لعل الفلسطينيين لم يكونوا يومًا أشدَّ حاجةً إلى رؤيةٍ استشرافية لتحديد مستقبل نضالهم ممّا هم اليوم. يواجه الفلسطينيون في الذكرى السبعين للنكبة وقيام دولة إسرائيل التي توافق 15 أيار/مايو، ظروفًا عصيبة وتدابيرَ شتى تهدد بعرقلة مسعاهم من أجل الحقوق.2
وهذا يشمل الاعترافَ الأمريكي بالقدس عاصمةً لإسرائيل، وما استتبعه من نقل السفارة الأمريكية إليها؛ والمخططات الإسرائيلية لضم الضفة الغربية؛ والاستخدام الإسرائيلي المستمر للقوة المميتة تجاه الفلسطينيين في غزة المحتجين سلميًا على الأوضاع الفظيعة التي يعيشونها والمنادين بحقهم في العودة إلى الأراضي التي طُردوا منها في 1948. وحتى تاريخه، أودت طلقات القناصة الإسرائيليون بحياة ما يزيد على 90 فلسطينيًا في غزة وجرحت الآلاف.
وعلى ضوء ما تقدم، يشارك بعض محللو الشبكة في اقتراح رؤى تلقى تجاوبًا من أكبر عددٍ ممكن من الفلسطينيين – سواء المؤيدين لحل الدولة أو الدولتين واللاجئين والمنفيين والمواطنين في إسرائيل والقاطنين تحت الاحتلال والمحاصرين، ويقدموا سُبلًا للخروج من والواقع الراهن إلى واقع تلك الرؤية.
يوصي رازي نابلسي باستخدام النكبة كسبيلٍ للمضي قدمًا دون الاقتصار على تخليدها كذكرى سنوية وإنما باعتبارها نظامًا هدَّامًا وتجليًا ماثلًا لجوهر الصهيونية التي يجب أن يفككها الفلسطينيون. تشاطر أيرين كاليس وجهة نظر نابلسي وترى أن على الفلسطينيين أن يدركوا أن المشكلة لا تكمن في الاحتلال وإنما في الصهيونية، وتقترح إعادة توجيه العمل السياسي جماعيًا واستراتيجيًا ليركز على الصهيونية وإنهاء الاستعمار والتحرر.
تدعو أمل أحمد الفلسطينيين إلى صياغة استراتيجيات بدلًا من الإصرار على الحلول وذلك بالتركيز على مصالح إسرائيل الاستراتيجية، وفهم أن إسرائيل تنظر إلى الفلسطينين، حيثما كانوا، كتهديد واحدٍ لمصالحها. يحثُّ حيدر عيد كذلك على صياغة رؤية تشمل فئات الشعب الفلسطيني كافة، وينتقد اختزال المشروع الصهيوني في احتلال عسكري لجزء واحد من فلسطين التاريخية. ويرى أن مطالب حركة المقاطعة المتمثلة في تحقيق الحرية والعدالة والمساواة للفلسطينيين كافة هي إحدى السُبل للمضي قدمًا.
رازي نابلسي: النكبة كسبيلٍ للمضي قدمًا
يبقى السؤال الأساسيّ، بعد مضي 70 عامًا على نكبة فلسطين، هو سؤال ماهيّتها: هل تشكّل النكبة الذكرى، أم هي المنظومة التي لا تزال تحكم الحاضر وبالتاليّ ترسم المستقبل؟ ولعل أكثر ما يميّز النكبة في هذا السياق تحديدًا، هو قدرتها على أن تكون كلا السؤالين في آن واحد: أولًا هي ذكرى معركة حاسمة بدأت فيها عمليّة تأسيس الدولة اليهوديّة اجتماعيًا وسياسيًا وقانونيًا على حساب تفكيك البنى الماديّة، الاجتماعيّة والسياسيّة الفلسطينيّة؛ وثانيًا أخذت ذات البنى الصهيونيّة التي تأسّست إثر النكبة، بالإمعان في تفكيك ما تبقّى من بنى فلسطينيّة. أي أن النكبة ذاتها هي ذكرى تأسيس المنظومة التي لا تزال تمعن في سياسات التطهير والتفكيك، على طريق تمكين ذاتها من الاستمرار بالتماسك عبر تفكيك الآخر، للإجهاز عليه في معركة بدأت قبل النكبة ولا تزال مستمرّة بعد النكبة.
يستند هذا التعليق، أساسًا، إلى خصوصيّة المرحلة التي يُكتب فيها وحقيقة أن المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ قد انهار على أرض الواقع. وبالتاليّ يرى بالكتابة عن النكبة في هذه المرحلة تحديدًا كتابة عن دور النكبة في إعادة بناء المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ. فمعرفيًا، قد لا يكون هذا هو السؤال الذي من شأنه أن يقدّم أي جديد على دراسة النكبة، التي تشكّل إحدى أكثر الأحداث والمنظومات التي تم ولا يزال بحثها في الحقل المعرفيّ الفلسطينيّ. ولكن السؤال، حين ننتقل به إلى الشق الآخر منه- أي إلى سؤال المنظومة وسؤال المستقبل، فإنه يتحوّل من السؤال المعرفيّ إلى السؤال السياسيّ، الذي يحتاج إلى إجابة سياسيّة. ومن هنا، هل يمكن أن تشكّل النكبة حين نُعيدها إلى مربّعها الأول أساسًا لإعادة بناء مشروع وطنيّ فلسطينيّ جديد يحمل في داخله شقيّ النكبة وينطلق منهما: أولًا مراجعة تاريخيّة تجيب على سؤال الذكرى وتستخلص العبرة؛ وثانيًا يضع تفكيك “دولة اليهود” وكافة البنى المنبثقة عنها كهدف استراتيجيّ وطنيّ أساسيّ فلسطينيّ. بحث هذا السؤال، سياسيًا فلسطينيًا، بحد ذاته يشكّل نقلة نوعية في الفكر السياسيّ، إذ ومن خلاله يمكن تخطّي أكثر من عائق كان ولا يزال يفتّت النظام السياسيّ الفلسطيني.
آن الأوان سياسيًا أن يعود الفلسطينيّ إلى النكبة بوصفها المشهد الأكثر وضوحًا للصراع الفلسطينيّ-الصهيونيّ وماهيّته Share on Xومن هذا المبدأ، أعتقد أنه وبعد 70 عامًا على النكبة، تميّزت بالتفتيت والابتعاد تدريجيًا عن التعريفات الواضحة للصراع عمومًا، والإطار المتّبع فيه. آن الأوان سياسيًا، أن يعود الفلسطينيّ إلى النكبة بوصفها المشهد الأكثر وضوحًا للصراع الفلسطينيّ- الصهيونيّ وماهيّته: حركة استعماريّة تسعى إلى نفي الوجود الفلسطينيّ ماديًا ورمزيًا. ومن هنا، تشتق السياسات اللازمة لبناء البرنامج السياسيّ الذي من شأنه أن يُكافح لمنع الصهيونيّة من تحقيق أهدافها، التي حقّقتها مرحليًا فقط خلال العام 1948. إذ لا تزال هذه الحركة تنشط بذات المؤسسات والجوهر الاستعماريّ الذي تمأسست عليه بعد النكبة بدءًا من المنظّمات الصهيونيّة التي رعت النكبة ولا تزال تنشط حتّى يومنا هذا في الضفّة الغربيّة والنقب، حتّى الإطار الأيديولوجيّ الذي تستمد منه الدولة شرعيّة وجودها أصلًا كدولة ديمقراطيّة لليهود.
وبالتاليّ، فإن النظر إلى النكبة بوصفها حدث وذكرى دون التعامل معها بوصفها جوهر الصهيونيّة حتّى يومنا هذا أيضًا، يبقى منقوصًا وفيه من الظلم الكبير للفلسطينيّ ذاته ووعيه للصراع. إن سؤال النكبة، ليس سؤال الماضيّ بالقدر الذي هو فيه سؤال الحاضر والمستقبل: هل سيُعاد تكرير سيناريو النكبة من جديد؟ هذا هو سؤال النكبة باعتقاديّ. فإسرائيل لا تسعى لضم السكّان في الضفّة الغربيّة، ولا تسعى أيضًا لفرض السيادة القانونيّة على الأراضيّ ذات الكثافة السكّانيّة العالية في الضفّة. وهي أيضًا غير معنيّة بحل الدولتين، ولا حل الدولة الواحدة، ولم تُبقي على مساحة ماديّة متواصلة تؤسس لكيان سياسيّ فلسطينيّ متواصل في الضفّة بالإضافة إلى قطع غزّة وحصارها… وهي باختصار لا تزال معنيّة وتقوم تنفيذيًا بالسيطرة على أكبر كم ممكن من الأرض مصحوب بأقل عدد ممكن من الفلسطينيّين. وهذا عمليًا، ما حذا بإسرائيل لطرد السكّان بهدف تأسيس كيان ديمقراطيّ يكون الفلسطينيّ فيه أقليّة ويعيد إنتاج الهيمنة اليهوديّة. توسيع حدود ونفوذ هذا الكيان، لم يتوقّف يومًا عن كونه هاجس إسرائيل المركزيّ والمستمر.
أيرين كاليس: إدراك الفهم الصحيح للمشكلة
يقف الفلسطينيون اليوم عند منعطف خطير، فأي رؤية استشرافية حقيقة من شأنها أن تدعو إلى وقف استراتيجيات العمل المعتاد، إذ لم يعد ممكنًا التهربُ من تداعيات الفشل الذريع لمقاربة “حل النزاع” في ظرف استعماري استيطاني يقوم على محو السكان الأصليين. ومن دون إحداث تغييرات جذرية في طريقة التفكير والعمل الجماعي، يغدو الفلسطينيون أقرب من أي وقت مضى لأنْ يصبحوا كإخوانهم وأخواتهم من سكان أمريكا الشمالية الأصليين في دولة مستوطنين بلا مستقبل يُذكر في مرحلة ما بعد المستعمرة.
إن مقاربات الوضع الراهن لا تخذل الفلسطينيين وحسب، وإنما تعمل على تقويض أهداف التحرر. ولا بد للفلسطينيين أن يستعيدوا القدرة على تصور الممكن وغير الممكن من النخبة والمؤسسات السياسية التي ما تزال متجذرة في المخرجات الاستعمارية.
أولُ ما عليهم فعله قبل كل شيء هو أن يفهموا المشكلة فهمًا صحيحًا. فالمشكلة الكبرى مع جنوب أفريقيا إبان الفصل العنصري لم تكن في نظام الفصل العنصري في حد ذاته، كما نبَّه الناشط الجنوب أفريقي ستيف بيكو، وإنما في نظرة تفوق العنصر الأبيض التي استند إليها. وقد تنبأ بيكو في تقييمه السياسي بما حدث في أعقاب 1994، وهو أن تفكيك الإطار السياسي للفصل العنصري لن يطال امتيازات البيض الهيكلية، والتي ما تزال تَحدُّ من فرص الحياة للسود.
يمثِّل تحذير بيكو تبصرةً دائمة للفلسطينيين. فالاستثمار اللامحدود في “عملية السلام” وإقامة الدولة يصرف الفلسطينيين عن اللامنطقية في تبني هذا المشروع في ظل العلاقة غير المتكافئة بين المستوطنين والسكان الأصليين. لقد استثمرت السلطة الفلسطينية ومؤسسات أخرى سنواتٍ عديدةً في مغالطةٍ مفادها أن التفاوض بشأن إحلال السلام وإقامة الدولة في سياق الاستيطان الاستعماري أمرٌ ممكن. غير أنه لم يعد بإمكان الفلسطينيين أن يتجاهلوا الحقيقة الأساسية التي تفيد بأن مناهضة الاستعمار لا بد أن تسبق مبادرات بناء الدولة.
إقامة الدولة ليست رديفًا للسلام؛ وهذه المصطلحات قد أفلست لأنها لا تتصدى للأيديولوجية التي تستند إليها جهود محو الفلسطينيين والممارسات الاستعمارية للدولة الإسرائيلية. وبعبارة أخرى، المشكلةُ لا تكمن في الاحتلال وإنما في المشروع الصهيوني. وأيُّ ناتجٍ سياسي توصَف فيه الصهيونية كأيديولوجية حميدة أو عادلة سوف يضمنُ مستقبلًا يستديم وضعَ الفلسطينيين الراهن.
تقتضي الصهيونيةُ نزعَ الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين كجماعة. ولهذا فإن الفهم الصحيح للمشكلة – وهي الصهيونية وليس الاحتلال – يُعد أساسيًا لجهود الفلسطينيين الاستراتيجية. فالعقيدة الوطنية الإسرائيلية ترى في الفلسطينيين جميعًا في كل الأمكنة والأزمنة “تهديدًا للحياة اليومية الإسرائيلية،” ولذلك تسعى لمحوهم. وهذا متأصل في النظام السياسي الإسرائيلي وهو الخيط الذي يربط بين جميع التجارب الفلسطينية على اختلافها.
الفهم الصحيح للمشكلة - وهي الصهيونية وليس الاحتلال - يُعد أساسيًا لجهود الفلسطينيين الاستراتيجية Share on Xيقتضي الفهم الصحيح للمشكلة تقديرًا جماعيًا صادقًا لدور السلطة الفلسطينية في إدامة الظرف الاستعماري الراهن، وكعقبةٍ أساسية تعوق إحراز نتائج بديلة. وكما هي الحال مع حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا اليوم، توظِّف السلطة الفلسطينية بداياتها المناهِضة للاستعمار كأساسٍ لمصداقيتها. غير أن هذه الخرافة أصبحت بالية ولا بد من مقارنتها بالتركة الفعلية للسلطة الفلسطينية فيما يتعلق بأهداف الفلسطينيين من أجل التحرر. إن الادعاء بأن السلطة الفلسطينية لا غنى عنها لمستقبل الفلسطينيين يناقض الأدلة التي تثبت تواطؤها في الهيكل الاستعماري، وأهدافها الهرمية والنخبوية البعيدة عن مطالب الحياة العادية، ودورها النشط في سحق المقاومة الشعبية. ونتمسك بهذه الخرافة على حساب مستقبلنا السياسي.
لا يحتاج الفلسطينيون قادةً يتوددون إلى الجاني، بل يحتاجون إلى برنامجٍ سياسي يحمل في صميمه رؤيةً اجتماعية لتحرير الإنسان. وسوف يصلون إلى هذا البرنامج السياسي بجهود المقاومين البواسل وليس بجهود النخبة السياسية، وسوف يتشاركونه مع المبادرات الشعبية حول العالم. وهذه الجهود سوف تستعيد أولًا التحرُّرَ الفلسطيني بدلا من صدِّها عن هذا الهدف بقوة نموذجٍ استعماري من الحكم غير المباشر.
ليس في الكفاح ضد الاستعمار خطوات واضحة، بل توجهات واقعية يجب أن يتبعها الفلسطينيون في سبيل صياغة رؤية سياسية جديدة. وتشمل تلك التوجهات إعادةَ توجيه العمل السياسي على نحو استراتيجي وبمشاركة جماعية بحيث يركز على الصهيونية (وليس الاحتلال)، وإنهاء الاستعمار (وليس إقامة الدولة)، والتحرر (وليس السلام المُفلس).
يجب على الفلسطينيين أن يضموا مواردهم النضالية إلى موارد السكان الأصليين الآخرين المكافِحين ضد مستوطنيهم، وأن يلتفتوا إلى التحذيرات المنذِرة بالوصول إلى “وضع نهائي” مماثل لما وصلت إليه تلك الكفاحات. ولا بد لأي مسار بديل للفلسطينيين أن ينطوي على تصورٍ جذري لِما هو ممكن وغير ممكن، يتجاوز ما تم تحديده. فلا يمكن لأحد ان يمنحنامستقبلنا المنشود.
أمل أحمد: الاستراتيجيات وليس الحلول
سوف يحيي الشعب الفلسطيني ذكرى النكبة في ظروف مُلحة ومتأزمة. وإذا كان هناك شيء واحد يجدر أن نتعلمه من السبعين سنةً الماضية، فهو أهمية فهم أهداف الدولة الإسرائيلية واستراتيجياتها من أجل صياغةِ استراتيجيةٍ استشرافية ناجحة للمقاومة وتنفيذها على نحو أفضل. غير أنه من الواضح أن أهمية هذه النقطة لا تحظى بالوعي التام داخل النظام السياسي الفلسطيني.
على الرغم من الدلائل الواضحة التي لا تشير إلى قيام دولة فلسطينية ذات سيادة في المستقبل القريب، ثمة أسئلةٌ مهمة ينبغي أن يناقشها الفلسطينيون أكثر داخل الأرض المحتلة وخارجها، ومنها: ما الفائدة التي تجنيها إسرائيل من استراتيجيتها المتمثلة في استدامة “حل اللادولة”؟ ما هي الأهداف الاستراتيجية الإسرائيلية الوطنية؟ كيف يلبي الاحتلال المستمر تلك الأهداف ولا يعوقها؟ هل تنظر إسرائيل إلى “المشكلة” الفلسطينية على نحو منفصل بحسب المنطقة الجغرافية التي يتواجدون فيها، أم تنظر إلى الفلسطينيين كافة كتهديد واحد؟
تحملَ النقاشات حول الاستراتيجيات نفعًا أكبر من تلك التي تركز على الحلول Share on Xتتجلى مخاطر إغفال تقييم المصالح الإسرائيلية الاستراتيجية تقييمًا صحيحًا، ومخاطر إخطاء الآمال والتطلعات الفلسطينية على أنها إجابات في الفشل الذريع الذي مُنيت به “عملية سلام” أوسلو. فعلى الرغم من أن الأدلة التاريخية جميعها أشارت إلى عدم وجود أي مصلحة إسرائيلية في قيام دولة فلسطينية ذات سيادة، إلا أن منظمة التحرير الفلسطينية/السلطة الفلسطينية استثمرت 20 سنةً في وهم كبير أدى إلى تراجع الفلسطينيين من حيث وحدتهم وقيادتهم وقدرتهم على المساومة وذلك بسبب استماتتها في سبيل إحراز نتيجة إيجابية والدعم المقدم لها من المجتمع الدولي. إن للتقييمات الهزيلة آثارٌ كارثية بوجه خاص على الفلسطينيين نظرا لظروفهم الأولية الوخيمة ووجود مسار التبعية، فالتشرذم وفقدان القدرة على المساومة لا يولِّدان سوى المزيد من التشرذم وفقدان القدرة على المساومة، وهذا يؤدي إلى شَرَكٍ لا ينفك الإفلاتُ منه يزدادُ صعوبةً.
وعليه فإن من المرجح أن تحملَ النقاشات حول الاستراتيجيات وليس الحلول نفعًا أكبر لجهود المضي قدمًا، ولعل الموضوع الأهم الذي يستحق النقاش هو مزايا التشتت مقابل التوحد في صياغة الاستراتيجيات. وتجدر الإشارة مجددًا إلى أن نقطة الانطلاق المناسبة ليست آمال الفلسطينيين ورغباتهم، وإنما فهمُ رؤيةِ إسرائيل لمصالحها الاستراتيجية. فإذا أدركَ الفلسطينيون، على سبيل المثال، أن إسرائيل تنظر إلى الفلسطينيين كافة (في الأرض المحتلة، وداخل إسرائيل، وفي الشتات) كتهديدٍ واحد لمصالحها، فإنه يتحتم أكثر على الفلسطينيين في كل مكان أن يُبرزوا الروابطَ المشتركة التي تجمعهم من خلال الحوار، كحقيقة أنهم كلهم يواجهون ضروبًا مختلفة من الظلم والقمع بسبب استمرار إسرائيل في التمييز في الحقوق التي تمنحها لرعاياها اليهود وغير اليهود في المنطقة الخاضعة لها السيطرة.
يجب على الفلسطينيين أن ينطلقوا من هذه القواسم المشتركة لصياغة رؤيةٍ تفوق سابقاتها من حيث فرصتها في النجاح سياسيًا. إن هذا التفكير المنظم والاستراتيجي ليس طريقةً مؤكدة لإحراز أي “نصر”، بالنظر إلى البيئة الخارجية غير المواتية البتة، ولكنه يبث بعض الأمل في إمكانية الإفلات من الشرَكِ الذي يجد الفلسطينيون اليومَ أنفسَهم فيه أينما كانوا.
حيدر عيد: حقوق لكافة الشعب الفلسطيني
تكمن أهمية طرح السؤال عن رؤية جديدة-قديمة للقضية الفلسطينية في أنه يأتي في مرحلة يتفق الجميع على أنها غاية في الخطورة كون المكونات الرئيسية يتم إزاحتها عن الطاولة. القدس، تم الاعتراف بها من قبل “وسيط عملية السلام” عاصمة لدولة إسرائيل. اللاجئون، يتم النظر لقضيتم من ناحية إنسانية بحت. الضفة الغربية، لم تعد الخارجية الأمريكية تعتبرها أرض محتلة. اما بالنسبة للحصار المفروض على غزة، فقد أصبح أمرًا واقعًا حتى فلسطينيًا.
أشار تقرير الإسكوا الذي صدر في العام الماضي الى ان إسرائيل هي دولة أبارثهيد قامت على تقسيم الشعب الفلسطيني إلى أربع مكونات: اللاجئون، سكان مناطق ال67، سكان اراضي 48، وسكان القدس. وبالتالي فإن أي حل عادل للقضية الفلسطينية يتطلب التعامل مع كل هذه المكونات على أنها الشعب الفلسطيني.
طرحت القيادة المتنفذة في منظمة التحرير الفلسطينية، التي تمثل مصالح طبقية محددة، ما اصطلح على تسميته بالمشروع الوطني الفلسطيني من دون طرح بديل ديمقراطي تحرري يأخذ بعين الاعتبار كل مكونات الشعب الفلسطيني، والذي وصل في نهاية الامر الى أفق مسدود. يكمن التناقض البنيوي في ذلك الطرح في الجمع بين إقامة الدولة على 22% من أرض فلسطين، وفي نفس الوقت المطالبة بعودة اللاجئين الى دولة تعرف نفسها بأنها ليست دولة مواطنيها. بينما يكمن العجز البنيوي أيضاً في برنامج النخبة الحاكمة وتجنبها ذكر المكون الثالث من الشعب الفلسطيني، أي فلسطينيي 48. فجوهر فشل المشروع الوطني الفلسطيني يكمن في عدم تعامله مع المشروع الصهيوني على هذا الأساس بل بتحجيمه الى احتلال عسكري لجزء من فلسطين التاريخية، جزء يقطنه ثلث الشعب الفلسطيني فقط.
أي حل عادل للقضية الفلسطينية يتطلب التعامل مع فئات الشعب الفلسطيني كافة على أنها شعب واحد Share on Xلقد أثبتت مسيرة العودة الكبرى إنه حان الوقت المناسب لطرح رؤى تحررية بديلة بعيداً عن كل الحلول التجميلية التجزيئية كنموذج حل الدولتين العنصري، او أي حل لا يأخذ في الحسبان تطبيق قرار الأمم المتحدة 194. وبالتالي فإن أي حل لا يأخذ الحقوق الأساسية لكل مكونات الشعب الفلسطيني بعين الاعتبار سيعيد خلق عجلة اتفاقيات أوسلو التطبيعية ولن يؤدي إلى سلام عادل في الشرق الأوسط.
هنا تكمن أهمية مطالب حركة المقاطعة، أوسع تحالف لقطاعات المجتمع المدني الفلسطيني، تلك المطالب التي تتعامل مع حق فلسطينيي 67 في التحرر من الاحتلال العسكري، وحق اللاجئين في العودة وتعويضهم، والتخلص من نظام الأبارثهيد الذي يمارس ضد فلسطينيي 48.
لا شك أن غض الطرف من قبل الحركة الوطنية الفلسطينية عن طابع الاستعمار الاستيطاني لدولة إسرائيل، وحصر النضال في حركة تحرر من احتلال لمناطق 67 قد ساهم بشكل مباشر في الإشكالية الوجودية التي يعاني منها الشعب الفلسطيني. وما الوعي الجديد الذي تطرحه حركة المقاطعة، ولجان اللاجئين، ونشطاء حقوق الإنسان والمساواة في مناطق 48، ومسيرة العودة الكبرى إلا إشارات قوية نحو ضرورة طرح البرنامج البديل الذي يتمحور حوله كل نضالات الشعب الفلسطيني.
- تتوفر كافة إصدارات الشبكة باللغتين العربية والانجليزية (اضغط/ي هنا لمطالعة النص بالإنجليزية). لقراءة هذا النص باللغة الفرنسية، اضغط/ي هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.