المواضيع
طالعوا تحليلاتنا بخصوص المجتمع المدني وسُبله في رسم ملامح المشهد الثقافي والسياسي والسياساتي.
طالعوا استشرافاتنا بخصوص تغيرات المشهد السياسي وتداعياتها على فلسطين
استزيدوا معرفةً بالسياسات والممارسات التي تحدد شكل الاقتصاد الفلسطيني
تعرَّفوا أكثر على الأوضاع الفريدة التي يعيشها اللاجئون الفلسطينيون في الشرق الأوسط
التحليلات
تحليلات متعمقة للسياسات الحالية أو المتوقعة التي تؤثر في إمكانيات التحرير الفلسطيني.
رؤى ووجهات نظر حول المسائل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتعلقة بفلسطين والفلسطينيين حول العالم.
تحليلات موجزة لسياسات محددة وخلفياتها وآثارها.
تعقيبات تضم رؤى متنوعة من محللين متعددين.
تجميعات لأعمال سابقة أنجزتها الشبكة حول موضوع محدد.
مشاريع مطوَّلة ومخصصة تسعى إلى الإجابة عن أسئلة بحثية تقع خارج نطاق تحليلاتنا المعتادة.
مبادرة بحثية معنية بالسياسات أطلقتها الشبكة: شبكة السياسات الفلسطينية.
سلسلة ندوات شهرية عبر الإنترنت تجمع خبراء فلسطينيين.
متميز
اشتركوا في نشرة الشبكة البريدية الآن لتصلكم أحدث التحليلات السياساتية الفلسطينية على بريدكم الإلكتروني:
القضايا الصعبة أمام حركة المقاطعة المتنامية
مقدمة
تصدَّرت الهجمات الإسرائيلية على حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (المعروفة عالمياً باسم BDS) وعلى غيرها من المدافعين عن حقوق الإنسان في ظل الاحتلال، كموظفي مؤسسة الحق، عناوينَ الأخبار في الأسابيع الأخيرة، واشتملت على تهديدات مباشرة وجهها مسؤولون إسرائيليون لناشطي حركة المقاطعة، ولا سيما لأحد مؤسسيها عمر البرغوثي.1
وبخلاف ما حملت العناوين، فإن الحركة تستمر في جهودها، كما يستمر الحوار والنقاش بشأن تعزيز الحركة في أوساط الفلسطينيين في الداخل والخارج وفي أوساط ناشطي التضامن العالمي. وهناك الكثير من القضايا التي تستدعي المناقشة، وبعضها شائك وصعب كمسألة التأطير. وقد ناقشت المديرة العامة للشبكة نادية حجاب بعض هذه القضايا في حوار واسع مع عمر البرغوثي.
قبل أن يستهل عمرُ حديثَه أوضحَ أن جميع الآراء التي سيعبِّر عنها هي آراؤه وحده، ولا تعبِّر بالضرورة عن وجهات نظر حركة المقاطعة أو قيادتها الفلسطينية، أي اللجنة الوطنية الفلسطينية للمقاطعة.
أشكرك، عمر، على إتاحة الوقت لنا في هذه المرحلة العصيبة بالنسبة للحركة وبالنسبة لك شخصيا. أهداف حركة المقاطعة – تقرير المصير، والتحرر من الاحتلال، والمساواة للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، وحق العودة – تستوعب الحقوق الفلسطينية التي كفلها القانون الدولي. ولكننا مدركون أن حركة المقاطعة لن تحرز الحقوق الفلسطينيةبمفردها. فما هي الحركات الأخرى اللازمة، وما هي توليفة الاستراتيجيات الضرورية؟
تُعتبر المقاطعة تاريخيًا من استراتيجيات المقاومة الشعبية الرئيسية المتاحة للفلسطينيين على اختلاف مشاربهم، أمّا اليوم فقد صارت حركة المقاطعة في إطار التضامن الدولي الشكلَ الاستراتيجي الأهم لدعم كفاحنا من أجل تقرير المصير.
لم تزعم حركة المقاطعة قط أنها الاستراتيجية الوحيدة المتاحة لإحراز الحقوق الفلسطينية كاملةً بموجب القانون الدولي. ولا يمكن لأحدٍ أن يتوقع منها أن تحرز الحقوق الفلسطينية بمفردها. بل ثمة استراتيجيات أخرى كالمقاومة الشعبية المحلية ضد الجدار والمستعمرات وكذلك الاستراتيجيات القانونية لمحاسبة إسرائيل وقادتها عن الجرائم التي يرتكبونها بحق الشعب الفلسطيني.
وفي الواقع، هناك من بين الاستراتيجيات الأكثر تأثيرًا المتاحة لنا استراتيجيةٌ بالكاد نوظّفها، ألا وهي العمل الدبلوماسي والسياسي مع البرلمانات والحكومات حول العالم من أجل عزل نظام الاحتلال والاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري (الأبارتهايد) الإسرائيلي، وفرض عقوباتٍ عليه على شاكلة العقوبات التي طُبقت على نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. ويُعزى التقصير في استغلال هذه الاستراتيجية إلى أن المستوى الرسمي الفلسطيني، المتواطئ والمفتقر إلى تفويض ديمقراطي ومبادئ ورؤية، يحول دون السير الفعّال في هذا الاتجاه.
يشكّل الفلسطينيون في المنفى عنصراً مهماً جدًا في المقاومة الفلسطينية لنظام إسرائيل الاستعماري، لأنهم يمثلون نصف الشعب الفلسطيني. ونحن لا نتحدث عن اللاجئين وحسب – وهم الأجدر بالاعتبار طبعًا – بل كذلك عن الفلسطينيين من أمثال الناشطين في حملة “عدالة–نيويورك”، وفروع حركة “طلاب من أجل العدالة في فلسطين”، والحركات الاجتماعية في المملكة المتحدة وتشيلي وما يوازيها في الجاليات الفلسطينية في المنفى حول العالم، مثل التحركات المرتبطة بالمقاطعة، والتي تضطلع بدورٍ رائد في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية.
وغالبًا ما يُنسى المواطنون الفلسطينيون في أراضي العام 1948 (حملة الجنسية الإسرائيلية) عند الحديث عن المقاومة الفلسطينية، رغم دورهم الحاسم في الصمود أمام النظام الصهيوني الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي، وفي مقاومتهم الشعبية والأكاديمية والثقافية والقانونية والسياسية النشطة ضد النظام وهياكله وسياساته العنصرية الممأسسة والمقننة.
ومع ذلك يزعم بعض الفلسطينيين في المنفى أنهم غير مستعدين لدعم المقاطعة لأن “الفلسطيني لا يتضامن مع شعبه.”
لقد تلاشى الخطاب السياسي الفلسطيني التقليدي الذي شهدته حقبة الستينات والسبعينات والثمانينات إلى حد كبير. وفي حين ظلت حركة التحرر الوطني في جنوب أفريقيا نشطةً حتى اللحظة الأخيرة، فإننا للأسف فقدنا الكثير من مكونات حركة التحرر الوطني الفلسطينية بسبب اتفاقات أوسلو في المقام الأول. فقد تخلت القيادة الفلسطينية، بتأييدٍ صريح أو ضمني من معظم الأحزاب السياسية الفلسطينية، عن الحقوق الفلسطينية الأساسية، وقبلت إملاءات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي – بالنيابة عن إسرائيل — بأن تتكيف مع معظم أوجه نظام الاضطهاد الاستعماري الإسرائيلي.
يعيش الشعب الفلسطيني في الوقت الحاضر حالةً من الضياع والفوضى. فلم يعد هناك “إجماع وطني” فلسطيني يُذكر، إنْ اعتبرنا أنه كان موجودًا أصلًا. وحتى الأحزاب السياسية الفلسطينية، اليمينة واليسارية، الإسلامية والعلمانية، دون استثناءٍ تقريبًا، باتت تتحدث عن “الاستقلال” وليس عن التحرر الوطني، وتتناسى اللاجئين في معظم الأحيان، ودائمًا تُسقِط فلسطينيي 48 من تعريف الشعب الفلسطيني.
إن تقرير مستقبل الشعب الفلسطيني وحل هذا الصراع الاستعماري أمرٌ يرجع إلى الشعب الفلسطيني بأكمله. وفي غضون ذلك، يجب على كل فلسطيني فردًا أو جماعةً أو ائتلافًا أن يسعى لتقويض الاضطهاد الذي يمارسه النظام الإسرائيلي، كشرطٍ أساسي لإحراز الحقوق الفلسطينية بموجب القانون الدولي. وقد ارتأينا في حركة المقاطعة أن نطور شكلًا واحدًا تليدًا من المقاومة الفلسطينية مقترنًا بالشكل الأكثر فاعلية من التضامن الدولي الشعبي، على أساس الحقوق وليس الحلول السياسية.
تُقر حركة المقاطعة، بالطبع، بوجود استراتيجيات ومقاربات أخرى، وكل ما نقوله هو أننا اخترنا التركيز على الحقوق، وليس الحلول، لأن أي حل سياسي – تقرره غالبية الفلسطينيين حيثما كانوا – يشترط لكي يكون عادلًا وشاملًا ومستدامًا أن يستوعب حقوقنا كما كفلها القانون الدولي. ولكي يكون الحل فاعلا عليه أن يحظى بشبه إجماع فلسطيني، وعلينا لتحقيق ذلك أن نتمسك بالقاسم المشترك الأدنى، الأسمى استراتيجيًا والأكثر استنادًا إلى المبادئ، وبأهداف الشعب الفلسطيني الأهم والأقل خلافيةً التي لا يكاد أي فلسطيني أن يعترض عليها، وهي: إنهاء احتلال الأراضي المحتلة عام 1967، وإنهاء نظام الفصل العنصري، وإعمال حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاتهم التي طُردوا منها إبان النكبة وبعدها في سياق التطهير العرقي. ونحن متمسكون بهذه الحقوق دون تهاون.
كفلت لنا هذه المقاربة دعمًا كبيرًا في أوساط شعبنا. وقد نظَّمت اللجنة الوطنية للمقاطعة مؤخرًا مسيرةً كبيرة نسبيًا في رام الله تعبيرًا عن التأييد الشعبي الفلسطيني لحركة المقاطعة. وأنا شخصيًا لا أرى هذا النوع من تعبئة الشارع كمؤشرٍ حاسم للتأييد الشعبي، ولكن زملائي أصروا على حاجتنا لتنظيم المسيرة لإظهار شعبية حركة المقاطعة للعالم. احتشد في المسيرة ما يزيد على 2000 شخص، وعددٌ من المتحدثين من الأحزاب السياسية والحركات الشعبية والنقابات، وجميعهم أعربوا عن تأييدهم القوي للمقاطعة. ومن نتائج هذا الحشد أنه بدَّد التصور السائد في بعض الأوساط المحلية بأن المقاطعة “نخبوية”.
هناك مَن لا يريد دعم حركة المقاطعة غير العنيفة لأنها “أدنى من سقفه السياسي”. ومن وجهة نظري أن الحالة الثورية لا تعني رفع شعارات “ثورية” لا تقبل التطبيق وليس لها إلا فرصة ضئيلة في المساهمة في العمليات الرامية إلى إنهاء واقع الاضطهاد والقمع. الثورية الحقّة هي أن ترفع شعارًا مستندًا إلى مبادئ ومتسقًا أخلاقيًا يفضي إلى أفعال على أرض الواقع يمكنها أن تؤدي إلى تغيير حقيقي باتجاه إحقاق العدالة والتحرر، وما سوى ذلك هو فلسفة فارغة.
ومع ذلك، فإن طريقة عرض حركة المقاطعة أحيانًا تجعلها تبدو كما لو كانت قادرةً بمفردها على إحراز الحقوق الفلسطينية. وما يعطي هذا الانطباع، سواء عن قصد أم عن غير قصد، هو الإشارات المتكررة إلى حالة جنوب أفريقيا.
نقارن نحن الفلسطينيون استراتيجياتنا وتقدمنا دائمًا بحركة التحرر في جنوب أفريقيا وبغيرها من الحركات المناضلة في سبيل العدالة وتقرير المصير وحقوق الإنسان – ونحن نعلم أننا نفتقر إلى ركائزَ أساسية كانت حاسمةً في نجاح هؤلاء.
في جنوب أفريقيا، على سبيل المثال، حدَّد المناضلون بقيادة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي أربعَ ركائز استراتيجية للنضال من أجل إنهاء الفصل العنصري، وهي: التعبئة الجماهيرية، والمقاومة المسلحة، والحركة السياسية السرية، والتضامن الدولي (ولا سيما من خلال المقاطعة وفرض العقوبات). لا توجد استراتيجية يمكن استنساخها بحذافيرها من أجل التحرر وحقوق الإنسان، فكل تجربة استعمارية مختلفة ولها خصوصيتها. ونحن ما برحنا نعمل على تطوير استراتيجياتنا الفلسطينية الخاصة التي تناسب بيئة نضالنا من أجل العدالة والكرامة.
وفي سياق النضال الفلسطيني، تقتصر ركيزة الحركة السرية على غزة لأنها معزولة. ينص القانون الدولي على حق الشعوب الخاضعة لاحتلال أجنبي في مقاومته بكل الوسائل، بما فيها المقاومة المسلحة طالما التزمت هذه المقاومة بالقانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان. ونحن ملزمون كمدافعين عن حقوق الإنسان بالنظر في تكلفة هذه الركيزة ومنفعتها في هذه المرحلة وبحساب الثمن البشري لأشكال المقاومة.
أما بالنسبة للتعبئة الجماهيرية، فإن ما بوسعنا فعله في الأرض الفلسطينية المحتلة من حيث المقاومة الشعبية، ضد الجدار مثلا، محدودٌ نوعًا ما. ولا يُعدّ حركةً جماهيرية بحق كما كان مثلاً إضرابُ المعلمين الأخير، والإضرابات ضد الليبرالية الجديدة التي انتهجتها حكومة سلام فياض، والاحتجاجات على قانون الضمان الاجتماعي الظالم.
إن فاعلية أشكال المقاومة المختلفة هي مسألة أساسية، ونحن في حركة المقاطعة نتحرى في كل مرحلة فاعليةَ استراتيجياتنا اللاعنفية الدولية الملتزمة بالقانون.
ثمة شاغلٌ آخر وهو أن جزءًا من خطاب حركة المقاطعة يوحي بأن الفلسطينيين باتوا على وشك إحراز حقوقهم. وهذا لا يتجلى في الإشارات المتكررة إلى “اللحظة الجنوب أفريقية” وحسب، بل أيضًا في التصريحات القائلة إننا وصلنا “نقطة تحول”.
نعم، ولكن حين نتحدث عن نقطة تحول، فإننا نعني نقطة تحول من حيث الركيزة الأساسية المتمثلة في العزلة الدولية فقط. ومقياس الفاعلية هو تحقيق الأهداف من عدمه. فالمقاطعة واحدةٌ من استراتيجيات المقاومة الداخلية وهي أيضًا الاستراتيجية الأهم دوليًا. ولم ندِّعِ يومًا خلافَ ذلك. فلماذا، إذن، نُحمِّل حركة المقاطعة المسؤولية، مثلاً، عن عجز الشعب الفلسطيني عن تحقيق أهدافه المتمثلة في تقرير المصير والتحرر الوطني؟ فليعطونا على الأقل الاعتبار لكوننا واقعيين.
هناك انتقادات كثيرة ومتزايدة لإطار عمل القانون الدولي. فهل يشكِّل ذلك مشكلةً بالنسبة لحركة المقاطعة لأنها تستند إلى القانون الدولي؟
لكي نضمن الفاعلية في حشد الضغط الدولي من أصحاب الضمائر الحية من جماعات وأفراد ضد نظام الاضطهاد والقمع الإسرائيلي، ولكي نكون متسقين أخلاقيًا، علينا أن نتبنى مبادئ حقوق الإنسان العالمية قدر ما أمكن وأن نتبنى لغةً قادرةً على التأثير في الناس حول العالم وحثهم على العمل. وهذه هي لغة القانون الدولي. نحن نعرف العيوب المتأصلة في القانون الدولي بقدر ما يعرفها الآخرون. ولكننا ندرك أيضًا أن خيارنا إما القانون الدولي بعيوبه وإمّا شريعة الغاب، وهذه الأخيرة ليست لصالحنا، لا من حيث المبدأ ولا عمليًا، لأننا إلى الآن الطرف الأضعف ماديًا.
نحن لا نريد خطابًا رمزيًا، فقد سئمنا وتعبنا من التأييد الخطابي. نحن بحاجة إلى تحركٍ استراتيجي فاعل لديه فرصة في تقويض نظام الاضطهاد، بحيث يهيئ الواقع أكثر للشعب الفلسطيني لإحراز حقوقه التي نصت عليها الأمم المتحدة. وأدنى من يمكن للناس فعله هو الكفُّ عن تواطؤهم. وهذا واجبٌ قانوني وأخلاقي كبير من أجل إنهاء هذا الظلم؛ وليس صدقةً أو منَّة.
ما هي بدائل القانون الدولي؟ صحيحٌ أن الإمبراطوريات الاستعمارية هي مَن وضعه. وصحيحٌ أنه لا يُرجِّح كفة شعوب العالم، ولكنه ليس نصًا مقدسًا ولا قانونًا ثابتًا منقوشًا في الصخر. وثمة وجهة نظر مبسَّطة ترى أن القانون الدولي ليس متغيرًا، ولكن في الواقع أننا مَن يستطيع بفضل نضالنا الجماعي المستمر أن نؤثر في تفسيره وتطبيقه. ونحن لا نطلب المستحيل، بل نسعى إلى تحقيق الاتساق في تطبيق القانون الدولي على إسرائيل وإنهاء وضعها كدولة استثنائية فوق القانون. وهذا مطلبٌ بسيط ولكنه بعيد المنال ويحتاج سنواتٍ من الكفاح الاستراتيجي.
تفتقر المبادئ التوجيهية الخاصة بالتطبيع إلى الوضوح، وهذا يشكل مصدرًا للتوترات في الغالب بين الناشطين – ولا سيما الفلسطينيين الذين قد ينخرطون في أنشطة يقال إنها “تطبيعية،” ويستنكرون التشكيك في وطنيتهم.
المبادئ التوجيهية الخاصة بالتطبيع واضحةٌ جداً. وقد تبنّى المؤتمرُ الوطني الفلسطيني الأول لحركة المقاطعة الوثيقةَ المرجعية لهذه المبادئ بالإجماع في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2007. يعني التطبيع بالنسبة إلى العرب ومن ضمنهم الفلسطينيون، في هذا السياق، إظهارُ ما هو غير طبيعي بطبيعته وأصله، كالعلاقة الاستعمارية القمعية، وكأنه طبيعي بشكل مخادع ومضلّل. تطبِّق حركة المقاطعة مبدأين توجيهيين أساسيين في هذا المجال، لكي لا تُعتبَر العلاقة بين طرف فلسطيني (أو عربي) وطرف إسرائيلي تطبيعًا، يجب توفُّ شرطان: الأول هو أن يعترف الطرف الإسرائيلي بالحقوق الفلسطينية الشاملة وفقًا للقانون الدولي، والثاني هو أن تكون العلاقة نفسها بين الطرفين علاقة مقاومة مشتركة ضد الاضطهاد، وليست علاقة “تعايش” في ظل الاضطهاد.
الهدف من وراء ذلك هو الحرصُ على ألا تُضفي هذه العلاقات الشرعيةَ على انتهاكات إسرائيل لحقوق الفلسطينيين ولا أن تسترها أو تبرئها. فلنفترض، مثلًا، أن منظمةً ما في الولايات المتحدة تعكف على تنظيم مؤتمر وقد تلقت دعمًا على سبيل الرعاية من إسرائيل أو مؤسسة إسرائيلية متورطة في انتهاك حقوق الشعب الفلسطيني. ولنفترض أن المنظمة الأمريكية ترغب في إشراك متحدثين فلسطينيين لإسماع الصوت الفلسطيني. تعني المشاركةُ في هذه الحالة أننا نطبِّع الرعاية الإسرائيلية – أي أننا نطبِّع انتهاكات حقوقنا. وهذا ثمنٌ باهظ لإسماع أصواتنا، رغم أهميته، بالذات في ظل قيام وسائل الإعلام السائدة بقمع هذه الأصوات. لذا فإننا نعمل على نحو وثيق مع الشركاء للضغط من أجل إلغاء الرعاية الإسرائيلية. وإذا لم ننجح في ذلك، فإننا ندعو إلى المقاطعة.
لكن لا تزال هناك مسائل ملتبسة ورمادية، ومنها تنشأ المشاكل – ولا سيما حين يأخذ بعض الناس على عاتقهم التحدثَ باسم حركة المقاطعة وإرساءَ القانون رغم أنه لا سلطة ولا صلاحية لهم.
هناك دائمًا مسائل ملتبسة ورمادية. وأود أن أوضّح أن 90% من الحالات التي نتعامل معها هي فعلًا رمادية. وحين نواجه مسألة رمادية، فإننا نرجع، بشكل جماعي، إلى المبدأ ونبذل قصارى جهدنا لحساب الربح مقابل الخسارة. فليس المقصود بالمقاطعة أن تكون عقيدة جامدة، بل استراتيجية فاعلة تساهم في نضالنا من أجل حقوقنا.
بعض الفلسطينيين يريدون الجمع بين النقيضين. فهم يسمحون لأنفسهم بالانخراط في المشاريع والأنشطة التي تتعارض جليًا والمبادئ التوجيهية لمكافحة التطبيع المعتمدة منذ 2007 من أكبر تحالف من الأحزاب السياسية والاتحادات والشبكات في المجتمع الفلسطيني، في الوطن والشتات، ويرفضون في الوقت نفسه أي وصفٍ لتلك الأنشطة بأنها تطبيعية لأنهم ببساطة “وطنيون” و”لا ينبغي لأحد أن يشكك في وطنيتهم.” ونحن في حركة المقاطعة لا نشكك في وطنية أي شخص، ولا نصفُ أي شخصٍ بأي وصفٍ أبدًا، ولا نلجأ إلى الهجوم الشخصي، لأن ذلك يتعارض ومبادئنا كحركة. ونحن نرفض أيضًا قمعَ حرية التعبير ونرفض الوصف السطحي والضار للمتورطين في أنشطة التطبيع بأنهم “خونة”.
ينحصر عملُ اللجنةِ الوطنية الفلسطينية للمقاطعة في حشد الضغط المعنوي لفضح أنشطة التطبيع من أجل تقويض أركان التطبيع. فمن الأهمية بمكان أن نجابه أنشطة التطبيع لأنها تشكل سلاحًا أساسيًا تستخدمه إسرائيل ضد الحركة وضد النضال الفلسطيني من أجل حقوق شعبنا عمومًا.
نفعلُ أحيانًا أمورًا تُعتبر سابقةً لأوانها أو نستخدم لغةً لا تزال غير متقبَّلة. فعندما استخدمنا مصطلح الفصل العنصري (الأبارتهايد) لأول مرةٍ، مثلا، لوصف سمة أساسية لنظام القمع الإسرائيلي، وعندما أصررنا على حق العودة في خطابنا الدولي، جوبهنا بتجهم على كلا الصعيدين ليس فقط من التيار السائد بل حتى من بعض الدوائر المتضامنة مع فلسطين في الغرب. وعندما جاء في نداء الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل الصادر في 2004 أن الصهيونيةَ أيديولوجيةٌ عنصرية وركيزةٌ من ركائز نظام الاستعمار-الاستيطاني الإسرائيلي، فإن هذه القضية بالكاد كانت تُناقَش في أوساط معظم المتضامنين مع فلسطين في الغرب في فترة ما بعد أوسلو.
إن من الأهمية بمكان ألا نخلط بين مناهضة الصهيونية ومناهضة نظام الاضطهاد الاستعماري والفصل العنصري الإسرائيلي من جهة وبين العنصرية ضد اليهود من جهة أخرى، لأن الاثنين ليسا سواءً على الإطلاق. وما فتئت حركة المقاطعة ترفض قطعًا أشكال العنصرية كافة، بما فيها كراهية الإسلام والعنصرية ضد اليهود. ومن الدلائل على انفتاح حركة المقاطعة للكافة ومناهضتها العنصرية أن يكون 46% من اليهود الأمريكيين من غير الأرثوذكس تحت سن الأربعين يؤيدون المقاطعة الكاملة لإسرائيل من أجل إنهاء احتلالها وانتهاكاتها لحقوق الإنسان، وفقًا لاستطلاع أجري عام 2014.
هل لك أن تضرب مثالًا لِما تفعله الحركة حين تواجهها مسألة ملتبسة أو رمادية؟
عندما تواجهنا مسألة رمادية فإننا لا نتخذ القرارات فرادى بصفتنا أعضاء في اللجنة الوطنية للمقاطعة أو ذراعها الأكاديمي والثقافي المعروف باسم الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل، بل نرجع دائمًا إلى الجماعة لاتخاذ القرار بصورة جماعية على أساس المبادئ المتفق عليها، وليس الآراء والتحيزات الشخصية لدى كل واحدٍ منا. ونحن لا نقدم نصيحتنا ولا نرفع توصيتنا إلا بعد التوصل إلى توافق في الآراء. وإذا وصلنا إلى طريق مسدود، فإننا نقول لطالب المشورة إننا لا نملك له نصيحة واضحة. نحن نتخير معاركنا بدقة، ولا نلاحق كل شاردة وواردة، بل نتجاهل الكثير من الأهداف على أساس حساب التكلفة والمنفعة.
نحن لا نصدر “فتاوى”، بل نرفض ذلك مبدئياً، وإنما نقدم النصح والمشورة. ولا نقول أبدًا: “عليك أن تفعل كذا وكذا أو إياك أن تفعل كذا وكذا.”
نحن لا نلجأ أبدًا إلى الهجمات المشخصنة – ولم نفعل ذلك قط منذ تأسست حركة المقاطعة في 2005. نحن نهاجم المواقف والتصريحات وليس الأشخاص، ولا نؤمن بـ”القوائم السوداء” أو أي شكل من أشكال المكارثية التي تكيل الاتهامات بالتآمر والخيانة دون دليل، لأن ذلك يناقض مبادئنا، وينم عن سوء استخدام للنفوذ، ويأتي بنتائج عكسية. وأنا، شخصيًا، لم أتعاط قط مع أي شخص هاجمنا بأنْ ادعى، مثلًا، أننا “عملاء للإمبريالية” أو ما شابه ذلك من الهراء اليساري المتطرف. نحن نتخير معاركنا، كما قلت، ونبقي أعيننا على أعدائنا الحقيقيين.
عندما نتدخل لوقف نشاطٍ تطبيعي، فإن هدفنا في المقام الأول دائمًا هو إقناع من يسهم في هذه الأنشطة بوقف التطبيع. فلا يمكنك أن تهاجمه في شخصه، ومن ثم تتوقعه أن يصطف إلى جانبك. وقد بات العديد من الفلسطينيين الذين كان لهم أنشطة تطبيعية قبل 10 سنوات أنصارًا ومؤيدين لحركة المقاطعة اليوم، ويُعزى بعض الفضل في ذلك إلى أننا نتجنب تجريح الأشخاص والقدح فيهم. فذلك خطأ من حيث المبدأ وخطأ عمليًا.
عندما يكون لدى أي شخص استفسار حول موضع متعلق بالتطبيع ومعاييره، فإننا نوصي بطلب المشورة من الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل أو اللجنة الوطنية للمقاطعة أو أحد شركائنا في البلد المعني، ونسعى لحل المسألة من خلال الحوار التفاعلي. وقد بتنا نملك الآن آليات أفضل بكثير لتطبيق المبادئ التوجيهية.
هناك مسألةٌ رمادية يسوقها البعض كمثالٍ مُشكِل وهي اعتبار دخول حملةِ جوازات السفر العربية إلى إسرائيل بتأشيرة صادرة من السفارة الإسرائيلية تطبيعًا، مقابل الحصول على تصريح صادر من الإسرائيليين بناءً على طلب من السلطة الفلسطينية وهو ما لا يعتبر تطبيعًا. فالناس لا يدركون الفرق لأن إسرائيل تصدر الاثنين.
هذه مسألة معضلة بالفعل. ولقد خلصنا، بعد مناقشات مستفيضة ولقاءات مجتمعية وحوارات مع فنانين فلسطينيين ومنظمات ثقافية، إلى أن حامل جواز السفر العربي حين يحصل على تأشيرةٍ (فيزا) إسرائيلية فإنه يُطبِّع العلاقات العربية بنظام الاحتلال والاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري من خلال التعامل مع هذا النظام كما لو كان طبيعيًا، في حين أن الحصول على تصريح من سلطات الاحتلال الإسرائيلي من خلال السلطة الفلسطينية أمرٌ مختلِف رغم الطبيعة الإشكالية لدور السلطة الفلسطينية – وهو أدنى ما يمكن أن يُقال في حقها – لأن الفلسطينيين تحت الاحتلال مرتبطون بإسرائيل بعلاقة قسرية: فهم لا يملكون خيار الامتناع عن التعامل مع السلطات الإسرائيلية إذا ما أرادوا استضافة أفراد عائلاتهم أو أصدقائهم من العالم العربي. والتصريح الذي تصدره سلطات الاحتلال، بعكس الفيزا، لا يعترف في حد ذاته بالنظام الإسرائيلي كواقعٍ طبيعي. ومع ذلك، فإننا مدركون بأن هذه المسألة صعبة، ونعترف بأنها ليست الأمثل ولا الأكثر اتساقاً ضمن مبادئنا التوجيهية.
سؤالي هو: لماذا لا يراسلنا منتقدو حركة المقاطعة الفلسطينية من الفلسطينيين/ات في الداخل أو في الشتات ليطلبوا إيضاحات أو ليشاطرونا انتقاداتهم بطريقة بنَّاءة تعزز حركتنا الجماعية؟ مئاتُ الرسائل الإلكترونية تصلنا يوميًا من المتضامنين، ولكن عددًا قليلًا جدًا يصلنا من الفلسطينيين. هناك فلسطينيون قلة يهاجمون حركة المقاطعة دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التواصل مع اللجنة الوطنية للمقاطعة أولا للتعبير عن انتقاداتهم بطريقة يمكن أن ترتقي بهذه الحركة المؤثرة بالفعل وتجعلها أقدر على التعامل مع التحديات الكثيرة التي تواجهها. نحن منفتحون، ونشجع النقاش والحوار بين الفلسطينيين في مجتمعاتنا المتنوعة. وأنا ألتمس ممّن لديه أي سؤال أو انتقاد أو ملاحظة أن يتواصل معنا – فقط راسلونا على عنوان [email protected] أو [email protected]. وبالرغم من حجم العمل الواقع على كاهلنا كمتطوعين/ات، فإننا سنبذل قصارى جهدنا للرد على كل رسالة إلكترونية تردناـ ولا سيما من أخٍ أو أختٍ فلسطيني/ة.
عمر البرغوثي
أحدث المنشورات
عودة ترامب وتداعياتها على النضال الفلسطيني
تصور جديد لفلسطين بعد عام من الإبادة الجماعية
محور سياساتي: عام من الإبادة الجماعية في غزة
نحن نبني شبكةً من أجل التحرير.
ونحن نعمل جاهدين، باعتبارنا المؤسسة الفكرية الفلسطينية العالمية الوحيدة، للاستجابة للتطورات السريعة المؤثرة في الفلسطينيين، بينما نحافظ على التزامنا بتسليط الضوء على القضايا التي قد يتم تجاهلها لولا تركيزنا عليها.