مقال - استعادة تقرير المصير

هل سوف تضمن أي دولة فلسطينية، مهما كانت سيادتها، حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير؟
لمحة عامة

هل سوف تضمن أي دولة فلسطينية، مهما كانت سيادتها، حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير؟ يستعرض مستشار الشبكة لشؤون السياسات، علي أبو نعمة، في هذا الموجز، تطور مفهوم تقرير المصير، وقابلية تطبيقه على الشعب الفلسطيني، وتلاشيه التدريجي منذ عام 1991. ويرى الكاتب أن حق تقرير المصير يجب أن يعود إلى صلب النضال الفلسطيني، بل ويبين أيضاً كيف أن ممارسة الفلسطينيين لهذا الحق تتوافق والتعايش مع اليهود الإسرائيليين في نهاية المطاف‏.‏

كيف قوضت “عملية السلام” حق تقرير المصير

تصدى رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات في كلمته التي ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1974 إلى “جذر المشكلة الفلسطينية” إذ صرَّح أن “أساس المشكلة ليس خلافاً دينياً أو قومياً بين دينين أو قوميتين وليس نزاعاً على حدود بين دول متجاورة، إنه قضية شعب اغتصب وطنه وشرد من أرضه لتعيش أغلبيته في المنافي والخيام.”
ويا لها من مفارقة كيف أعادت “عملية السلام” تصوير القضية الفلسطينية تحديداً بأنها أكثر بقليل من نزاع حدودي بين إسرائيل ودولة فلسطينية مفترضة. وقد اختُزلت “جذور القضية” بدايةً في قائمة مقتضبة من “قضايا الوضع النهائي”: الحدود والمستوطنات والقدس واللاجئين، ومن ثم دُفنت تدريجياً. كما ضاع أي التزام بتقرير المصير من حيث المبدأ ومن الناحية العملية.
ورغم أن هذه القضايا قلما تُناقش على الصعيد الرسمي، فإنه قد درج منذ أمد بعيد في أوساط عملية السلام أن قضايا “الوضع النهائي” قد سويت بالفعل، وفقاً لمتطلبات إسرائيل إلى حد كبير (لقد سمعنا مراراً وتكراراً إلى حد الغثيان مقولة: “الكل يعلم كيف سيكون شكل التسوية النهائية”). وقد قبلت الولايات المتحدة ومن انتقتهم بعناية من القادة الفلسطينيين بأن “الكتل الاستيطانية” الإسرائيلية الضخمة التي تؤوي معظم المستوطنين سوف لن تبارح مكانها في الضفة الغربية.‏

وقد اعتمدت الصيغة نفسها بالنسبة للقدس، فوفقا لما يُسمى معايير كلينتون: سوف تحصل إسرائيل على “الأحياء اليهودية” في حين تحصل الدولة الفلسطينية على “الأحياء العربية”. أما ما يعنيه هذا في الواقع العملي فهو أن إسرائيل ستحتفظ بكل ما ضمته إلى كيانها بصورة غير شرعية واستعمرته منذ عام 1967، وربما سيحصل الفلسطينيون على شكل ما من أشكال الحكم الذاتي على ما تبقى من أرض – تلك الأرض الآخذة بالانحسار يومياً جراء تصعيد إسرائيل جهودها بقوة من أجل تهويد القدس الشرقية. وفي حين أن كل ما يقع شرق حدود عام 1967 هو قابل للقسمة و“متنازع عليه”، فإن ذلك لا ينطبق على ما يقع إلى الغرب منها. فلن يحق للفلسطينيين، على سبيل المثال، المطالبة بعودة أحيائهم في القدس الغربية التي طهرتها إسرائيل عرقياً واستعمرتها في عام 1948. وفي الواقع، خلقت “عملية السلام” حافزاً لإسرائيل لتسريع استعمارها للقدس الشرقية لأن إسرائيل تدرك جيداً بأن ما سيتبقى دون استعمار سوف يشكل السقف الجديد ‏للمطالب الفلسطينية التي ستدعمها الولايات المتحدة وغيرها من رعاة عملية السلام.‏

وبالمثل، فإن قضية اللاجئين قد “سويت” فعلياً. فقد كشف كبير المفاوضين المعين من السلطة الفلسطينية صائب عريقات في ورقة نشرها في كانون الأول/ديسمبر الماضي أن زعيم حركة فتح ورئيس السلطة الفلسطينية المنتهي ولايته محمود عباس قد اقترح على إسرائيل بأن لا يعود أكثر من 15,000 لاجئ فلسطيني كل عام على مدى عشرة أعوام إلى أراضيهم الأصلية الواقعة فيما بات يُعرف الآن بإسرائيل.ووفقاً لعريقات، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود اولمرت قد عرض بالمقابل عودة 1,000 لاجئ كل عام على مدى خمسة أعوام. وبعبارة أخرى، اتفق الطرفان بالفعل على إلغاء الحقوق الأساسية لملايين اللاجئين الفلسطينيين، وكانت مساومتهم فقط بشأن الفرق بين 5,000 و 150,000 لاجئ، أي ما يعادل أقل من ثلاثة في المئة من اللاجئين الفلسطينيين المسجلين للحصول على خدمات الأونروا (وكالة الأمم المتحدة لاغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى).‏ 1

إذن، ما الذي تبقى للتفاوض بشأنه؟ يلخص كميل منصور في موجزه بشأن السياسات القضايا العالقة بدقة – كما تُرى في إطار عملية السلام – الحدود النهائية ومقومات السيادة للدولة الفلسطينية. ويشكك منصور في إمكانية أن تُسفر المفاوضات في ظل الظروف الراهنة عن معاهدة سلام تلبي “متطلبات السيادة الفلسطينية.”‏

فلنفترض جدلاً أن إسرائيل وافقت على قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة بما يُرضي المواقف الفلسطينية الرسمية وينشئ دولة لها سيادة كسيادة أي دولة أخرى. فإن السؤال الذي يطرح نفسه حينئذ هو: هل تؤمِّن هذه الدولة ذات السيادة حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني؟ هل تُعيد لهم حقوقهم الأساسية وتكفلها؟ فكما سيورد النقاش أدناه، فإن الجواب هو بالتأكيد لا. وهذا يؤكد الحاجة للتفريق بين الهدف المحدود المتمثل في الحصول على السيادة وبين الهدف المتمثل في تقرير المصير.‏

تمارس الدول سيادتها من خلال أداء مهام متفق عليها تشمل السيطرة الفعلية على الأرض والحدود والموارد والحفاظ على استقلالها السياسي. أما حق تقرير المصير فيمارسه الشعب القاطن في أرض ما بصورة شرعية. وقد ينجم عن تقرير المصير دولة ذات سيادة، ولكن ليس ذلك بالضرورة. ويجب أن يعي المرء هذا الاختلاف وأن يدرك بأن حق تقرير المصير لا يزال في صميم النضال الفلسطيني.‏

فهم مبدأ تقرير المصير

برز مبدأ تقرير المصير بحلته الراهنة كما عبر عنه رئيس الولايات المتحدة وودرو ويلسون في نهاية الحرب العالمية الأولى، إذ قال: “إن تسوية كل المسائل سواء المتعلقة بالسيادة، أم بالأرض، أم بالترتيبات الاقتصادية، أم بالعلاقات السياسية” يجب أن تتم “على أساس قبول المعنيين مباشرة بتلك التسوية قبولاً حراً، وليس على أساس المنفعة أو المصلحة المادية لأي أمة أخرى ترغب في التوصل إلى تسوية مختلفة تخدم نفوذها الخارجي أو تعزز هيمنتها.”‏2

وببساطة، ما عاد بالإمكان تنقيل الأراضي والشعوب بين الإمبراطوريات والممالك كأحجار الشطرنج. فأي ترتيبات سياسية – ولا سيما في المناطق التي تمر بمرحلة إنهاء الاستعمار – وجب أن تحظى بالموافقة الحرة لأولئك الذين سيعيشون بموجبها. وما لبث هذا المبدأ حتى انتُهك فعلياً في العديد من الحالات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، وبخاصة في فلسطين. ومع ذلك، فقد شهد تقدماً ونصت عليه في وقت لاحق المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة وغيره من الصكوك، كما اكتسب أهمية بارزة في فترة إنهاء الاستعمار التالية للحرب العالمية الثانية.‏

يقدم أستاذ الفلسفة في جامعة نورث إلينوي، توميس كابيتان، الذي سبق وأن درس كذلك في جامعة بيرزيت، ملخصاً ممتازاً لتاريخ هذا المبدأ وتطبيقه. فهو يجادل على نحو مقنع بأن حق تقرير المصير، نظرياً وعملياً، هو حق لا يخص المجموعات القومية بوصفها مجموعات قومية، وإنما يخص السكان الشرعيين في الإقليم الذي لم يُسوى وضعه (لأنه كان مستعمراً في السابق، على سبيل المثال، أو لأنه غير خاضع لسيادة) أو الإقليم المعرض للخطر بسبب الإخفاق المستمر لصاحب السيادة الراهنة في حماية هؤلاء السكان الشرعيين أو انتهاكه هو نفسه لحقوقهم الأساسية باستمرار. أما سكان الأقاليم التي توافق هذه المعايير “فيحق لهم تقرير مستقبلهم السياسي إما عن طريق تنصيب أنفسهم كوحدة سياسية مستقلة، أو الاندماج مع دولة أخرى، أو تقسيم أنفسهم إلى دويلات.”‏3

وفلسطين كما يشير كابيتان “هي الأرض الوحيدة التي أُخضعت لانتداب عصبة الأمم ولم يُمنح سكانها القائمون هذا الامتياز.”4 بل وعوضاً عن ذلك، وافقت بريطانيا العظمى، وهي الدولة المنتدبة، على تقسيم فلسطين رغم معارضة الغالبية العظمى التي يمثلها السكان العرب الأصليون، وتواطأت في بناء قوات الاستيطان الاستعماري الصهيونية القادمة من أنحاء أخرى من العالم، حيث استولت هذه القوات في نهاية المطاف وبطريق العنف على جزء كبير من أراضي فلسطين. وبتأييد الجمعية العامة للأمم المتحدة للتقسيم بالقرار رقم 181 في عام 1947، أشار ياسر عرفات في كلمته في عام 1974 إلى أن الجمعية “قسمت ما لا يجوز لها أن تقسم: أرض الوطن الواحد”، وبالتالي ساهمت في حرمان الشعب حقه في تقرير المصير. ولم تحظ فكرة القيام بأي شكل من التشاور عبر الاستفتاء العام أو غيره من العمليات الديمقراطية بأي تفكير قط.‏

واليوم، بحسب كابيتان، فإن السكان الشرعيين لفلسطين التاريخية يضمون على الأقل كافة الفلسطينيين القاطنين في أي جزء من فلسطين، وجميع اللاجئين خارجها. “ولأن الطرد لا يمحو حق الفرد في الإقامة، فإن هؤلاء الفلسطينيين يحتفظون أيضاً بحق الإقامة في تلك الأراضي التي طردوا منها.”5 وهكذا، فإن الشعب الفلسطيني يحتفظ جماعياً “بحقه في تقرير المصير في تلك المنطقة [فلسطين التاريخية]… لا بوصفهم فلسطينيين وإنما بوصفهم سكان شرعيين. أما تلك القوة التي استخدمت ضدهم فلم تطمس حقيقة أنهم وحدة ذات شرعية يحق لها المشاركة في تقرير مصيرهم، وحقيقة أنه يُعترف بكونهم كذلك أيضاً.”‏6

إن عملية السلام التي ابتدأت بمؤتمر مدريد لعام 1991 قد استثنت غالبية الفلسطينيين تدريجياً من امتلاك أي دور في تقرير مستقبل بلدهم. فمن منظور رعاة عملية السلام، يمثل “الشعب الفلسطيني” في حده الأقصى أولئك المقيمين في الضفة الغربية وقطاع غزة، بل وحتى غزة قد غدت تجد نفسها الآن مهمشة كسائر فلسطينيي الشتات. وهذا الاستثناء هو ما سمح باختزال قضية
‏إنهاء الاستعمار وتقرير المصير حتى غدت قضية أكبر بقليل من “نزاع حدودي.”‏

حق الفلسطينيين في تقرير المصير وحقوق اليهود الإسرائيليين

كيف وعلى أي أساس يمكن لممارسة الحق الفلسطيني في تقرير المصير على كامل فلسطين التاريخية أن يتوافق والتعايش في نهاية المطاف بين الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين؟ إن المفهوم القاضي بأن يحق للمجتمع المستوطن المستعمر، في ظل شروط معينة، المشاركة في تقرير المصير، لا بوصفه جماعة قومية مختلفة وإنما مجموعة من السكان شرعيين، يتفق تماماً مع القانون الدولي والحالات السابقة لإنهاء الاستعمار في بلدان أخرى بما فيها جنوب إفريقيا وناميبيا وآيرلندا الشمالية وموزامبيق.‏

لقد عارض عمر البرغوثي، وهو أحد قيادات الحملة الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (حملة المقاطعة)، بشدة الاعتراف باليهود الإسرائيليين كمجتمع قومي في فلسطين. فيقول البرغوثي محذراً: “إن الاعتراف بالحقوق القومية للمستوطنين اليهود في فلسطين لا يعني إلا قبول حقهم في تقرير المصير”.7 وهذا من شأنه، كما يقول، أن يتعارض و”رسالة المبدأ العالمي المتمثل في تقرير المصير وروحه وغايته باعتباره في المقام الأول وسيلة ‘للشعوب الواقعة تحت السيطرة الاستعمارية أو الأجنبية أو الاحتلال الأجنبي،’ لإعمال حقوقهم”. ويحذر من أن اعترافاً بهذا الشكل “قد يُفضي، في حد أقصى، إلى مطالبات بالانفصال أو السيادة ‘القومية’ اليهودية على جزء من أرض فلسطين.”
ويضيف البرغوثي بأنه ليس ثمة “حق طبيعي أو مكتسب لليهود في تقرير المصير في فلسطين يكافئ، أو حتى يماثل من الناحية الأخلاقية، حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير” حيث إن هذا سيطمس “الاختلافات الجوهرية بين حقوق السكان الأصليين غير القابلة للتصرف والحقوق المكتسبة للسكان الاستعماريين المستوطنين.”‏

ومع ذلك، يحظى اليهود الإسرائيليون بموجب صيغة كابيتان بحق المشاركة في تقرير المصير ليس بوصفهم جماعة قومية مختلفة، ولكن بقدر ما هم أو بقدر ما يصبحون سكاناً شرعيين في المنطقة. ويحدد عمر البرغوثي الشروط التي يمكن بموجبها للسكان الأصليين قبول المستوطنين المستعمرين كمواطنين متساوين يعيشون في مجتمع “خالٍ من كافة أشكال القهر الاستعماري والتمييز.” وهذا سيتطلب من مجتمع المستوطنين الاستعماري، وهم اليهود الإسرائيليون في هذه الحالة، أن يتخلى عن طابعه الاستعماري وامتيازات مستوطنيه، ويقبل “المساواة التامة،” بما في ذلك حق العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين.‏

وبوحي من ميثاق الحرية لجنوب إفريقيا واتفاق بلفاست الصادر عام 1998، وضعت مجموعة من المفكرين الفلسطينيين والإسرائيليين مجموعة مبادئ مماثلة في إعلان الدولة الواحدة الصادر عام 2007:
أرض فلسطين التاريخية هي ملك لكل من يعيش فيها، وكلّ من طُردوا أو هُجروا منها منذ 1948، بغض النظر عن الدين، أو الإثنية، أو الأصل القومي، أو الجنسية الحالية؛

يجب أن يؤسَّس أي نظام للحكم على مبدأ المساواة في الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والثقافية لجميع المواطنين. وتنبغي ممارسة السلطة بإنصاف صارم باسم الناس جميعاً، على تعدد هوياتهم؛8

وختاماً، فإن كون اليهود الإسرائيليين من السكان الشرعيين، بشرط التخلي عن طابعهم الاستعماري وامتيازاتهم، هو فكرة مستمدة مباشرة من المفهوم التقليدي للحق الفلسطيني في تقرير المصير. وعبّر عن ذلك ياسر عرفات في كلمته أمام الأمم المتحدة عام 1974 بقوله: “عندما نتحدث عن آمالنا المشتركة من أجل فلسطين الغد فنحن نشمل في تطلعاتنا كل اليهود الذين ‏يعيشون الآن في فلسطين ويقبلون العيش معنا في سلام ودون تمييز على أرض فلسطين.”‏

التركيز على تقرير المصير

إن وضع تقرير المصير مجدداً في صميم القضية الفلسطينية يحتم علينا صياغة استراتيجية تعالج حقوق جميع شرائح المجتمع الفلسطيني داخل فلسطين التاريخية وخارجها، وتضمن حقهم في المشاركة في النضال من أجل حق تقرير المصير وحقهم في جني ثماره.‏

ويتطلب ذلك وضع جدول أعمال يتصدى لمنابع الظلم الثلاثة التاريخية والراهنة، والتي هي بمثابة “جذور” الصراع. أما جدول الأعمال هذا، وكما نص عليه نداء المقاطعة الفلسطيني الصادر في 2005 والذي يحظى بتأييد واسع النطاق، فيُطالب إسرائيل بالاعتراف بحق الشعب الفلسطيني غير القابل للتصرف في تقرير المصير وتطبيق القانون الدولي من خلال:‏

  1. إنهاء احتلالها واستعمارها لكل الأراضي العربية وتفكيك الجدار [الفاصل للضفة الغربية]،
  2. الاعتراف بالحق الأساسي بالمساواة الكاملة لمواطني إسرائيل من العرب الفلسطينيين،
  3. احترام وحماية ودعم حقوق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم واستعادة ممتلكاتهم كما هو منصوص عليه في قرار اﻷمم المتحدة رقم 194.‏9

و من الواضح ان الهدف المحصور في الحصول على السيادة في دولة تضم الضفة الغربية وقطاع غزة سوف يلبي في احسن الاحوال المطلب الأول فقط، وليس بمقدوره أن يفي بالحد الأدنى من متطلبات الحق الفلسطيني في تقرير المصير. لذا، فإن الصيغة التي “يعرف الجميع” بأنها الحل – دولة على جزء من فلسطين لجزء من الشعب الفلسطيني – سوف يكون من شأنها فقط أن تفضي إلى مواصلة إنكار حق تقرير المصير بالنسبة للغالبية العظمى من الفلسطينيين مهما بلغ مقدار “سيادة” تلك الدولة.‏

ومن الممكن بالطبع، من حيث المبدأ، أن يفي حل الدولتين بالمطالب الثلاثة جميعها، بيد أن ذلك سيتطلب من إسرائيل أن تتخلى عن طابعها الصهيوني وتصبح دولة لكافة مواطنيها حيث يتمتع اليهود منهم بالحقوق الفردية والحق في حياة المجتمع والتعبير الثقافي تماماً كغيرهم من المواطنين ولكن ليس أكثر من ذلك.‏

يقدم اتفاق بلفاست المبرم في عام 1998 في آيرلندا الشمالية مثالاً على “الحل القائم على دولتين”. فقد حافظ الاتفاق على وجود ولايتين منفصلتين في جزيرة آيرلندا وهما آيرلندا الشمالية وجمهورية آيرلندا، غير أنهما ملتزمتان بموجب الدستور والمعاهدة والقانون الأوروبي بأن تظلا دولة لكافة مواطنيها. وما عادت آيرلندا الشمالية، كما كانت لزمن طويل، “دولة بروتستانتية لشعب بروتستانتي.” فقد سعى جوهر عملية السلام، في الواقع، إلى تفكيك مؤسسات الدولة ورموزها وقوانينها وممارساتها التي نصت على مواطنة من الدرجة الثانية للآيرلنديين القوميين الكاثوليك، وإلى استبدالها بآليات قوية من أجل معالجة الخلل التاريخي من حيث النفوذ السياسي والثقافي والحصول على فرص العمل والمساكن وغير ذلك من الموارد.‏

وفي الوقت نفسه، لا تمتلك آيرلندا الشمالية “حقاً طبيعياَ في الوجود” كولاية منفصلة. فإذا صوتت أغلبية بسيطة من الناس الذين يعيشون في آيرلندا الشمالية من أجل آيرلندا موحدة، فإن اتفاق بلفاست يُلزم حكومة المملكة المتحدة والحكومة الآيرلندية بتنفيذ هذه الرغبة. وبهذا فإن الوحدويين البروتستانت – المنحدرين من أصول المستوطنين الذين قدموا من إنجلترا واسكتلندا في القرن السابع عشر – لم يحظوا بالحق في تقرير المصير كمجموعة قومية منفصلة مستقلة حتى بعد انقضاء أكثر من 300 عام.‏

أما إسرائيل، وبعد مرور 62 عاماً، فإنها لم تقترب من إرساء شرعيتها. فلا مرور الوقت ولا الإعلانات المأخوذة من القادة المتعاقبين للحركة الوطنية الفلسطينية سواء بالاحتيال أو الاستقواء عليهم أو بشرائها منهم قد حسمت قضايا قيام إسرائيل أو مطالبتها بالاعتراف بها “كدولة يهودية” تمتلك الحق في التمييز ضد الفلسطينيين. كما لم تخمد المطالب الفلسطينية بحق تقرير المصير، ولم تفتر همة الفلسطينيين عموماً في السعي من أجل إعمال هذا الحق.‏

إن مطالبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للفلسطينيين بقبول “حق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية،” ما هي، في الواقع، إلا اعتراف ضمني بأن المشروع الصهيوني، من دون الموافقة الفعلية للشعب الفلسطيني، لا يمكن أن يتمتع بالشرعية ولا الاستقرار أبداً. ولقد قاوم الفلسطينيون بثبات منح هذا الاعتراف لأن من شأن ذلك أن يلغي حقوقهم ويهدد بلا شك وجودهم في حد ذاته.‏

خاتمة

لم يتسن للفلسطينيين قط من قبل فرصة سانحة أكثر من الفرصة الراهنة لكي يطرحوا مطالبهم بتحقيق المساواة والعدالة بتعبيرات واضحة ذات مبدأ ورؤية وجذور راسخة في القانون الدولي وفي العديد من السوابق والمبادئ المقبولة. وثمة حاجة لبرنامجٍ مُكمِّل يتمم جهود المقاومة الصامدة على أرض الواقع – بكافة أشكالها المشروعة – والحركة العالمية المتنامية المتضامنة مع نداء المقاطعة، برنامجٍ جديرٍ بهذه الجهود والتضحيات. وينبغي أن لطاقاتنا أن تنصب على حشد الدعم لهذا البرنامج بدلاً من القلق بشأن تفصيلات لعملية مفاوضات محتضرة لا يمكن أن تُسفر عن استعادة الحقوق الفلسطينية.‏

ومتى ما تم الاعتراف بمبدأ المساواة القابع في صميم النضال الفلسطيني، فسوف يغدو من الأسهل والأكثر منطقية أن نضع تصوراً لحل ينطوي على دولة ديمقراطية واحدة تضم الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين كمواطنين متساوين، وإن يكن بوجود آليات لازمة لحماية الحقوق الثقافية الجماعية والمصالح الأخرى، وآليات صريحة وقوية ومناسبة لإنهاء الاستعمار ورد الحقوق لأصحابها والقضاء على الظلم الاجتماعي والاقتصادي الراسخ.‏

إن تركيز الجهود الفلسطينية، سواء في إطار دولة واحدة أو أكثر، ينبغي أن ينصب على إعمال حقوق كافة الفلسطينيين وتحقيق المساواة، وليس على مفاوضات أبدية تساهم في تقويض تلك الحقوق والمساواة على حد سواء.‏

  1. علي أبو نعمة “PLO paper reveals leadership bereft of strategy, legitimacy”، الانتفاضة الإلكترونية، 11 آذار/مارس 2010 (http://electronicintifada.net/v2/article11126.shtml)
  2. يرد الاقتباس باللغة الإنجليزية في الفصل الذي أعده توميس كابيتان “Self-Determination” في كتابه مع رجاء الحلواني والمعنون “The Israeli-Palestinian Conflict: Philosophical Essays on Self-Determination, Terrorism and the One-State Solution “، (Palgrave Macmillan, 2008)، الصفحات 13-71.
  3. المرجع نفسه، صفحة 27.‏
  4. المرجع نفسه، صفحة 58.‏
  5. المرجع نفسه، صفحة 59.‏
  6. المرجع نفسه، صفحة 58.‏
  7. عمر البرغوثي “Re-imagining Palestine: self-determination, ethical decolonization and equality”، Znet، 29 تموز/يوليو 2009 (http://www.zcommunications.org/re-imagining-palestine-by-omar-barghouti)
  8. “إعلان الدولة الواحدة،” الانتفاضة الإلكترونية، 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2007 (http://electronicintifada.net/v2/article9134.shtml)
  9. “النداء الفلسطيني لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها،” نداء المقاطعة، 9 تموز/يوليو 2005 (http://www.pacbi.org/etemplate.php?id=66).
علي أبو نعمة هو مؤلف كتاب "One Country: A Bold Proposal to End the Israeli Palestinian Impasse" (2006) وأحد مؤسسي موقع الانتفاضة الالكترونية ذائع الصيت...

أحدث المنشورات

 السياسة
تكشفُ تغطيةُ وسائل الإعلام الرئيسية في الغرب لمجريات الإبادة الجماعية في غزة تحيزَها الشديد للنظام الإسرائيلي، وتُبرزُ أيضًا سهولةَ نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين. تتناول يارا هواري في هذا التعقيب استراتيجيةَ إسرائيل في نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين في المجال العام، ودور وسائل الإعلام الغربية في تحقيق أهداف إسرائيل. وتبين أنماطَ التقصير الصحفي المستمرة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وتخلُص إلى أنّ وسائل الإعلام الغربية متواطئة حتمًا في الإبادة الجماعية التي يرتكبها النظام الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في غزة.
Al-Shabaka Yara Hawari
يارا هواري· 03 أبريل 2024
لعبت كل من مصر والأردن عبر التاريخ أدواراً جيوسياسية مهمة في القضية الفلسطينية، حيث شكلت حدودهم مع قطاع غزة والضفة الغربية على التوالي المنفس الوحيد للعمق العربي وخاصة بعد حرب 1967. تزايدت وتضاءلت نفاذية هذه الحدود مع اختلاف الحكومات والظروف في المنطقة، لكن يمككنا الجزم أن مع مرور الزمن أصبحت هذه الحدود بشكل تدريجي جزءاً من الحصار على الشعب الفلسطيني وأداة ضغط على الفلسطينيين.
تعكف المصادر الإسرائيلية الرسمية على تضليل العالم إعلاميًا على نطاق واسع لتبرير الإبادة الجماعية التي ترتكبها في غزة. وقد أجَّجَ الصحفيون ومحللو استخبارات المصادر المفتوحة الحملةَ المسعورة لشيطنة الفلسطينيين بنشرهم الأنباء الكاذبة دون تدقيقها كما ينبغي. يتناول طارق كيني الشوا، في هذا الموجز السياساتي، أساليبَ الحرب الإعلامية الإسرائيلية، ويبيِّن كيف أسهمت هذه الجهود في تآكل الحقيقة وإعاقة الجهود الرامية إلى تنظيم استجابة عالمية. ويقدم توصيات للصحفيين والمحللين وعامة الجمهور للاستفادة من الأدوات مفتوحة المصدر لدحض الدعاية الإسرائيلية والمعلومات المضللة السائدة.
Skip to content