ما هي الرؤية الفلسطينية للتنمية التي من شأنها أن تُحقق التحرير؟ وكيف يمكن إدراك هذه الرؤية بمعزلٍ عن شروط المانحين وقيودهم؟ وعلى وجه التحديد، كيف يمكن للفلسطينيين أن يطوروا قطاعي الصحة والتعليم - المهمَليْن منذ سنوات من السلطات الفلسطينية - على نحو يُحفِّز وجودَ رؤية جماعية للمستقبل؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة قابلت المؤلفة مجموعةً من 19 باحثًا وناشطًا ومعلمًا ومهندسًا ومحاميًا وطبيبًا وتاجرًا وعاملَ إنشاءات وطالبًا في الضفة الغربية وغزة وداخل الخط الأخضر (الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل) وفي الشتات.
يمر النظام الصحي الفلسطيني في أزمة. ففي حين أن دعم المانحين مكَّن وزارة الصحة من إدخال تحسينات كمية على صعيد معدلات التطعيم ومتوسط العمر المتوقع، إلا أن القطاع الصحي لا يزال يواجه مشكلات كبرى، ليس أقلَّها انقسامُ وزارة الصحة بين الضفة الغربية وغزة. وقد كشفت المقابلات عن ثلاثة محاور مترابطة تحدُّ من التنمية الداخلية في قطاع الصحة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة: 1) الاستعانة بمصادر خارجية في توفير العديد من الخدمات الصحية، 2) وجود مؤسسة صحية أبوية وتطبيبية بشكل مفرط، 3) وغياب الفرص المستقبلية للعمل في مجال الطب.
وفي حين أن واقع الاحتلال يُقيد صحة الفلسطينيين بأساليب فريدة، فإن هناك مبادرات يمكن أن تُسهم في الارتقاء بصحة العامة وبناء نظام صحي أكثر استجابة، بما في ذلك:
- تأكيد أهمية العافية الوقائية والشاملة - بما فيها الصحة العقلية والبدنية، وصحة الأطفال، وصحة المرأة، وصحة ذوي الإعاقة - في نشر الصحة والرفاه في المجتمع.
- إصلاح التعليم الطبي ليعكس واقع الأماكن التي سيعمل فيها الأطباء المتخرجون. وفي هذه الصدد، يمكن لطب الصدمات وكذلك التدريب المتقدم للمستجيبين الأوائل وفنيي الطوارئ الطبية أن يقلل معدل الوفيات عند الفلسطينيين المصابين بسبب عنف الدولة الإسرائيلية أو المستوطنين.
- تقديم الحوافز للأطباء الفلسطينيين والعاملين في المجال الطبي المتدربين في الخارج لتشجيعهم على العودة ومزاولة الطب من خلال تأمينهم بوظيفة وراتب.
- العمل مع المؤسسة الطبية، بما في ذلك وزارتي الصحة في الضفة الغربية وغزة، لتطوير نموذج جديد ومستقل للطب والصحة العامة والعافية في فلسطين. ومن شأن ذلك إشراك أصحاب المصلحة من خارج النظام الصحي المتحجر الذين بوسعهم أن يدعموا الشرائح السكانية المحرومة، والأهم من ذلك، أن يقلصوا اعتماد الفلسطينيين على النُظم الصحية الإسرائيلية والأجنبية.
أجمعَ المقابَلون على أهمية التعليم، بيد أن بعضهم أشارَ إلى المفارقة التي نشأت في السنوات الأخيرة في واقع هذا المنظور، حيث أبناء المجتمع الفلسطيني المتعلمون لا يكادون يجدون الآن فرصةً للعمل أو مواصلة التعليم. برزت أثناء المقابلات أربعة محاور كعوائق أساسية أمام تطوير "التعليم من أجل التحرير" في الضفة الغربية وغزة: 1) المناهج والمقاربات المتقادمة في علم التربية والتعليم، 2) تأثير المانحين ونفوذهم الجامح، 3) النظرة إلى التعليم كوسيلة للحصول على وظيفة في المقام الأول، 4) ومعارضة الإصلاح داخل السلطة الفلسطينية وحماس.
انتقد العديد من المقابَلين "تقاعسَ" السلطات الفلسطينية في مجال إصلاح التعليم. وانتقدوا أيضًا نظام التعليم بسبب خضوعه الكبير لتدخلات المانحين، بما في ذلك في الكتب المدرسية. وفي حين أن أوجه القصور في نظام التعليم تتفاقم بفعل القيود الإسرائيلية المفروضة على الحركة التي تحد من فرص توظيف أعضاء الهيئات التدريسية والكوادر الأخرى، وتحدُّ من قدرة الطلبة على التفاعل مع المتحدثين والضيوف والتنقل لحضور الفعاليات واغتنام الفرص عمومًا للانخراط والعمل والمشاركة، إلا أن إحداث التغيير الداخلي ممكن في المجالات التالية:
- يجب على القيادة الفلسطينية أن تستثمر في تطوير المناهج التي تعيد الشعور بالقوة بين الطلبة، بالاعتماد على نماذج تعليمية مثل "abolitionist education" [التعليم المتحرر] والتعليم المجتمعي الذي طُبِّقَ أثناء الانتفاضة الأولى. ويجب أن يكون النظام التعليمي شاملًا للكافة، وأن يتضمن التجارب المعاشة، وأن يرفع وعي الأفراد.
- ينبغي للمجتمعات المحلية أن تُكمِّل التعليم التقليدي من خلال التعليم الثقافي مثل المسرحيات والحوارات والمناظرات وفعاليات قطف الزيتون وفرق الرقص الشعبي وما إلى ذلك.
- ينبغي مضافرة الجهود لإيجاد محتوى صحيح وموثوق على وسائل التواصل الاجتماعي لتحفيز مشاركة الشباب في تاريخهم وهويتهم.
- ينبغي للقيادة الفلسطينية أن تستثمر في التعليم المهني وغير التقليدي، وأن تدفع المانحين إلى جسر الفجوات التعليمية القائمة.
- ينبغي للقيادة الفلسطينية والمجتمع المدني الفلسطيني أن يقدموا الحوافز للفلسطينيين الذين يسافرون للخارج بغرض التعليم أو التدريب لتشجيعهم على العودة والعمل في فلسطين، حتى ولو لفترة مؤقتة.
من بين الملاحظات التفاؤلية التي ذُكرت في المقابلات فكرة أن فلسطين يمكن أن تتغير، بل وأن تكون المحور لنوعٍ جديد
من التحرير: "ينبغي لنا أن نكون مَن يحل هذه المشكلات داخليًا وأن نُصدِّر حلولنا إلى الخارج." فقد أجمعَ المشاركون في المقابلات على أن التغيير الملموس لن يأتي من الخارج، وأن على الفلسطينيين أن يمتلكوا رؤية جماعية من أجل المستقبل لإحداث هذا التغيير.