لمحة عامة
تعاني حقوق اللاجئين الفلسطينيين الإهمالَ منذ فترة طويلة، وما فتئت المعاناة تلاحقهم جيلًا بعد جيل منذ 67 عامًا. يحاجج المستشار السياساتي للشبكة فاتح عزام في مقاله الأخير المعنون “مقترح جريء: على فلسطين أن تمنح لاجئيها الجنسية” بأن على دولة فلسطين أن تمنحَ جنسيتها للاجئين الفلسطينيين عديمي الجنسية، وأن تبرمَ اتفاقات ثنائية مع دول أخرى بخصوص وضع المواطنين الفلسطينيين في كلٍ منها. ورغم أن عزام يحدد المخاطر المحتملة في مقترحه، فإنه يدافع عنه باعتباره مقترحًا يستحق الدراسة والتفكير نظرًا لحاجة مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين الماسة، ولا سيما في سوريا ولبنان وأماكن أخرى كالأردن.
يناقش مستشارو السياسات في الشبكة الإيجابيات والسلبيات لهذا المقترح، ويخلصون إلى مشاكل أكثرَ ممّا ينتهون إلى حلول. تُحذر رندة فرح، صاحبة السجل الحافل في العمل في مجال اللاجئين الفلسطينيين، من الفصل بين القانون والواقع المعقد للسلطة والسياسة، وتصف كيف أن بوسع إسرائيل أن تستغلَ هذا المقترح، بما في ذلك في حملتها الدؤوبة الرامية إلى حل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا). وتشير إنغريد جرادات، أحد مؤسسي مركز بديل لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين والمديرة السابقة له، إلى أن ثمة أدوات وآليات قانونية موجودة بالفعل تمنح اللاجئين الفلسطينيين حقوقًا تكاد تعادل حقوق المواطنين في بلدان اللجوء، وتحتج بأن قانون الجنسية سوف يُضعِف المكانة الدولية للفلسطينيين كشعبٍ واحد.
يستحضر المحامي الدولي المقيم في عمان أنيس قاسم تاريخ الفلسطينيين في الأردن والمشاكل التي يواجهونها اليوم، ويُعبِّر عن خشيته من أن تخدم الفكرةُ حكومةً ذات مصلحة في تجريد مواطنيها فلسطيني الأصل من جنسيتهم الأردنية. ويرى الكاتب والمحلل معين رباني أن الحاجة ماسة للتفكير الإبداعي من أجل تغيير الدينامية السياسية، ولكنه يشير إلى أن الحالة الفصائلية الضيقة التي تتسم بها الحركة الفلسطينية تحول دون اتخاذ أي إجراء. أمّا المعلِّقة السياسية والكاتبة والمؤلفة المسرحية سماح سبعاوي فتشير إلى أن جواز السفر الفلسطيني يحتل المرتبة الخامسة كأسوأ جواز سفر في العالم من حيث القيود على تأشيرات الدخول، وتتساءل عن أي سلطةٍ تستطيع القيادة المريضة أن تمارسها. ويُذكِّرنا جابر سليمان، منسق مركز حقوق اللاجئين (عائدون) في لبنان، بأن الفلسطينيين لم يفقدوا جنسيتهم الأصلية قط، ويعرب عن قلقه من أن المقترح الحالي يُضعِف الحق الجماعي في العودة، رغم أنه قد لا يُضعِف حقَّ الفرد في اختيار العودة.فاتح عزام يرد على القضايا التي طرحت في النقاش.
رندة فرح: إسرائيل ستستغل المقترح
أُثني على عزام لسعيه إلى تعظيم الاستفادة من السُبل الجديدة التي تتيحها مكانة فلسطين من أجل خلق وقائع جديدة على الأرض، ولكن سيتمخض عن مقترحه عواقب غير مقصودة ضارة بالفلسطينيين. لم يخدم القانونُ الدولي القضيةَ الفلسطينية سوى بالقليل، بل إنه استخدِمَ للنيل من الفلسطينيين. وظلت القوى الإمبريالية الكبرى على مر التاريخ صديقةً لإسرائيل لأن مصالحها تتقاطع. وتلك القوى بالتأكيد لا تصطف مع حق العودة، حتى وإنْ كان بعضها مستعدًا لقبول دويلة “ذات سيادة” تقوم على بقاع من الضفة الغربية وقطاع غزة ولا تهدد أمن إسرائيل بالطبع.
الواقع هو أن القانون عالقٌ في حبال السياسة وديناميات القوة، ويُستخدَم إلى حدٍ كبير لخدمة المصالح المهيمنة. وإخراج حجة قانونية نظرية من سياقها السياسي المعقد، ولا سيما من هياكل السلطة القائمة والواقع السياسي في المنطقة، وبخاصة التوجه نحو تطبيع إسرائيل، سوف يساهم حصرًا في إطالة عمر أوسلو السقيمة من خلال شرعنة ودعم وتطبيع الفكرة القائلة بأن حق العودة، إنْ وُجِد، سيكون إلى دولة فلسطين وليس إلى الأراضي المستعمرة في عام 1948.
دعونا نفترض أن المجتمع الدولي سيوافق على أن تُصدِر الدولة الفلسطينية جوازات سفر حقيقية تدل على السيادة والمواطنة ولا تُستخدَم كوثائق سفر فحسب. وبالنظر إلى ميزان القوى، لا نستبعد أن يوافق المجتمع الدولي أيضًا على المقترحات التي ما فتئت إسرائيل ولوبياتها تطرحها بقوة منذ زمن مثل حل الأونروا، وإبطال قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، وهلم جرا. ألا ينبغي لنا أن نقلق بشأن حل الأونروا حين تُمحى مخيمات الفلسطينيين الواحد تلو الآخر؟ وبعبارة أخرى، قد تُستَخدم النوايا الحسنة التي ينطوي عليها مقترح منح الجنسية الفلسطينية ضدنا لأننا الطرف الأضعف وليس في يدنا سوى عدد قليل من الأوراق لنساوم عليها.
قد تثير الجنسية الفلسطينية في الأردن التساؤل حول مدى ولاء الفلسطينيين للأردن. وفي لبنان، قد تعني الجنسية الفلسطينية مزيدًا من حرية الحركة – على الأرجح في السفر إلى خارج لبنان – ولكنها لن تسهل العودة إلى لبنان ولا العمل فيه.
إن من السذاجة أن نعتقد بأن الحاصلين على الجنسية لن يفقدوا وضعهم كلاجئين، ربما ليس على الفور، ولكن بالتأكيد في ظل الظروف الراهنة، وفي سياق تضطرب فيه المنطقة بأسرها. فمن المؤكد أن إسرائيل – المستفيد الوحيد في المشهد السياسي الراهن – سوف تستغل هذا المقترح لتقيم الحُجة من أجل الإدماج وإعادة التوطين، وهما الحلان الدائمان في تصور مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين ونظام اللاجئين. أمّا الحل الدائم الثالث فهو العودة إلى الوطن، الذي ترفضه إسرائيل بحزم، وستظل ترفضه إلى أن يتغير ميزان القوى.
عزام مُحِقٌ في أن حق العودة في القانون الدولي هو حقُّ فردي. ولكن الخطورة تكمن في أن يزداد التركيز، في حال منح الجنسية، على المسؤولية “الفردية” عن حق العودة على حساب مسؤولية دولة إسرائيل والمجتمع الدولي، المتورط تاريخيًا في خلق مشكلة اللاجئين من خلال الخطة التي وضعها لتقسيم فلسطين (قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181).
ينبغي لنا عوضًا عن ذلك أن ندعو إلى إعمال حقوق اللاجئين الفلسطينيين وعديمي الجنسية في العالم العربي (الحق في العمل والتعليم والخدمات الصحية)، كما كان وضعهم في سوريا. ثم ينبغي لنا أن نضافر جهودنا لإعادة حق العودة إلى صميم النضال الوطني الفلسطيني. إن مقترح عزام يصرف الاهتمام عمّا ينبغي للفلسطينيين أن يركزوا عليه، وهو كيفية تعبئة الفلسطينيين وحشدهم في النضال من أجل التحرر الوطني، وسيشغلنا بكتابة مشهدٍ آخر في مسرحية الدولة، بينما تستمر إسرائيل في ابتلاع الأرض وتطهيره السكان عرقيًا.
إنغريد جرادات: إضعاف وحدة الشعب الفلسطيني
يسترشد المقترح على ما يبدو بالفكرة القائلة بأن منح الجنسية الفلسطينية للاجئين الفلسطينيين في المنفى يمكن أن يعززَ الموقفَ الدولي لدولة فلسطين وأن يعودَ بالنفع على اللاجئين. غير أن هناك أسبابًا وجيهة عديدةً لكي تمتنعَ منظمةُ التحرير الفلسطينية/دولةُ فلسطين عن إثبات مكانتها كدولة بهذه الوسيلة.
السبب الأول هو أن الجنسية الفلسطينية لن تعود سوى بالنفع القليل على اللاجئين الفلسطينيين المضطهدين في بلدانهم المضيفة، وذلك لأن دولة فلسطين لا تستطيع أن توفر لهم الحماية على أراضيها. وثانيًا، الجنسيةُ الفلسطينية ليست ضرورية لأن منظمةَ التحرير الفلسطينية/دولةَ فلسطين قادرة أصلًا على تمثيل اللاجئين في المنفى، وعلى التدخل لدى الحكومات والوكالات الدولية بالنيابة عنهم، بل وينبغي لها ذلك، بصرف النظر عن كونهم مواطنين في دولة فلسطين أو لاجئين. وعلى سبيل المثال، ينبغي للمنظمة/دولة فلسطين أن تتدخل لدى الدول العربية لتنفيذ قرارات الجامعة العربية التي تمنح اللاجئين الفلسطينيين معاملةً تكاد تساوي معاملة المواطنين في تلك البلدان.
ينبغي لمنظمة التحرير الفلسطينية/دولة فلسطين أيضًا أن تبني على جهود المحامين ومنظمات حقوق اللاجئين، مثل سوزان أكرم ومركز بديل، وأن تتدخل لدى مفوضية شؤون اللاجئين والدول الموقعة على الاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين لعام 1951، وذلك من أجل تطبيق تلك الاتفاقية على اللاجئين الفلسطينيين تطبيقًا كاملًا بما فيه الاعتراف بأصلهم الفلسطيني وهويتهم الفلسطينية، ومنحهم صفةَ اللجوء التامة كما تنص عليها الاتفاقية أو منحهم نظامًا حمائيًا خاصًا مؤقتًا يرتبط بحلول دائمة مبنية على حق العودة.
ومن الإجراءات البسيطة التي تعود بالنفع المباشر، ينبغي لسفارات منظمة التحرير الفلسطينية/دولة فلسطين – كحقٍ لا مِنَّة – أن تُصدِر جوازات سفر للاجئين الفلسطينيين المفتقرين إلى وثائق سفر سارية.
يقوِّض هذا المقترح، فضلًا على ذلك، المنزلةَ المعترفَ بها دوليًا للفلسطينيين باعتبارهم جميعًا شعبًا واحدًا تمثله منظمة التحرير الفلسطينية وله الحق في تقرير مصيره. وذلك لأن ثمة شرطًا واحدًا لمنح الجنسية أغفله المقترح وهو تبنّي قانون فلسطيني للجنسية. يمنح ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية الفلسطينيين كافة – في الداخل والضفة الغربية المحتلة (بما فيها القدس الشرقية) وقطاع غزة والشتات – الحقَّ في أن يكون لهم ممثلون في حركة التحرير. غير أن هذا الميثاق، وإعلان الاستقلال الذي أصدرته منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1988، لا يلبيان معايير قانون الجنسية للدولة.
وُضِعت مشاريعُ قوانين الجنسية السابقةُ على الرف وأُجِّلت بسبب الانقسام حول مَن يكون المواطن الفلسطيني. فبما أن الأقلية فقط من الشعب الفلسطيني تعيش على الأرض الخاضعة لولاية الدولة، أي الأرض الفلسطينية المحتلة، فإن القانون لا يستطيع أن يعطي الغالبية العظمى من الشعب أكثر من الحق في اختيار الجنسية الفلسطينية. ولكن غالبيتهم لن يكونوا قادرين أو راغبين في تحقيق هذا الخيار بسبب الخوف المبرَّر من انتقام السلطات الوطنية، ولا سيما في إسرائيل والأردن، أو لأن قانون الجنسية المحلي حيث يعيشون لا يُجيز ازدواج الجنسية. ومن خلال إنشاء جيوب “منكمشة” من المواطنين الفلسطينيين، فإن دولة فلسطين سوف تُمعِن في تجزئة الشعب الفلسطيني وتفاقم أزمة تمثيله السياسي.
أنيس قاسم: توقيت سيء، لا ضمانات
رغم أن فكرة منح الجنسية مثيرة جدًا للاهتمام وجريئة وتنم عن خيالٍ واسع، فإني أتحفظ بشدة على توقيتها. فكما يعلم الجميع، مُنِحَ فلسطينيو الضفة الغربية الجنسيةً الأردنية بالغصب تقريبًا، إذ أدخلت الحكومة الأردنية في كانون الأول/ديسمبر 1949 تعديلًا في قانون الجنسية الأردني وفرضت بموجبه جنسيتها على الفلسطينيين سواء اللاجئين في الضفة الشرقية أو الباقين في الضفة الغربية.
وبعد أربعة عقود، بعد رسوخ ادعاء منظمة التحرير الفلسطينية بتمثيل الشعب الفلسطيني بأكمله وتصاعد وتيرة الانتفاضة الأولى، نفضَ الراحلُ الملك حسين يديه من الضفة الغربية بقطعه العلاقات القانونية والإدارية بين الضفتين في خطاب متلفز. وبالرغم من أن ذلك الخطاب لم يتحول إلى تشريع قط، فإن الحكومات الأردنية وضعت لوائح “سرية” أخذت تزيد قسوة الحياة بالنسبة لأولئك الفلسطينيين الذين أصبحوا مواطنين في الأردن منذ العام 1949، وألغت جنسية أعدادٍ لا تحصى منهم.
لم تُنشر تلك اللوائح أو يُعلن عنها رسميًا قط، بل إن الحكومة أوعزت إلى القضاء بعدم النظر في أي دعوى يرفعها الأردني من أصل فلسطيني للطعن في سحب جنسيته بهدف استعادتها. وهكذا فإن الأردني من أصل فلسطيني، وهو مواطن كامل المواطنة، لا يستطيع الاستفادة من الحماية التي توفرها القوانين الموضوعة لأجله. ولعل هذا هو العاقبة الأشد وبالًا لهذه اللوائح.
ومع ذلك، واستنادًا إلى مقترح عزام الجديد، فإنني قلقٌ جدًا من أن تغتنم الحكومة الأردنية هذه الفرصة لسحب الجنسية الأردنية من جميع الأردنيين ذوي الأصل الفلسطيني. وينبع قلقي، باختصار، من أنه إذا كان الأردني من أصل فلسطيني لم يُعطَ حقوقًا دستوريةً وقانونيةً بعد أربعة عقود، فماذا سيكون موقفه إذا اكتسب الجنسية الفلسطينية؟
الجانب الثاني يتعلق بالقيادة الفلسطينية: فهل بوسعها حقًا أن تسنَّ قانونًا للجنسية؟ فكما نعلم جميعًا، الدولة ذات السيادة فقط هي مَن يمكنها أن تمنح الجنسية. فرغم أن فلسطين قد توصف كدولة، فإنها تفتقر إلى السيادة. وعلى سبيل المثال: هل تستطيع دولة فلسطين أن تستقبل مواطنًا فلسطينيًا ينحدر من نابلس بعد ترحيله من ألمانيا أو بعد منعه من دخولها؟ هل تستطيع دولة فلسطين أن تمنح الصفة القانونية لسفينةٍ أو طائرة من خلال تسجيلها في مينائها أو مطارها؟
وبصرف النظر عن الوضع السائد في سوريا منذ العام 2011، تمتع الفلسطينيون هناك بحقوق ثابتة منذ العام 1948 تقريبًا رغم تغير الحكومات السورية وتعاقبها. ولم ينقصهم سوى حق الجنسية. والشيء نفسه يمكن أن يُقال عن الفلسطينيين في العراق حتى الغزو الأمريكي للبلاد. الفلسطينيون في لبنان هم فقط مَن لم يُمنحوا حقوقًا مماثلةً، وإعطاؤهم شهادات جنسية لن يخفف معاناتهم.
معين رباني: تحدي الدينامية السائدة
يقترح فاتح عزام على دولة فلسطين أن تمنحَ جنسيتها للفلسطينيين كافة. وبينما يشير إلى أن الصفة الممنوحة للفلسطينيين في الأرض المحتلة بموجب اتفاقات أوسلو لم تغير شيئًا فعليًا، وإنما ساهمت في زيادة تفتيت الشعب الفلسطيني، يبين عزام الأهداف والفرص التي ينطوي عليها مقترحه. وكيلا ننقصه حقه، فإنه يحدد ويناقش أيضًا العقبات والمخاطر المحتملة التي تعترض مقترحه.
إن أكثر ما يشدَّني في مقترح عزام هو تلك الجوانب التي يمكن أن تساعد في تحدي الديناميات السياسية السائدة وتغييرها، ومنها على وجه التحديد أن إقدام دولة فلسطين على منح الجنسية أحاديًا يمكن أن يُباعد بين الفلسطينيين وإطار أوسلو، ويُقللَ تبعية السلطة الفلسطينية وانقيادها لإسرائيل وحلفائها العرب والغربيين، ويمكِّنَ منظمة التحرير الفلسطينية من استعادة التفوق المؤسسي الذي خسرته لصالح السلطة الفلسطينية، ويستحدث، بحسب عزام، مُحركًا فلسطينيًا يبدد سكون المياه الراكدة المنتنة التي أوجدتها أوسلو وقيادة محمود عباس على وجه الخصوص.
ولكن المشكلة تكمن هنا، ففي حين أن الحركة الوطنية الفلسطينية في أمسِّ الحاجة إلى مقترحات خلاقة ومبتكرة كمقترح عزام، فإن تلك الحركة لم تعد موجودة. وقد تخلى مناوئوها فعليًا، في رام الله ومدينة غزة في الوقت الراهن، عن أي شيء يشبه – ولو من بعيد – مشروعًا وطنيًا صادقًا، وهم يُقدِّمون الفصائلية على المصلحة الوطنية دائمًا، وصاروا خبراء في إفساد أي جهد يرمي إلى التعبئة الشعبية. ولا نبالغ إذا قلنا إن وجود الشعب الفلسطيني في العام 2015 صار واقعًا ديموغرافيًا وحسب، حيث لم يعد فاعلًا سياسيًا متماسكًا عابرًا للدول والأقاليم. وفي ظل هذه الظروف، وبالنظر إلى الأولويات الضيقة للقيادات الفلسطينية التي نصبت نفسها بنفسها، فإن مقترح عزام – أو أي مقترح آخر يسعى إلى تجاوز الوضع الراهن – لن يُسفر إلا عن واقعٍ افتراضي.
هذا ليس انتقادًا لعزام شخصًا أو مقترحًا. بل على العكس لأننا بحاجة ماسة للتفكير الإبداعي الفلسطيني وللنقاش والتحاور حول الأفكار من هذا القبيل. ولكن حتى يصير لهذه المبادرات والنقاشات حولها جدوى وتأثيرات سياسية، فإن الأولوية الأولى تظل تتمثل في إعادة بناء المؤسسات الوطنية الفلسطينية على أساس شاملٍ للكافة وتمثيلي.
سماح سبعاوي: التركيز على تجديد الجسم السياسي الفلسطيني
يستحق فاتح عزام الشكر على محاولته لإيجاد وسيلةٍ تخفف معاناة اللاجئين الفلسطينيين المستمرة. ولكن منح الجنسية الفلسطينية للاجئين، للأسف، قد لا يكون هو الحل في ظل غياب دولةٍ فلسطينيةٍ قويةٍ حرة مستقلة.
لم تعد دولة فلسطين التي تصورتها منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1988 موجودة. فمنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية مستعدتان اليوم لقبول سلسلةٍ من البانتوستانات منزوعة السلاح، داخل حدود عام 1967 وليس على امتدادها، مع إجراء عمليةٍ لتبادل الأراضي تشرعن وجود المستوطنات الكبيرة. وفي هذه المسماة تجاوزًا بالدولة، فشلَ القادةُ الفلسطينيون في التخفيف من معاناة القاطنين تحت سيطرتهم المفترضة، فأي فائدة تُرجى منهم بالنسبة للاجئين الفلسطينيين عديمي الجنسية في البلدان المجاورة؟
وحتى بعد اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطين، فإن دول الجوار، ولا سيما المستضيفة لأكبر تجمعات اللاجئين الفلسطينيين، ترفض جوازات سفر الفلسطينيين، وهي الوثيقة الأهم بحوزتهم. إن جواز السفر الفلسطيني، مثل السلطة الفلسطينية، هو أحد مخرجات أوسلو، ووجوده يتوقف على موافقة إسرائيل. وفي الواقع، حلَّ جواز السفر الفلسطيني هذا العام في المرتبة الخامسة الأسوأ في العالم من حيث القيود التي يواجهها حامله في الحصول على تأشيرات الدخول. وهكذا، بدلًا من أن يكون تعبيرًا عن الجنسية والاستقلالية الفلسطينية، صار تذكيرًا دائمًا بالافتقار إليهما.
القادةُ الفلسطينيون غيرُ قادرين على توقيع اتفاقات ثنائية تقدم مزايا سياسية مثل تأشيرات الدخول للزوار أو الإقامة المؤقتة لمواطني البلدان الأخرى الراغبين في العمل أو الدراسة في فلسطين. فدولة فلسطين، في ظل الاحتلال الإسرائيلي ودون أي سلطةٍ على حدودها أو اقتصادها، تفتقر إلى السلطة السياسية اللازمة للتعامل بالمثل دبلوماسيًا مع الدول الأخرى، ناهيك عن ضمان دخول اللاجئين عديمي الجنسية إلى فلسطين المحتلة.
يتحدث عزام في مقترحه عن إنشاء سجلٍ للجنسية في وقتٍ لا يزال القادةُ الفلسطينيون لا يتحكمون في سجل مواليد شعبهم الذي لا يزال بيد إسرائيل كما بطاقات الهوية المفروض أن يحملها الفلسطينيون كافة في فلسطين المحتلة.
بدلا من منح جنسيةٍ فلسطينية رمزية للاجئين عديمي الجنسية، نحن بحاجة إلى التركيز على موضوع آخر يطرحه عزام، وهو دمقرطة منظمة التحرير الفلسطينية وإصلاحها، ووضع سجل لحصر الفلسطينيين حول العالم، وهما خطوتان أساسيتان طال انتظارهما. ومتى ما أُنشئ سجلٌ من هذا القبيل، فإنه حتمًا سيُفضي إلى انتخابات حرة وشفافة تشمل أصوات الفلسطينيين كافة.
ولعلَّ هذا هو السبيل الوحيدة لتوحيد النسيج الاجتماعي والسياسي الفلسطيني الذي مزقته أوسلو. فإذا امتلكنا نظامًا أفضل للتمثيل والمساءلة، قد نستطيع التخلص من السلطة الفلسطينية وليدة أوسلو السقيمة، وأن نفسحَ الطريق أمام جيلٍ جديد من القادة الفلسطينيين أقوى وأقدر.
سليمان: “مواطنون افتراضيون” بلا حقوق
تثير الورقة مجموعة من التساؤلات، أبرزها: هل اللاجئون الفلسطينيون عديمو الجنسية حقًا؟ وما هي التغييرات التي ستطرأ على وضعهم القانوني من خلال منحهم الجنسية الفلسطينية؟ وكيف تؤثر هذه الخطوة في حقهم في العودة؟ وما هي الأولويات الوطنية الفلسطينية في هذه المرحلة؟
إن فكرة اعتبار اللاجئين الفلسطينيين عديمي الجنسية تبقى مثارَ جدلٍ قانوني. إذ يحاجج بعض القانونيين بأن الجنسية الفلسطينية التي أُنشئت عام 1925 وفق المادة (7) من صك الانتداب على فلسطين لم تلغَ مع إلغاء الانتداب البريطاني على فلسطين .فقد حافظ الفلسطينيون على جنسيتهم رغم حرمانهم من ممارستها بمعنى المواطنة القانونية الفاعلة. ومن الجدير بالذكر أن بعض الفقهاء القانونيين يميزون بين الجنسية والمواطنة، ويعتبرون المواطنة أقل مرتبة من الجنسية، فالمواطنة يتمتع الفرد في ظلها بجنسية الدولة، ولكنه لا يتمتع بكامل الحقوق كالحقوق السياسية مثلاً.
وما دام الفلسطينيون، بمن فيهم اللاجئون، لم يفقدوا الجنسية الفلسطينية أصلاً، فإن الخطوة التي تطالب بها الورقة ستحولهم إلى مجرد رعايا أو “مواطنين افتراضيين” لدولة فلسطين في البلدان المضيفة، لا يتمتعون بكافة الحقوق المدنية والسياسية التي تمنحها “دولتهم” لشعبها.
هناك من يجادل بأن الدولة الفلسطينية بوضعها الراهن لا تمتلك الأهلية القانونية لبسط ولايتها على السكان الفلسطينيين في الشتات اللاجئين في معظمهم، حيث إن ولايتها القانونية محصورة جغرافيًا وديموغرافيًا في الضفة الغربية وقطاع غزة. فإذا كان منح الجنسية عملاً من أعمال السيادة بالنسبة للدول، فهل تمتلك “دولة فلسطين” منقوصة السيادة والواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي الحقَّ القانوني في القيام بهذا العمل؟
لا أظن أن المجتمع الدولي (وخاصة إسرائيل والولايات المتحدة) سيعارض مثل هذه الفكرة كما توحي الورقة، بل سيفسرها على أساس أن قضية اللاجئين قد حُلّت من خلال إضفاء صفة المواطنة عليهم، تلك الصفة التي تخولهم العودة إلى الدولة التي يحملون جنسيتها، وليس إلى بيوتهم الأصلية وفق القرار 194. صحيح أن اكتساب الفلسطيني لأي جنسية، سواء كانت فلسطينية أو غيرها، لا يُسقط قانونياً حقه في العودة كحقِّ فردي مبني على حرية الاختيار. ولكن في حال اكتسب اللاجئون الفلسطينيين جنسية دولة فلسطين بشكل جماعي سيولد ذلك مخاطر جدية على حق العودة كحق جماعي يرتبط ارتباطا وثيقا بحق تقرير المصير.
إن من غير المرجح أن الدول العربية المعنية ستجد من مصلحتها توقيع معاهدات ثنائية مع دولة فلسطين تمنح الرعايا الفلسطينيين في تلك الدول مزايا ومعاملة تفضيلية “متبادلة”؛ فما هو المقابل الذي ستقدمه دولة فلسطين المنقوصة السيادة والتابعة اقتصادياً لإسرائيل للرعايا العرب، تطبيقاً لمبدأ المعاملة بالمثل؟ وخاصة أن بعض الدول العربية التي ترشحها الورقة لعقد مثل هذه الاتفاقيات الثنائية (لبنان وسوريا) تعتبر إسرائيل دولةً عدوة، ولا تسمح لمواطنيها بمجرد زيارة دولة فلسطين الواقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، والتي لا تمتلك السيادة على حدودها الافتراضية.
إنه لمن الأجدى أن تضغط “الدولة الفلسطينية” على الدول المضيفة من أجل منح اللاجئين الفلسطينيين طيفاً أوسع من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بدلاً من تحويلهم إلى “مواطنين افتراضيين”، وخاصة أن طيف الحقوق ومدى الحماية الواجب على الدولة المضيفة تقديمها للاجئين بموجب القانون الدولي هي أوسع بكثير من المزايا والمعاملة التفضيلية التي ستكفلها الاتفاقيات الثنائية في حال تمكنت دولة فلسطين من إبرامها مع الدول المعنية. ومن المرجح أن تلك الدول لن تكون أكثر تسامحاً مع المواطنين/الرعايا الفلسطينيين منها مع اللاجئين الفلسطينيين، حيث أن المشكلة ستبقى في السياسات اللاعقلانية لتلك الدول التي تميز ضد الفلسطينيين سواء كانوا مواطنين أم لاجئين.
السؤال الجوهري هو: هل ينبغي للفلسطينيين أن يولوا الأولوية لخيار مواصلة النضال حتى تحقيق أهداف التحرر الوطني، أم لإنشاء الهياكل والنظم القانونية المؤسسية بما فيها تلك المتعلقة بالجنسية؟ ينبغي في اعتقادي إعطاء الأولوية الوطنية وبدون تردد للخيار الأول، بعيداً عن وهم الدولة ذات السيادة. وفي هذا السياق يجب الإسراع في إنهاء الانقسام وإعادة بناء التوافق الوطني الفلسطيني حول خيار التحرر الوطني على حساب خيار بناء الدولة. وينبغي أن تتوج هذه العملية بإعادة بناء المنظمة على أسس ديموقراطية وإشراك اللاجئين في الداخل والشتات في كل مراحل إعادة البناء، وصولاً إلى تمثيلهم في كل أطر ومؤسسات المنظمة، بما يليق بدورهم الفاعل في الحركة الوطنية الفلسطينية.
فاتح عزام: رد
فكرة منح الجنسية الفلسطينية ليست بالفكرة الجديدة خاصة إذا ما وضعت في سياقها التاريخي1. فثمة أدبيات تناقش هذه الفكرة وقد استشرت بعضها. اقترحت بأن تقوم دولة فلسطين المعترف بها مؤخراً بمنح لاجئيها الجنسية أولاً من أجل الإضافة للأدبيات المتوفرة، وثانياً من أجل اقتراح خطوة سياسية إضافية آمل أن تكون محل نقاش إضافي.
بموجب المعلومات المتوفرة لدي، يعتبر د.عاصم خليل من جامعة بيرزيت الوحيد الذي اقترح مقترحاً مشابهاً لما أطرح2. أشكر عاصم لتواصلنا الكتروني المقتضب والمفيد حول هذه القضية. كذلك أود شكر الأصدقاء والزملاء الذين قاموا بقراءة مسودات أولى من المقترح وبتقديم اقتراحات مفيدة ومساعدة للغاية، وأخص بالذكر كل كم أنيس قاسم وسري حنفي ونضال جردي ونورا عريقات.
أشكر كلَّ مَن علَّق وشارك في حلقة النقاش هذه. ربما نختلف أو نتفق، ولكن المؤكد أن ما من أحد منا يملك حكراً على الأفكار، وأنا مسرور لأن المقترح أثار نقاشاً نحتاج إليه، وآملُ أن تواصل الشبكةُ استضافةَ هذه الحوارات. إن المسائل والحيثيات التي أثيرت في التعليقات تتطلب نقاشًا أوسع بكثير مما هو متاح لي في هذا المقام، لذا فإن هذا الرد محدودٌ بمقتضى الضرورة ويركز على العموميات.
كنت قد أبرزتُ في المقترح بالفعل العديدَ من المخاطر التي أشار إليها المعلقون، وقلت إنها تحتاج إلى دراسةٍ مفصلة قبل الإقدام على أي خطوة. تثير التعليقات بضع أفكار جامعة أتفق معها، من قبيل أن القيادة السياسية الفلسطينية الحالية قد لا تملك القوة السياسية الكافية للتفاوض نيابةً عن مواطنيها، وهي بحاجة إلى إصلاح أو تغيير جوهري قبل أن تتمكن من ذلك، وأن المقترح قد يواجه من الدول العربية سياسات أكثر سلبية. ولكني أقل قلقًا إزاء ردود الفعل الإسرائيلية والأمريكية. هناك أيضًا اتفاقٌ عام على أهمية إنشاء سجل للفلسطينيين، وسنِّ قانونٍ للجنسية بوسعه أن يؤسس لإعادة دسترة القيادة الفلسطينية بناءً على انتخاباتٍ حرة لاختيار أعضاء المجلس الوطني. وسيتطلب تجاوزُ “الشرعية الثورية” التاريخية لمنظمة التحرير الفلسطينية قرارًا بإعادة تصور السلطة الفلسطينية كهيكلٍ فرعي بدولة فلسطين التي يجب أن تمثل الفلسطينيين كافة.
ومع ذلك، أختلف مع عدد من الأفكار المطروحة الأخرى، ولا سيما القول بأن فلسطين – تحت الاحتلال – لا تملك السيادة الكافية لتنفيذ هذا المقترح. فبخلاف مواطن الضعف والقدرات، تمتلك فلسطين السيادة إنْ هي تصرفت كذلك، واتخاذُ تدبيرٍ من قبيل منح الجنسية لا يعتمد على طرف مانح آخر ذي سيادة. والاتفاقات الثنائية والدولية هي عصب القانون الدولي والعلاقات بين الدول. وفرض وقائع على الأرض من قبيل وضع قوائم للجنسية وإبرام اتفاقات ثنائية يساعد في ترسيخ السيادة.
نحن نحتاج إلى أفعال – وليس خطابات – سياسية تمثل رؤيتنا وأملنا في المستقبل. فإذا كان قبول منظمة التحرير الفلسطينية بحل الدولتين خطأ، فإننا بحاجة إلى اقتراح البدائل، وهي أن نأخذ كلَّ موقفٍ سياسي ونقترح استراتيجيات وخيارات وإمكانيات لتنفيذه، وأن نسير في هذه السيناريوهات إلى آخرها عوضًا عن التسليم بتكرار ما نتفق عليه جميعًا. وهذا ما حاولت فعله في هذا المقترح.
سوف تظل المخاطر السياسية وغير السياسية تقترن بالمقترحات مثل مقترح منح الجنسية. وبالنظر إلى حالتنا المتشعبة، فإن المخاطر ستظل قائمةً مهما فعلنا. ولكن المخاطر الأشد تنشأ من عدم تحريك السواكن، والجعجعة من غير فعل في حياتنا اليومية، والاعتماد ببساطة على رد الفعل على كل سياسة أو تدبير إسرائيلي، والتأكيد على ثوابتنا عند كل منعطف. فإذا لم نبدأ في التفكير بطرق عملية واستراتيجية حول ما يجب فعله إزاء وضعنا، فإننا سنظل لآخر الدهر نقرأ ونكتب مقالات نشكو فيها من غلبة السياسة للقانون، واستغراق فلسطين في الاقتصاد النيوليبرالي، وفساد القيادة وانعدام شرعيتها، والمؤامرات التي تحيكها أمريكا والدول العربية، ومؤسسات الاستعمار وما بعد الاستعمار المصطفة ضدنا، وسوف نظل ضحايا، بدلًا من فاعلين يقاتلون من أجل حقوقهم.
- على سبيل المثال أطروحة الدكتوراة لمعتز قفيشة “The International Law Foundations of Palestinian Nationality: A Legal Examination of Palestinian Nationality under the British Rule” Université de Genèva, 2007.
- 24378, “Palestinians to Citizens: Is Citizenship a Solution to the Palestinian Refugee Problem?” Middle East Law and Governance 6(2014)204-224. يحاجج عاصم خليل بأنه وبالرغم من المخاطر إلاّ أن منح الجنسية الفلسطينية للاجئين سيعزز مكانتهم