 2009 بأن كبار قادة الجيش الإسرائيلي سألوه بخصوص قوات الأمن الفلسطينية التي كان يدربها: “كم من هؤلاء الفلسطينيين الجدد تستطيع أن تنتج؟ وكم تحتاج من الوقت لذلك؟” وقوله أيضًا بأن مسؤولًا فلسطينيًا بارزًا خَطبَ في دفعة خريجين من هؤلاء “الرجال الفلسطينيين الجدد” في الأردن، قائلاً، “أنتم لم تُرسَلوا هنا لتتعلموا كيف تحاربون إسرائيل… وإنما أرسلتم كي تتعلموا المحافظة على القانون والنظام، واحترام حقوق مواطنينا كافة، وإنفاذ سيادة القانون حتى نتمكن من العيش في أمن وسلام مع إسرائيل.” وفي 2013، قال الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز في خطاب ألقاه أمام البرلمان الأوروبي:” تشكَّلت قوة أمنية فلسطينية. أنتم والأمريكيون دربتموها. وها نحن نعمل سويًا الآن من أجل منع الإرهاب والجريمة.”
بالرغم من أن التنسيق الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية قد ترسَّخ منذ توقيع اتفاقات أوسلو، فإن الوضع الراهن ليس أمرًا مفروغًا منه، مع أن التغيير ليس سهلًا، لأن النظام أوجد فئةً في المجتمع الفلسطيني تسعى إلى الإبقاء عليه. ولا تضم هذه الفئة عناصرَ أمن في الضفة الغربية وقطاع غزة وحسب، بل تضم أيضًا الفلسطينيين المتنفعين من الترتيبات المؤسسية ومن شبكة التعاون والهيمنة. فالوضع الراهن مفيد لهم، و”الاستقرار” شعارهم، وهم ملتزمون بنهج يحابي النخبة السياسية والاقتصادية والأمنية، ولا حافز لديهم لتغيير قواعد اللعبة.
وبالتالي فإن أي محاولةٍ لوقف التنسيق الأمني سوف تسفر عن عواقب حقيقية للسلطة الفلسطينية وقيادتها. غير أن إدامة الوضع الراهن أمرٌ وبيل على غالبية الفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال الإسرائيلي والشعب الفلسطيني عمومًا. وبالنظر إلى سحق القدرة على تصحيح الأخطاء السياسية ومساءلة النخب، فإن من المرجح أن يستمر الوضع كما هو عليه. وسيظل التنسيق الأمني سمةً مميزة للواقع المنحرف الذي يحابي المحتل ما لم يتم التحرك – وبسرعة.
إعادة صياغة العقيدة والمؤسسة الأمنية للسلطة الفلسطينية
يتطلب ترسُخ وتجذُر المؤسسة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية تدخلات سياساتية على مستويات متعددة، بدءًا بتصحيح الخطاب المتحيز إلى إرساء آليات للمساءلة والمحاسبة. تقترح التوصيات التالية الموجهة إلى أصحاب المصلحة المختلفين إصلاحَ عمليات قوات الأمن الفلسطينية وهياكلها.
السلطة الفلسطينية
يجب على السلطة الفلسطينية أن تستمع إلى الشعب الفلسطيني وتحترم رغباته وتطلعاته، بما في ذلك في المجال الأمني؛ وإلا فإن فجوة الثقة والشرعية ستكبر أكثر بكثير. لم يكن ثمة نظامٌ سياسي فلسطيني شامل للكافة قط، بيد أن وجود قيادةٍ أكثر استجابة وتمثيلاً ومسؤولية سوف يضمن أنّ أمن الفلسطينيين هو محور الاهتمام، وليس أمن محتلهم ومستعمرهم. إن وجود قطاعٍ أمني حقيقي، كما يقول طارق دعنا، سوف يعني نهايةَ “التركيز على حفظ الأمن الداخلي المعروف باسم ’عقيدة دايتون‘” و”إنشاءَ برنامج يتطلب المساءلة والعدالة.”
سوف يقتضي هذا، كما يوضح هاني المصري، خطواتٍ تدريجيةً ولكن حاسمة لتجميد التنسيق الأمني أو تعليقه، ومنها وضع حدٍ لتدخل الأجهزة الأمنية الفلسطينية في المسائل السياسية، وتخفيض المخصصات الأمنية في الموازنة السنوية للسلطة الفلسطينية، وتسريح قطاعات من جهاز الأمن وإعادة هيكلة ما يتبقى منها مع التركيز على المهنية والوطنية والتحرر من المحسوبية السياسية، وإصدار تعليمات للأجهزة الأمنية بمقاومة الغارات الإسرائيلية في المنطقة (أ).
على الرغم من أن السلطة الفلسطينية لا تزال تجادل بأن الترتيبات الأمنية الحالية وتقاسم العمل يخدمان حل الدولتين، فإن الاستعمار الإسرائيلي المستمر بلا هوادة للأرض الفلسطينية يعني أن على السلطة الفلسطينية وقيادتها إعادة تقييم وظيفتهما. إن التهديد الإسرائيلي بالضم والتوسع والذي يلوح في الأفق ينبغي أن يحمل السلطة الفلسطينية على التحرك قبل أن يترسخ دورها كمتعاقد من الباطن ينفذ أعمال الاحتلال الإسرائيلي.
المجتمع المدني الفلسطيني
يجب على منظمات المجتمع المدني الفلسطينية، ولا سيما منظمات حقوق الإنسان، أن تشكل تحالفات أكثر فاعلية وأن تكثف جهودها الرامية إلى محاسبة السلطة الفلسطينية وقيادتها السياسية والأمنية على انتهاكاتها لحقوق الإنسان. وفي ظل غياب المؤسسات التي تطبق الضوابط والموازين، فإن الحاجةَ ماسةٌ إلى ممارسة الضغط الذي يتجاوز كتابة التقارير ونشرها (وإنْ كان هذا في حد ذاته عملاً مهمًا). وبعبارة أخرى، تحتاج منظمات المجتمع المدني الفلسطينية إلى تطوير تحركات عملية للتصدي لانتهاكات السلطة الفلسطينية المستمرة للحقوق.
فعل المقاومة هو واجب الشعب الفلسطيني في الأساس، ولا سيما حين لا يمثلهم ولا يمثل تطلعاتهم واضعو السياسات Share on Xيجب على هذه الجهات الفاعلة في المجتمع المدني، بما فيها المؤسسات الأكاديمية والمثقفون والمراكز الفكرية، أن يتصدوا أيضًا لخطاب السلطة الفلسطينية المعيب الذي يُجرِّم المقاومة الفلسطينية على اعتبارها تمردًا أو عدم استقرار. وينبغي أيضًا مواجهة الجهات الفاعلة الإسرائيلية والدولية التي تستخدم هذا الخطاب. ويجب على المجتمع المدني أن يحتضن المقاومة وأن يُفعِّلها ولا أن يسكت على تجريمها، وأن ينظر إليها كوسيلة شاملة للعيش تحت الاحتلال وفي المنفى. فبوسع المقاومة، باعتبارها أسلوب حياة، أن تساعد في تغيير الصورة الحالية التي ترسمها لها النخب السياسية والأمنية. وحينها تستطيع المقاومة أن تكفل استعادة القيم والأفكار الأساسية التي تمكِّن الفلسطينيين من العمل سويًا لإدراك حقوقهم.
ينبغي التدقيق في عمل الجهات الفاعلة الخارجية من جانب المجتمع المدني في فلسطين والمجتمعات المدنية في بلدان تلك الجهات، ولا سيما بعثة الشرطة الأوروبية ومكتب التنسيق الأمني الأمريكي. فلا يمكنها الاستمرار في الهيمنة على المجال الأمني دون مساءلة أو شفافية، حيث إن هذه الهيئات تساهم من خلال تعزيز سيادة القانون في سياق استبدادي في “إضفاء الطابع المهني” على الممارسات الاستبدادية من خلال (إساءة) استخدام إطار الحكم الرشيد. وإدعاء تلك الهيئات بأن ولايتها “فنية” يمكِّنها من التنصل من النتائج السياسية لعملياتها وتدخلاتها. لقد آن الأوان، بعد عقدٍ على عمل تلك الهيئات، لكي يُجرى تقييمٌ فلسطيني مستقل لها بقيادة فلسطينية، وأن يُستَخدم التقييم كآلية مساءلة لإصلاح هؤلاء “الإصلاحيين” السابقين والتقرير بشأن المضي قدمًا.
الجهات المانحة وصناعة التمويل والمانحين
وفي هذا السياق المعتمد بشدة على المساعدات والمعونة الدولية، تمتد الأولوية المعطاة إلى “الأمننة” والعسكرة لتطال مجال التنمية.8 لذا ينبغي لواضعي السياسات في الدول المانحة وللفلسطينيين الذين ييسرون تنفيذ برامج المانحين أن يتصدوا لمسألة “المعونة المؤمننة” أو “المساعدات المدفوعة أمنياً” وكيف حولت حركةَ تحرر إلى متعاقد من الباطن مع المستعمر، وأسفرت عن نزعات استبدادية تؤثِر المؤسسة الأمنية على قطاعات أخرى مثل الصحة والتعليم والزراعة، وعلى الديمقراطية كذلك.
وعلاوة على ذلك، فإن “أمننة” المعونة والتنمية في فلسطين لم تفشل وحسب في التصدي لمسائل الفقر والبطالة والتمكين، بل تسببت أيضًا في حالة جديدة من انعدام الأمن والشرعية. ويجب أن يعترف مخططو التنمية أن هذه الأنماط لن تنعكس أبدًا ما لم يكن الشعب هو المحرك والمرجعية الثابتة، وليس المؤسسة الأمنية.
إن هذه التحركات جميعها من واجب الشعب الفلسطيني في الأساس، ولا سيما حين لا يمثلهم ولا يمثل تطلعاتهم واضعو السياسات. وبالتالي، يتعين على المجتمع الفلسطيني أن يواجه الأدوات المستخدمة لقمع تعبئته وتنظيمه لضمان إعمال حقوقه الأساسية. تمثل مبادرة أوقفوا التنسيق الأمني الشبابية غير الفئوية التي أُطلقت في أعقاب اغتيال باسل الأعرج في آذار/مارس 2017 مثالًا لهذه التعبئة. يقول الشباب في دعوتهم للتحرك:
لقد كافح شعبنا لزمن مديد كي لا نقف ساكنين فيما تتاجر قياداتنا القمعية بمصيرنا، وحاضرنا، ومستقبلنا مقابل منافعها الشخصية، الماديّة والسياسية… عمّا قريب سنكون قد عشنا ثلاثين عاماً في كنف اتفاقيات أوسلو التي حولت ما تبقى من وطننا إلى سجون مفتوحة ربحية للاحتلال، مُدارة من قبل الانتهازيين والمتواطئين والفاسدين الذين باعوا أنفسهم ليكونوا خط الدفاع الأول عن مستعمرنا… إن نظام أوسلو لا يمثلنا. آن الأوان لكي نتحد سوية في سبيل بناء كفاحنا الجماعي من أجل تحرير فلسطين كاملة.
إذا تمكنت هذه المقاومة المنظمة من الاستمرار وقويت، فإن الضغطَ الشعبي قد يتمكن من تغيير مسار التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، مما سيجعل الفلسطينيين أكثر استعدادًا للعمل من أجل تقرير المصير وإعمال حقوق الإنسان.
- تتوفر كافة إصدارات الشبكة باللغتين العربية والانجليزية (اضغط/ي هنا لمطالعة النص بالإنجليزية). لقراءة هذا النص باللغة الفرنسية أو باللغة الإيطالية، اضغط/ي هنا أو هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.
- Brynjar Lia, Building Arafat’s Police: The Politics of International Police Assistance in the Palestinian Territories after the Oslo Agreement (London: Ithaca Press, 2007).
- إدوارد سعيد، السلام والسخط عليه: مقالات عن فلسطين وعملية السلام في الشرق الأوسط (لندن: فونتاج، 1995).
- Hussein Agha and 24352, A Framework for a Palestinian National Security Doctrine (London: Chatham House, 2005).
- Roland Friedrich and Arnold Luethold, eds. “Introduction,” Entry Points to Palestinian Security Sector Reform, Geneva Centre for the Democratic Control of Armed Forces, 2007.
- احتكار استخدام العنف في ظل الاحتلال يعني أن قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية هي الجهة الوحيدة التي يحق لها السيطرة على القطاع الأمني. ونتيجة لذلك، تتعرض الجهات الفاعلة غير الحكومية والهيئات غير المشهَّرة قانونًا وفصائل المقاومة المسلحة إلى التهميش أو التفكيك أو الاحتواء أو الدمج أو نزع السلاح أو العقاب.
- “تأمين غزة: تحديات تواجه توحيد قطاعات الأمن والقضاء الفلسطينية،” تقرير غير منشور أعده مركز جنيف للرقابة الديمقراطية على القوات المسلحة، 2016. تحليلي لهذا التقرير منشور في موقع الجزيرة وعلى شكل رسم معلوماتي أعدته مؤسسة الرؤيا الفلسطينية.
- Anne Le More, International Assistance to the Palestinians after Oslo: Political Guilt, Wasted Money (London and New York: Routledge, 2008).