اندثار القطاعات الإنتاجية الفلسطينية

نظرة عامة
دأبَ الاحتلالُ الإسرائيلي على تكبيد الفلسطينيين تكاليفَ اقتصاديةً جسيمة ظلت لعقودٍ موضوع بحثٍ ودراسة عند الاقتصاديين، غير أنهم يغفلون جانبًا واحدًا في دراستهم، ألا وهو التشوهات في هيكل الاقتصاد الفلسطيني، وما يترتب عليها من تكاليف اقتصادية. يُشير مصطلحُ الهيكل الاقتصادي هنا إلى مساهمة القطاعات الاقتصادية المختلفة، مثل الزراعة والصناعة والإنشاءات والتجارة، في متغيرات الاقتصاد الكلي الرئيسية المتمثلة في الإنتاج (الناتج المحلي الإجمالي) وتشغيل اليد العاملة.
هيمنة التجارة الداخلية في فلسطين
قبل الخوض في تحليل البيانات التي تُظهر هيمنة التجارة الداخلية على الاقتصاد الفلسطيني، يجدر أن نتعرفَ إلى الأنشطة الاقتصادية والقطاعات الفرعية المندرجة تحتها. وفقًا لأحدث إصدار من التصنيف الصناعي المعياري الموحد (ISIC-4)، ووفقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن المسمى الرسمي لقطاع التجارة الداخلية هو: "تجارة الجملة والتجزئة، وإصلاح المركبات ذات المحركات والدراجات النارية."
ويندرج تحت هذا التصنيف العام 43 قطاعًا فرعيًا مختلفًا. وبحسب تعداد المنشآت الذي أجراه الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني سنة 2017، فإن القطاعات الفرعية الثلاثة الأكبر المستأثرة بنسبة 50% من عدد المنشآت الاقتصادية في التجارة الداخلية الفلسطينية كانت: "البيع بالتجزئة في المتاجر غير المتخصصة التي تكون فيها الأغذية أو المشروبات أو التبغ هي السلع السائدة فيها،" و"بيع التجزئة من المواد الغذائية في المتاجر المتخصصة،" و "بيع الملابس والأحذية والأصناف الجلدية بالتجزئة في المتاجر المتخصصة." أي أنَّ نصفَ عدد الوحدات الاقتصادية في أكبرِ قطاعٍ في الاقتصاد الفلسطيني يتكون من المحلات التجارية، المعروفة باسم "الدكاكين،" ومحلات بيع الأغذية والألبسة بالتجزئة.
التبعية والتجارة في السياق الفلسطيني-الإسرائيلي
كان الباحثون في أمريكا اللاتينية أولَ من وضع نظريات التبعية، حيث لاحظوا أن الموارد الطبيعية والبشرية والسلع الأساسية، وغيرها من الموارد، كانت تُصدَّرُ من بلدان الأطراف في الشطر الجنوبي من الكرة الأرضية إلى بلدان المركز في الشطر الشمالي، بينما كانت السلع تامة الصنع أو النهائية تنتقل بالاتجاه المعاكس. ونتيجةً لذلك، كانت عملية استخراج القيمة المضافة تتم في معظمها في المركز، بالتزامن مع تحوير الهيكل الاقتصادي في بلدان الأطراف ليُلبي احتياجات المركز وليس التنميةَ بعيدة الأجل في تلك البلدان.
وقد تسببت تلك التبعية في حبس اقتصادات الأطراف ضمن حلقةٍ من التخلف عجزت بسببها عن تطوير قاعدةٍ إنتاجية قوية، بينما قَفزَ عجزُها التجاري، وظلت معتمدةً على أسواق العمل والسلع في اقتصادات المركز. وبلغةِ الماركسيين، جنَّدَ المركزُ "جيشَ الاحتياط" من العمالة في بلدان الأطراف لضمان تَدني تكاليف الإنتاج، وفتحَ أسواق الأطراف لبضائعه كي لا تنشأ أزمةٌ بسبب "فرط الإنتاج"، حيث تعجز الشركات عن بيع بضائعها لأن المعروض منها يفوق الطلب الحالي.
التكاليف الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي العسكري
تُظهر الديناميات المبينة أعلاه اعتمادَ الفلسطينيين الراسخ على البضائع وسوق العمل الإسرائيلية، وتفسرُ أيضًا كيف أصبحت تجارةُ البضائع، ولا سيما الإسرائيلية، النشاطَ الاقتصادي الرئيسي في الضفة الغربية وغزة. ويُعزى بعض السبب في ذلك إلى تدفق الدخول التي يجنيها العاملون في إسرائيل وتدفق التحويلات المالية من الفلسطينيين العاملين في الخليج، وإلى ضعف القطاعات الإنتاجية.
مرحلة ما بعد أوسلو والتخلي المستمر عن الاستقلالية في صنع السياسات
أعاقت السنوات الخمس والعشرين الأولى من الاحتلال الإسرائيلي تنميةَ القطاعات الإنتاجية الفلسطينية، وتركَّز فيها النشاطُ الاقتصادي على تجارة السلع المستوردة، الإسرائيلية في معظمها. وبعد تأسيس السلطة الفلسطينية في 1994، لم يطرأ تغير يُذكر على هيكل الاقتصاد. وبينما ضمنت الاتفاقات الموقعة، مثل بروتوكول باريس، سيطرةً اسميةً للفلسطينيين على الإيرادات المالية، فإنها أضفت الطابع الرسمي على الاتحاد الجمركي الظالم والقائم بين الاقتصادين. واستمرت المستويات السعرية غير المتماثلة تضر المنتجين والمستهلكين الفلسطينيين على السواء لأنها أجبرت الاقتصاد الفلسطيني على العمل بموجب الهيكل الإسرائيلي مرتفع التكاليف بالرغم من التفاوت الهائل في الدخل بين الاقتصادين.