Pubs with elements template - 10

المقدمة

يجري الحديث عن إعادة إعمار غزة وسط تحديات هائلة في ظل استمرار الحرب الإبادية التي يشنها النظام الإسرائيلي والقيود الهيكلية التي يفرضها الحصار المستمر، وتبقى إمكانية الوصول إلى إعادة إعمار حقيقية في ظل الاحتلال الاستيطاني أمرًا غير مضمون، فلطالما كانت سلسلة الدمار وإعادة الإعمار التي عاشتها غزة في ظل الاحتلال مدفوعة بالتدخل الأجنبي، والتربُّح، وإعطاء الأولوية للمشاريع العقارية البراقة من قِبَل الجهات المانحة الدولية، وهي ممارسات تهمّش الفلسطينيين وتقوض إرادتهم.

في هذه الحلقة النقاشية، تتناول دينا قدومي وجهاد أبو سليم التحديات والتعقيدات المتعلقة بإعادة إعمار غزة. ويسلطان الضوء على نماذج فلسطينية تقودها مجتمعات محلية، تتمحور حول المعرفة الأصيلة والاحتياجات الفعلية، بهدف الحفاظ على هوية غزة وتراثها وحقها في تقرير المصير. وإلى جانب إعادة الإعمار المادي، يشددان على الأثر النفسي العميق للدمار والتهجير، لا سيما على أطفال غزة، مؤكدين على الحاجة المُلحَّة لإدماج التعافي من الصدمات وتوفير الدعم النفسي في جهود إعادة الإعمار.

عُقد هذا النقاش قبل المجازر الإسرائيلية الأخيرة على غزة، بما في ذلك مجزرة 18 مارس، التي وصفتها المديرة التنفيذية لمنظمة اليونيسف بأنها “أكبر حصيلة وفيات للأطفال في يوم واحد خلال العام الماضي”، حيث أن القتل المتعمد للأطفال سمة بارزة في الإبادة الجماعية المستمرة التي يمارسها النظام الإسرائيلي، بهدف محو الفلسطينيين ومستقبلهم. وفي سياق المقاومة، من الضروري إعادة تركيز الرؤى الفلسطينية لإعادة الإعمار، والتي همّشتها الخطط المطروحة من قِبَل المجتمع الدولي. وبينما يدور الحديث حول التعافي، وإعادة الإعمار بغاية تصور مستقبل فلسطيني قائم على تقرير المصير لغزة، تبقى الأولوية القصوى هي إنهاء العنف الإبادي.

المقابلة أدناه نسخة مُحرَّرة من نقاش موسَّع أُجري في فبراير 2025 ضمن ندوات “مختبر السياسات”. يمكن مشاهدة النقاش الكامل باللغة الإنجليزية هنا.

ما هي التحديات الرئيسية التي تواجه تعافي غزة، وكذلك التي تتجاوز إعادة الإعمار المادي؟

دينا قدومي

تُظهِر الإحصاءات الأخيرة أن حرب الإبادة الإسرائيلية دمَّرت 69% من المباني في غزة كليًّا أو جزئيًّا. وشمل ذلك 92% من المنازل، ومعظم المدارس والمستشفيات والجامعات ومباني الخدمات البلدية. ودمَّر العدوان الإسرائيلي أيضًا 68% من شبكة الطرق في غزة.1 ونحن لا نبالغ عندما نقول إنّ وطأة هذا الدمار الحضري الهائل قد طالت جميع القطاعات. 

عادةً ما توضح تقارير المنظمات الحكومية الدولية، مثل البنك الدولي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، القيمة المالية للخسائر. ولكن تلك الأرقام تعجز عن التعبير عن الأثر الإنساني والاجتماعي لهذا الدمار. يركِّز الاهتمام في التقييمات المالية وجهود الإغاثة وإعادة الإعمار القياسية، ما يغفل جوانب أساسية أخرى من عملية التعافي. فالتركيز في التقييمات المالية لإعادة الإعمار والإعانات يُغفل في الأغلب الجوانبَ الأخرى الضرورية للتعافي. 

يُمسي مفهوم 'إعادة البناء على نحوٍ أفضل' الشائع في سياقات ما بعد الأزمات غيرَ قابلٍ للتطبيق في سياقٍ تشن فيه إسرائيل هجماتها المدمرة في أي لحظة Share on X

في إطار الإغاثة في حالات الكوارث، تنقسم عملية إعادة البناء عادةً إلى ثلاث مراحل: الإغاثة، التعافي، وإعادة الإعمار. إلا أن هذا النموذج لا ينطبق على الوضع الراهن في غزة نتيجةَ استمرار الاستعمار الإسرائيلي الاستيطاني. ومن ثَمَّ، يُمسي مفهوم إعادة البناء على نحوٍ أفضل الشائع في سياقات ما بعد الأزمات غيرَ قابلٍ للتطبيق في سياقٍ تشن فيه إسرائيل هجماتها المدمرة في أي لحظة. 

بالرغم من ذلك، يجب منح الأولوية للاحتياجات العاجلة لكبح جماح الإبادة المستمرة، وعلى رأس تلك الاحتياجات توفير الرعاية الصحية والمأوى. في شباط/ فبراير 2025، أفادت تقارير إعلامية أن ستة رُضَّع على الأقل قضوا بسبب البرد نتيجة انعدام المأوى المناسب. وفي الوقت نفسه وفي ظل تدمير القطاع الصحي، تلد 160 سيدة يوميًّا في ظروف تفتقر بشكل شبه كامل إلى الرعاية الصحية اللازمة للولادة، إلى جانب انتشار الأمراض المعدية والنقص الحاد في الأدوية والعلاجات.

أسهمت المساعدات التي دخلت القطاع بعد إبرام اتفاق وقف إطلاق النار في تلبية بعض الحاجات الطارئة، ولكنها بمثابة قطرة في بحر. فما برح النظام الإسرائيلي يعرقل دخول المساعدات كوسيلةٍ للضغط السياسي على حماس. ولهذا فإن جهود الإغاثة والتعافي متقطعة وغير ثابتة.

جهاد أبو سليم

سوف تستغرق عملية إعادة إعمار غزة شهورًا، إنْ لم تكن سنوات، فقط لتدشينها، وستحتاج إلى عقود عدة لإتمامها. ولكن بينما تتبلور خطة إعادة الإعمار طويلة المدى، ينبغي لنا أن نُلبي الحاجات الأشد إلحاحًا لمليوني نسمة ما زالوا يعيشون في غزة. فقد أصابت سكان غزة حالةُ من الضعف البدني وصدمات نفسية بالغة بسبب الدمار الناجم عن الإبادة الجماعية. ولا خيالَ يتسع لاستيعاب حجم النزوح والخسائر والعنف الذي يتحملوه، إذ مُسحت أحياءٌ كاملةٌ عن بكرة أبيها، وتمزقت عائلات. ونزح السكان من مكان إلى آخر مرارًا وتكرارًا، وأجبروا على النزوح من دائرة قتل إلى أخرى. وتفسَّخ النسيج الاجتماعي الذي يربط المجتمعات، ليترك جيلًا كاملًا من الأطفال في مواجهة مستقبل ترسم الصدمات النفسية ملامحه.

إذا لم تُعالَج أزمات الصحة النفسية التي خلفَّتها الإبادة الجماعية، فستتعمق الجِراح وتصبح سمةً مميزةً لمستقبل غزة لأجيالٍ متعاقبة. ولذا يجب أن تتضمن عملية إعادة الإعمار جهودًا لمساعدة السكان على التعافي. فلا بد من نشر برامج الدعم النفسي، ولا بد من حصول مختصي الصحة النفسية المجتمعية والعاملين الاجتماعيين على الدعم والتدريب الملائمين. ويجب دمج التعافي من الصدمات في المدارس والمرافق المجتمعية. ويحتاج الأطفال كذلك إلى مساحات للتعبير عن حزنهم ومشاركة قصصهم من أجل التعافي الجماعي. ورغم أنَّ معالجة الأزمات النفسية سوف تتطلب موارد ضخمة، فإنها لا تقل إلحاحًا عن إعادة الإعمار المادية.

هناك بعض المبادرات التي شرعت بالفعل في السعي إلى تحقيق هذا الهدف. ففي دير البلح، مثلًا، استعان “مشروع سمير” بمتطوعين لدعم الأطفال المصابين بالتوحُّد وتحديات أخرى. ولكن حجم الدعم المطلوب يتعدى ما تستطيع المبادرات المحلية الموجودة تقديمه بأضعاف مضاعفة. 

يحتاج أهل غزة إلى ما هو أكثر من المباني، فهم بحاجة إلى مساحات للتعافي والتعلم والازدهار لا تشوبها الهيمنة الاستعمارية الاستيطانية Share on X

شاهدنا صورًا باعثة على الأمل لأطفال غزة وقد عادوا إلى فصولهم الدراسية المدمَّرة، وجلسوا على أرضيتها في محاولةٍ لاستعادة شيء من مظاهر الحياة الطبيعية. ولكن الواقع القاسي يفرض نفسه، فقد مُحي النظام التعليمي في غزة، ودُمرت مؤسساتها الثقافية، وتعرضت مواقعها الأثرية للخراب. ولا بد من إعادة بناء تلك المؤسسات للحفاظ على تاريخ غزة وتنمية مستقبل قائم على المعرفة والهوية الثقافية. سوف يتطلب هذا دعمًا دوليًّا ضخمًا، ولكن من الضروري وضع إطار لهذا الدعم. 

لا بد أن تعتمد خططُ إعادة الإعمار على عمال غزة المتجذرين في المجتمع، الذين يمتلكون الخبرات المحلية. فغزة لا تحتاج إلى استجلاب الخبراء الأجانب مرتفعي الأجور من المؤسسات الدولية، الذين يهمِّشون الفلسطينيين في نهاية المطاف.

لا تقتصر عملية إعادة إعمار غزة في جوهرها على تشييد المباني فحسب، وإنما هي إعادة بناء الحياة، واستعادة الكرامة، وإحياء الأمل. فيحتاج أهل غزة إلى ما هو أكثر من المباني، فهم بحاجة إلى مساحات للتعافي والتعلم والازدهار لا تشوبها الهيمنة الاستعمارية الاستيطانية. 

هل إعادة الإعمار الحقيقية ممكنة في ظل الاحتلال والحصار الإسرائيلي المستمر؟ 

جهاد أبو سليم

إن إعادة الإعمار الحقيقية في غزة في ظل النظام الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي والاحتلال العسكري والحصار، ليست مستبعدة فحسب، بل مستحيلة من الناحية العملية. فمنذ عام 1948 والفلسطينيون عالقون في حلقة مفرغة من الهدم وإعادة البناء. لكن نطاق الدمار الذي شهدته غزة في السنة والنصف الماضية غير مسبوق. وبالرغم من ذلك، لا يصح النظر إلى تلك الإبادة الجماعية المستمرة باعتبارها حدثًا معزولًا، بل يتحتم وضعها في سياقها كجزءٍ من نمط أوسع من التهجير القسري، والاستيلاء على الأراضي، وطمس المدن والبلدات الفلسطينية. فنحن حين نصف النظام الإسرائيلي بأنه استعمار استيطاني، لا نقوم بالتنظير، بل نعكس الواقع العنيف. 

فَرض الحصار المفروض على غزة منذ عام 2007 قيودًا ممنهجة على دخول مواد البناء والمستلزمات الطبية وضروريات أخرى تحت ذرائع أمنية. وبالتالي، حتى لو تعهدت الجهات المانحة الدولية بمليارات الدولارات من المساعدات، فستظل جهود إعادة الإعمار مرهونةً بالقيود الإسرائيلية التي تشمل عقبات بيروقراطية ممنهجة، ومجموعة واسعة من السياسات القمعية تمارسها إسرائيل وحلفاؤها لعرقلة عملية إعادة الإعمار وتأخيرها.

يساعدنا استعراض تاريخ إعادة الإعمار في قطاع غزة على فهم التحديات المستقبلية التي سنواجهها. فبعد العدوان الإسرائيلي عام 2014، توسطت منظمة الأمم المتحدة لرعاية اتفاقية آلية إعادة إعمار قطاع غزة بين الحكومتين الفلسطينية والإسرائيلية لتسهيل إعادة الإعمار. ولكن من الناحية العملية، عززت الاتفاقية السيطرة الإسرائيلية على تدفق المواد. وعليه، منعت إسرائيل دخول مواد بناء أساسية، مثل الأسمنت والصلب وحتى أحجام معينة من الأخشاب، تحت ذريعة “الاستخدام المزدوِج”.

ستظل جهود إعادة الإعمار بطيئة وغير ثابتة، ومن المستبعد أن تكتمل، ما لم يُرفع الحصار وتُفكَّك سياسات السيطرة الإسرائيلية. Share on X

بحلول عام 2016، أعيد بناء جزء ضئيل فقط من المنازل التي دُمِّرت في الحرب قبل عامين. وبهذا المعدل، كانت عملية إعادة الإعمار الكاملة ستستغرق أكثر من قرن مع استمرار الحصار. ولكن حجم الدمار الحالي يفوق ما خلَّفته حرب 2014 أضعافًا مضاعفة. 

لقد أدت الحرب الإبادية إلى تشريد 90% من سكان غزة، وأُبيدت مدن بكاملها مثل بيت حانون وبيت لاهيا، وسُوِّيت أحياء كبيرة في غزة ورفح وخان يونس بالأرض. وهكذا، يشير السياق السياسي الحالي إلى استحالة إعادة الإعمار بشكل سريع وفعَّال. وستظل جهود إعادة الإعمار بطيئة وغير ثابتة، ومن المستبعد أن تكتمل، ما لم يُرفع الحصار وتُفكَّك سياسات السيطرة الإسرائيلية.

لن يتحقق ذلك بين ليلةٍ وضحاها، بل سيتطلب حدوثَ تغييرات سياسية جوهرية، وزيادةَ الضغط الدولي لمحاسبة النظام الإسرائيلي، وتدخلًا استباقيًّا فعالًا من الأطراف الإقليمية، ولا سيما الدول العربية. فمن دون تحولات في موازين القوى، ستظل إعادة إعمار غزة رهينة لتهديدات الدمار. 

ما الدروس المستفادة من جهود إعادة الإعمار السابقة؟ 

دينا قدومي

شهد قطاع غزة، كما ذكرت آنفًا، اعتداءات متكررة من النظام الإسرائيلي منذ عام 1948. وفي كل مرة، واجهت عمليات إعادة الإعمار عقبات كبيرة. ودائمًا ما كان التمويل والقيود الإسرائيلية المفروضة على المواد اللازمة لإعادة الإعمار من بين تلك العقبات الرئيسية. يسيطر النظام الإسرائيلي على دخول المواد وعلى تدفق أموال المانحين، مستغلًّا ذلك لتحقيق مكاسب جيوسياسية. فقد يقيِّد دخول مواد عند توافر التمويل من الجهات المانحة، ثم يتيح المواد ويحجب تدفق التمويل. جميع التفاصيل في هذه العملية مرهونة بموافقة إسرائيل، فلا تترك للفلسطينيين -بقبضتها الخانقة- مجالًا للتصرف، ولا تسمح بتحقيق أي جهود إعادة إعمار يديرها الفلسطينيون بأنفسهم.

صنَّف النظام الإسرائيلي كل سكان غزة تقريبًا بأنهم 'مُوالون لحماس'، بمن فيهم موظفو المحليات والبلديات، وهم الأقدر على فهم احتياجات مجتمعاتهم Share on X

بخلاف الجهود المعتادة في التعافي من الكوارث، تسعى غزة إلى التعافي من إبادة جماعية، بينما لا تزال ترزح تحت وطأة استعمار مستمر. فالمساعدات وعملية إعادة الإعمار مُسيَّسة بشكل كبير، وثمة قيود صارمة على الجهات التي يمكنها تلقي التمويل تستبعد كل جهة يُشتبه في وجود صلة أو تقارب بينها وبين حماس. وعلى مدار السنة والنصف الماضية، صنَّف النظام الإسرائيلي كل سكان غزة تقريبًا بأنهم “مُوالون لحماس”، بمن فيهم موظفو المحليات والبلديات، وهم الأقدر على فهم احتياجات مجتمعاتهم، ولكنهم استُبعِدوا من المشاركة في صنع القرار وتوزيع الموارد.

هل يتوقف مصير غزة على استعداد المجتمع الإقليمي والدولي للتدخل ومحاسبة إسرائيل؟

جهاد أبو سليم

تهيمن على النقاش الدائر حول مستقبل غزة، أو ما يُعرف بـ”اليوم التالي”، قوى خارجية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وإسرائيل، وتتصدر رؤية الرئيس دونالد ترامب العبثية لغزة وخطط إسرائيل الإستراتيجية عناوين الأخبار. غير أن أطرافًا إقليمية قدمت أخيرًا مقترحات بديلة. فأعلنت مصر، مثلًا، عن خطتها لإعادة الإعمار التي تهدف إلى تمكين الفلسطينيين من البقاء في غزة، حيث إن المخاوف الوجودية تدفعها إلى رفض خطة ترامب للتطهير العرقي، إذ قد يزعزع تدفق اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيها استقرارَ نظام عبدالفتاح السيسي. 

إن تحديد قدرة الدول العربية على تغيير الحسابات السياسية بشأن إعادة إعمار غزة يقتضي فهم نقطتين رئيسيتين. أولًا، أصبحت الدول العربية أكثر وعيًا بالخطر الداهم الذي يهدد الاستقرار الإقليمي نتيجةَ تصاعد السياسات الإسرائيلية العدوانية المتمثلة في التطهير العرقي والتهجير القسري، التي تجاوزت غزة لتشمل دولًا أخرى، ولا سيما لبنان وسوريا. فبينما تسعى سوريا جاهدةً إلى التعافي وإعادة البناء بعد سنوات من الصراع، يأتي الغزو الإسرائيلي للجنوب كإشارة واضحة إلى نية إسرائيل في التوسع. ثانيًا، لا يزال على الحكومات العربية أن تبرهنَ ما إذا كانت ستمارس ضغوطًا على إسرائيل والولايات المتحدة. فقد أصدرت الحكومات العربية بيانات تعبر عن موقفها الرافض للتهجير وعن التزامها بالمساعدة في إعادة الإعمار، ولكن تلك البيانات لم تُتَرجم بعد إلى إجراءات فعلية ملموسة. 

يتطلب ذلك تغييرًا أكبر في السياسات، فلا بد من وضع حدٍّ لجرأة إسرائيل في مواصلة عدوانها الإقليمي وتحدي حلفائها. فنجاح أي مسعى لإعادة الإعمار يتوقف على خلق بيئة سياسية تُحاسَبُ فيها إسرائيل على أفعالها وتُجبَر على احترام القانون الدولي. أمَّا إذا لم يُستوفَ ذلك الشرط، فإن أي خطة، مهما كانت جيدة، ستواجه نفس العقبات التي أفشلت سابقاتها. وبلا شك، يرتبط مستقبل غزة ارتباطًا وثيقًا بالحراك السياسي والإقليمي الأوسع الذي تشهده المنطقة.

كيف يمكن تحقيق إعادة إعمار ذات مغزى ومعايير أخلاقية وسط مشهد سياسي تسيطر عليه المصالح المتضاربة وتوازنات القوى الإشكالية؟

دينا قدومي

بغض النظر عن السياق، فإن التشييد وإعادة الإعمار من أكثر القطاعات ربحية. وعندما تنخرط جهات مختلفة في هذه الجهود، فإن دوافعها غالبًا ما تكون مرتبطة بالمكاسب المالية بقدر ما هي مدفوعة بالحاجة الإنسانية، إن لم يكن أكثر. يزخر هذا القطاع بالفساد والتكاليف المبالغ فيها واستغلال الموارد، ما يثير تساؤلات جوهرية عن المستفيد الفعلي من جهود إعادة الإعمار. وقد حققت الشركات الإسرائيلية أرباحًا في السابق من خلال توريد المواد لمشاريع إعادة الإعمار، ما يسلط الضوء على عمليات التربُّح المترسخة في قطاع المساعدات والتنمية.

في ظل هذا السياق، تصير مسألة إعادة الإعمار ذات المعايير الأخلاقية أكثر إلحاحًا في ضوء الدمار الواسع الذي شهدته غزة. ولكن غالبًا ما يميل المتخصصون في البيئة العمرانية إلى اعتبار ما بعد الدمار فرصة لوضع مخططات تطوير حضري على “صفحة بيضاء”. غير أن هذا النهج التكنوقراطي يتجاهل الأبعاد الإنسانية العميقة للمكان: الذكريات، التاريخ، والتجارب الحياتية لأبناء ذلك الوطن.

وعلاوةً على ذلك، فغزة ليست صفحةً بيضاء، وإنما مسرح جريمة ينتظر أن تُجمع منه أدلة الإبادة الجماعية. وما تزال جثث كثيرة مدفونة تحت الأنقاض، ويجب منح الأولوية القصوى لانتشالها ودفنها بكرامة قبل البدء في أي عملية لإعادة الإعمار. الوضع بالغ التعقيد بلا شك، ويفرض تحديات عديدة على أي محاولة للتخطيط على نطاق واسع. فإعادة الإعمار لا تقتصر على تصميم أحياء وأنظمة نقل ومساحات عامة جديدة باستخدام أحدث التصاميم، بل لا بد أن يكون التخطيط منسجمًا مع مقتضيات السياق السياسي المحيط.

يكمن أحد التحديات في نهج المانحين الدوليين، الذين يفضلون المشاريع البراقة، التي تتمثل في تصميم المباني والمساحات التي تبدو مبهرة في الصور والمواد الترويجية. تقدم مثل هذه المشاريع صورة وهمية للتقدم، فهي غالبًا ما تفشل في التوافق مع احتياجات ورغبات السكان المحليين. وعلى نحو مماثل، عادةً ما يؤدي التركيز في الترويج الإعلامي وإبراز العلامة التجارية للجهة المانحة للمساعدات إلى حجب الرؤية عن المبادرات المجتمعية الفعالة.

لطالما أظهر الفلسطينيون في غزة مقاومةً وبراعةً ملحوظتين في مواجهة القيود الصارمة المفروضة عليهم من المحتل، إذ اضطرهم الحصار إلى إيجاد حلولٍ لنقص مواد البناء وتدمير البنية التحتية، فاستخدموا الطين والتراب بوصفهما مواد بناء بديلة وابتكروا حلولًا محلية لتوليد الكهرباء وتنقية المياه. وفَّرت هذه الجهود الشعبية خدمات أساسية وأسهمت في تحقيق درجة من الاكتفاء الذاتي. ومع ذلك، يبقى تطبيق هذه الابتكارات المحلية لتلبية الاحتياجات الأوسع لعملية إعادة الإعمار تحديًا كبيرًا.

ومع ذلك، ثمة مبادرات عديدة تعمل بالفعل على التغلب على تحديات إعادة الإعمار على نحو مدروس وتعاوني. ومن بينها فريق “إعادة إحياء فلسطين”، الذي استأنف عمله العام الماضي تحت مظلة “معماريون من أجل غزة“. فإلى جانب دعم استمرار التعليم العالي للطلاب في تخصصات البيئة العمرانية، تهدف هذه المجموعة إلى تنظيم حلقات عمل وحوارات حول إعادة البناء المتأصلة في معارف الممارسين المحليين وتطلعاتهم. ومن الجهود الواعدة الأخرى منصة “إعادة إعمار غزة“، وهي مسابقة معمارية تسعى إلى تقديم تصميمات إبداعية لمواقع محددة في المنطقة. ورغم أن هذه المشاريع لا تزال في مرحلة “التخطيط” النظري، وقد يكون تأثيرها المباشر غير مؤكد، فإنها تلعب دورًا أساسيًّا في تشكيل الرؤية لمستقبل غزة.

مع تطوير هذه الجهود، من الضروري أن نبقى واعين للأسئلة السياسية والأخلاقية الأوسع. فإعادة الإعمار في ظل الاحتلال والاستعمار المستمرين تحمل خطر إضفاء الشرعية والتطبيع مع النظم والهياكل القمعية التي يسعى الفلسطينيون إلى تفكيكها. لذلك، يجب أن يطرح أي تصميم لعملية إعادة الإعمار الأسئلة التالية: إلى أيِّ مدى تتمحور إعادة الإعمار حول البقاء فحسب؟ وما قدر مساهمتها في تحقيق رؤية غزة الحرة وفلسطين الحرة؟ وإلى أي درجة تعزز تطبيع الاحتلال والاستعمار؟

كيف يمكن للفلسطينيين خارج غزة والحلفاء الدوليين دعم عملية إعادة الإعمار؟

جهاد أبو سليم

الأهم هو الحفاظ على الزخم الذي تحقق خلال السبعة عشر شهرًا الماضية بمواصلة التنظيم والتعبئة وتوسيع نطاق الحراك العالمي الداعم لحقوق الفلسطينيين. إنّ خيبة الناس في أن حراكهم ونشاطهم المنظم لم يُفضِ إلى وقف إطلاق نار مبكر ومستدام مفهوم، ولكن تأثير تلك الموجة العالمية غير المسبوقة الداعمة للقضية الفلسطينية سيستمر في المستقبل. 

وبالتالي، لا يوجد مبرر لليأس أو التقاعس. فعلينا الاستمرار في العمل والبناء وممارسة الضغط على الحكومات والمسؤولين المنتخبين. وعلينا أيضًا نشرُ الوعي عن قضية فلسطين بشكل أوسع وتثقيف الآخرين ودعم المبادرات التي تعمل مباشرة مع الفلسطينيين على الأرض.

لقد شهد العالم بأكمله ما تمثله دولة إسرائيل، وكلما زاد شعور النظام الإسرائيلي بهذا الضغط، زادَ ضعفه وعزلته. لذا فإننا نحتاج في هذه المرحلة من كفاحنا أن نتحلى جميعًا بالصبر والمثابرة ومواصلة العمل الدؤوب. 

دينا قدومي

عندما كانت الإبادة في بدايتها، جرت نقاشات واسعة في قطاع التعليم العالي حول السُّبل المُثلى لدعم الجامعات الفلسطينية. وظهرت على الساحة حملات عديدة تحت شعار “لم تعد هناك جامعات في غزة”. غير أن اللجنة الطارئة للجامعات في غزة رفضت هذا الشعار، مؤكدة أن المعلمين والطلاب ما زالوا باقين رغم تدمير القوات الإسرائيلية للمباني التعليمية. يُبرز هذا الموقف أهمية الاستماع إلى صوت فلسطينيِ غزة، ولا سيما حين تُسهم الروايات المتداولة في محوهم.

إن للروايات أهميةً كبيرة جدًّا. ومن أكثر الروايات إحباطًا وإزعاجًا التي نواجهها باستمرار هي حاجة إسرائيل إلى أنْ تَنعَم بالأمن والأمان في حين يُحرَم الفلسطينيون من هذا الحق. فالشعب الفلسطيني الذي ما انفك يكابدُ محاولات الطمس الاستعماري الاستيطاني منذ ما يزيد على سبعة عقود هو الأحوج إلى الشعور بالأمن والأمان، وتلك حقيقةٌ علينا تأكيدها بكل قوة ومن دون تردد. ومن أجل هذا الهدف، علينا أن ندفعَ بقوةٍ وثبات نحو تحقيق وقف دائم لإطلاق النار. 

علاوة على هذا، فلا يمكن تجاهل قضية النزوح وحق العودة. فلقد أعادت خطة ترامب للتطهير العرقي عبر التهجير القسري هذه القضية إلى الواجهة. فعندما تدور النقاشات حول عدم صلاحية غزة للعيش، يغدو إبراز السياق التاريخي أمرًا بالغ الأهمية. فأسباب عدم قدرة الفلسطينيين على العودة إلى منازلهم في فلسطين التاريخية تُبرِز الظلمَ التاريخي المهول الذي تعرضوا له لأكثر من 75 عامًا. وهذه اللحظة تدعونا إلى تسليط الضوء على تاريخ هذه الأرض، وعمليات التهجير القسري لشعبها، والروابط الاجتماعية والثقافية الوثيقة التي يحافظ عليها الفلسطينيون مع وطنهم. وفي حين أن النقاشات السياسية حول حق العودة غالبًا ما تُستبَعد باعتبارها مستحيلة أو غير عملية، فإن الوقت قد حان لمناقشتها بقوة وجرأة أكثر من أي وقت مضى.

  1. الإحصاءات مأخوذة من تقارير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) وهي سارية حتى 8 كانون الثاني/ يناير، 2025
جهاد أبو سليم طالب في مرحلة الدكتوراه في برنامج التاريخ والدراسات العبرية واليهودية بجامعة نيويورك. ينصب مجال بحثه الرئيسي على دراسة المنظورين الفلسطيني والعربي للمشروع...
دينا قدومي مهندسة معمارية ومتخصصة في انعكاسات التخطيط الحضري على سكان الحضر تعيش حاليا في الدوحه. وتنصب اهتماماتها البحثية في المقام الأول على طُرق تفاعل...
في هذه المقالة

أحدث المنشورات

 الاقتصاد
يتناول هذا التعقيب تطوُّر العلاقات بين دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومجموعة بريكس، مع التركيز في انضمام فلسطين المحتمل إلى عضويتها والأسباب التي دفعت المجموعة إلى توجيه هذه الدعوة إلى فلسطين. ويرى التعقيب أن من شأن انضمام فلسطين إلى مجموعة بريكس أن يفتح آفاقًا جديدةً للنقاش حول السيادة الفلسطينية تتجاوز الانحياز الأمريكي لإسرائيل. ويبين أيضًا كيف أن العضوية في بريكس يمكن أن تعود بالنفع الكبير على الاقتصادِ الفلسطيني من خلال تعزيز التعاون بين الأعضاء في المجالات التي تدفع التنمية الاقتصادية، بما في ذلك قطاعات الطاقة واللوجستيات والذكاء الاصطناعي.
أحمد القاروط· 11 مارس 2025
يحلل هذا الموجز السياساتي استطلاعات الرأي وبيانات التصويت لإظهار تأثير دعم الحزب الديمقراطي الراسخ للنظام الإسرائيلي في عزوف الناخبين عن التصويت له في السباق الرئاسي، ويُبرز الحاجة إلى إحداث تحول في السياسة الخارجية الأمريكية بهذا الشأن. ويؤكد أهمية الحراك التضامني مع فلسطين في مواجهة ظاهرة التراجع الديمقراطي العالمية، ولا سيما في الولايات المتحدة. ويدعو إلى النزاهة في جمع البيانات والإبلاغ عنها في وقت يُرجَّح أن يواجه كل أشكال الحراك ضد السياسات الأمريكية الاستبدادية قمعًا متزايدًا في عهد رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب على غرار ما نشهده من سياسات قمعية ضد الفلسطينيين وقضيتهم.
Al-Shabaka Halah Ahmad
هالة أحمد· 25 فبراير 2025
 الاقتصاد
يتناول هذا الموجز السياساتي الأثر الكارثي لِما يفعله النظام الإسرائيلي من تدمير البنية التحتية للاتصالات والإنترنت في غزة. ويضع الهجوم الإسرائيلي على قطاع الاتصالات ضمن إطار الاستعمار الحديث (النيو-كولونيالية)، ويوضح كيف تساهم السيطرة على البنية التحتية الرقمية في تعزيز الهيمنة السياسية والاقتصادية، وهي من أهم سمات النظام الاستيطاني الإحلالي. ويُبرز الموجز كذلك قدرة الفلسطينيين على الصمود ومقاومة حرمانهم من خدمات الاتصالات والإنترنت، وأخيرًا يُقدِّم الموجز للمجتمع الدولي والمحلي توصيات قابلة للتطبيق من أجل تعزيز الوصول الرقمي في غزة، ومحاولة التحرر من التبعية التكنولوجية الإسرائيلية.
علي عبد الوهاب· 04 فبراير 2025
Skip to content