ملخص تنفيذي
- ما برح المزارعون الفلسطينيون يتصدرون الخطوط الأمامية للمقاومة، ويواصلون التصدي للزحف الاستيطاني.
- فكَّكت اتفاقات أوسلو ببطءٍ البنى الشعبية التي انبثقت من التنظيم المناهض للاستعمار، وذلك بموجب ذريعة جديدة هي "بناء الدولة".
- تسبَّب تقاعس السلطة الفلسطينية عن التصدي لعقودٍ من الإفقار التنموي على يد النظام الإسرائيلي في تفتت الاقتصاد الفلسطيني بشدة، وارتفاع مستويات البطالة فيه.
- دأبَ النهج السائد في تحقيق الأمن الغذائي على إتاحة الغذاء من خلال التجارة أو المساعدات الغذائية، بيد أنه ينزِع إلى تجاهل ديناميات القوى المؤثرة في إتاحة الغذاء.
- انبثق مفهوم السيادة الغذائية من الحاجة إلى إعادة التفكير في نموذج الأمن الغذائي ومعالجة أوجه القصور فيه في بلدان الجنوب العالمي.
- المقصود بالسيادة الغذائية "حق الشعوب في الحصول على الأغذية المناسبة صحيًا وثقافيًا، والتي تُنتج بوسائل مستدامة ومناسبة بيئيًّا، وحق الشعوب في تحديد غذائها ونُظمها الزراعية بنفسها."
- توفر السيادة الغذائية مصادر بديلة لكسب العيش، وبالتالي مساحة أكبر للمقاومة والعمل دون الخوف من الجوع.
- التحول الناجح نحو تحقيق السيادة الغذائية يجب أن يقترن بحركة اجتماعية وسياسية أوسع نطاقًا لتشجيع الفلسطينيين على دعم مزارعيهم، حتى حين تكون أسعارهم أعلى نسبيًّا.
- ينبغي للمجتمع الفلسطيني اتخاذ خطوات فعلية لإعادة التركيز على السيادة الغذائية، بما في ذلك من خلال إنشاء صندوق للسيادة الغذائية، وتأسيس شبكات تجارية وتضامنية مع المزارعين الفلسطينيين، وتوسيع نطاق مقاطعة البضائع الإسرائيلية، والاستثمار في التكنولوجيا الزراعية، وتعزيز التثقيف الشعبي في مجال الإيكولوجيا الزراعية.
مقدمة
عكف الفلسطينيون منذ زمن على تأسيس اقتصاد مقاوم في إطار كفاحهم ضد الاستعمار الصهيوني الاستيطاني. والاقتصاد المقاوم هو أشكال التنظيم الشعبي الذي تخدم فيه المؤسسات والأنشطة الاقتصادية الأهداف السياسية للنضال الفلسطيني. وقد نشأ مفهوم الاقتصاد المقاوم عفويًّا إبان العقود الأولى من النضال من أجل التحرير، ليصبح فيما بعد ركيزةً أساسية للانتفاضة الأولى. وكان يُنظر إلى الاستقلال الاقتصادي آنذاك بوصفه وسيلةً لاستدامة الكفاح ضد الاستعمار.1
تُعدُّ السيادة الغذائية، اليوم، امتدادًا طبيعيًّا لهذا النوع من المقاومة، حيث ترتكز إلى مبادئ الاكتفاء الذاتي الزراعي المُتبعة على مرِّ تاريخ الثورة الفلسطينية. وعليه، يتتبع هذا الموجز السياساتي نشأة السيادة الغذائية والتحديات التي يواجهها الفلسطينيون لتفعيلها على الأرض. ويرى أن ذلك سيساعد في تأطير الاقتصاد المقاوم ضمن سياق أنسب في الوقت الحاضر، بما يُمهِّد الطريق نحو تأسيس نظام اقتصادي أشد مماحكةً.
الزراعة والاقتصاد المقاوم بين الماضي والحاضر
بالنسبة إلى الشعوب الأصلية المقاوِمة للاستعمار الاستيطاني، غالبًا ما تعني السيطرة على الأرض السيطرة على الحياة. فما برح المزارعون الفلسطينيون يتصدرون الخطوط الأمامية للمقاومة، ويواصلون التصدي للزحف الاستيطاني.
تُعدُّ الزراعة – ولا سيما التعاونيات الزراعية – مكوِّنًا أساسيًا في الاقتصاد الفلسطيني المقاوم على مرِّ التاريخ. غير أنّ هذا النمط الإنتاجي شهدَ انتكاسةً كبيرة أثناء النكبة مع خسارة أغلب الأراضي الفلسطينية والتطهير العرقي لقرابة مليون فلسطيني. ونتيجة لذلك، قلت التعاونيات الزراعية بنسبة 87% في بضع سنوات بُعيد النكبة. ورغم أنها لم تتعافَ تمامًا، إلا أنَّ المزارعين الفلسطينيين بذلوا جهودًا بارزة لاستدامة الزراعة بوصفها مكوِّنًا أساسيًا في المقاومة الاقتصادية.
تُعدُّ الزراعة – ولا سيما التعاونيات الزراعية – مكوِّنًا أساسيًا في الاقتصاد الفلسطيني المقاوم على مرِّ التاريخ Share on X
من أمثلة ذلك “حدائق النصر” في الانتفاضة الأولى، حيث كانت مبادرات شعبية ركزت على الأنشطة الزراعية الصغيرة على مستوى الأحياء والمنازل. ونشأت كذلك بعض التعاونيات إبان تلك الفترة، مثل “السقيفة” في بلدة بيت ساحور التي وفَّرت البذور والأدوات والمبيدات الحشرية بسعر التكلفة للفلسطينيين في المناطق المحيطة. وبفضل تلك المشروعات وغيرها، زُرع ما يزيد على 500,000 شجرة في مختلف أنحاء فلسطين بين عامي 1987 و1989 بحسب التقديرات. وقد أغاظت تلك الجهود إسحاق رابين حتى إنه أصدر تعليماته للجيش بفرض حظر تجول على القرى الفلسطينية أثناء موسم الحصاد كي تتعفن محاصيلهم في الحقول.
بالرغم من أهمية دور الزراعة في الاقتصاد الفلسطيني المقاوم، لا ينبغي إغفال أبعادها السياسية والاجتماعية أيضًا. فقد حملت هذه المشروعات في طياتها رفضًا للوضع الاستعماري. وأسهم التركيز الجماعي على الإنتاج الزراعي في المنازل والأحياء في تعزيز التضامن والمشاركة الجماعية والشعبية. ورغم بعض التحديات والانتكاسات، نجحَ ذاك النموذج الإنتاجي والاستهلاكي في استقطاب مشاركة قطاعات مجتمعية عريضة.
الاستعمار الاستيطاني والإفقار التنموي
أدركت سلطات الاحتلال، هي كذلك، العلاقةَ بين الاقتصاد والسياسية. فسعى مشروع الاستيطان الصهيوني منذ نشأته إلى مصادرة الأراضي والموارد الفلسطينية لإجبار الفلسطينيين على الاعتماد على الاقتصاد الإسرائيلي. ولموشيه ديان مقولةٌ في هذا الصدد مفادها أن السيطرة على البنية التحتية والمرافق العامة أشد تأثيرًا من فرض “ألف حظر تجول وفضٍ لأعمال شغب.”
اتبعت إسرائيلُ طُرقًا عدة في سعيها لتحقيق هذه الاعتمادية مثل عملية الإفقار التنموي. فقبل التوقيع على اتفاقات أوسلو، شَرعَ النظامُ الإسرائيلي في الإفقار التنموي من خلال تجزئة المراكز السكانية الفلسطينية وعزلها ومصادرة الأراضي والموارد. وبعد توقيع الاتفاقات، استمرت هذه السياسات في حلةٍ مختلفة: البروتوكول المنظِّم للعلاقات الاقتصادية (بروتوكول باريس)، والذي أضفى طابعًا مؤسسيًّا على الإفقار التنموي تحت غطاء “الاتفاقات التفاوضية الانتقالية“. انطوى البروتوكول على إقامة الاتحاد الجمركي الكارثي والمنحاز لجانب واحد، بالإضافة إلى هيئات مثل “لجنة المياه المشتركة” التي ما زالت حتى يومنا هذا تحوِّل المياه العذبة للمستوطنين غير القانونيين وتبقي على الفلسطينيين مرتهنين لنظامٍ عنصري قائم على التصاريح العسكرية. فكان بروتوكول باريس غطاءً رسميًّا لنظم المصادرة الاستعمارية الموجودة نفسها، أكسبتها صبغة شرعية بعد أن وقّع عليها من يفترض أن يكونوا ممثلي الشعب الفلسطيني. كان الأمر بيعًا للسيادة تحت مسمى التعاون.
فكَّكت اتفاقات أوسلو ببطءٍ البنى الشعبية التي انبثقت من التنظيم المناهض للاستعمار، وذلك بموجب ذريعة جديدة هي “بناء الدولة“. واليوم، تُخصص السلطة الفلسطينية أقل من 1% من ميزانيتها للزراعة. وهكذا، انفصلت التنمية الاقتصادية منذ ذلك الحين عن أي برنامج سياسي تحرري، وأصبحت الآن بمثابة اختبار حاسم للبرهنة أمام المجتمع الدولي أن الفلسطينيين “مستعدون” للدولة.
تسبَّبَ تقاعس السلطة الفلسطينية عن التصدي لعقودٍ من الإفقار التنموي على يد النظام الإسرائيلي في تفتت الاقتصاد الفلسطيني بشدة، وارتفاع مستويات البطالة فيه بما يصل إلى 48%، ولا سيما في أوساط الشباب. ومع ركود سوق العمل، والقيود التي يفرضها الاستيطان الاستعماري الإسرائيلي، وتجزئة المراكز الحضرية الفلسطينية، أصبح العمل في المستوطنات الإسرائيلية وفي أراضي 1948 أحد الخيارات القليلة المتبقية للفلسطينيين لإطعام أسرهم. فنسبة اليد العاملة الفلسطينية في الضفة الغربية التي تعتمد على العمل في المستوطنات غير القانونية وفي الاقتصاد الاستعماري عمومًا تكاد تبلغ 10%.
تخضع جميع الواردات والصادرات لأهواء النظام الإسرائيلي، في حين تُكبِّد قيود الحركة والتنقل الاقتصاد الفلسطيني ما يقدر بـ274 مليون دولار و60 مليون ساعة عمل سنويًّا. بالإضافة إلى أن مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة باتت مطوَّقةً بفعل التوسع الاستيطاني، ولذلك يعاني معظم المزارعين الفلسطينيين للوصول إلى أراضيهم ويفتقرون إلى الموارد اللازمة لتطوريها. وقد أدت تلك العوامل مجتمعةً – إلى جانب تجاهل السلطة الفلسطينية لهذا القطاع – إلى هجر الزراعة وتدهورها التدريجي، لتقل مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي من 53% في عام 1967 إلى أقل من 7% في عام 2021.
جُلُّ مَن لا يزال يمتهن الزراعة من هؤلاء في الوقت الحالي إنما يزاولها بوصفها نشاطًا ثانويًّا، حيث أفاد 26% فقط من المزارعين الفلسطينيين بأن الزراعة مصدر رزقهم الأساسي. وتقلصت كذلك رقعة الأراضي الزراعية تدريجيًّا وأضحت أكثر تجزؤًا؛ إذ انخفض متوسط مساحة الأرض الزراعية من 18,6 دونم إلى 10,8 دونم بين عامي 2004 و2010، أي بنسبة 42% في غضون ست سنوات فقط. ولا تتعدى مساحات ثلاثة أرباع الملكيات الزراعية في فلسطين 10 دونمات، في حين إنها تشكِّل 20% فقط من الأراضي الزراعية. وهذا يعكس التباين الشديد الذي يميز قطاع الزراعة في فلسطين، المحصور في يد أغلبية من أصحاب الملكيات الصغيرة الذين يزرعون من أجل الكفاف، وأقلية هادفة للربح تسيطر على معظم الأراضي.
الأمن الغذائي في ظل الإفقار التنموي
يستند النهج السائد عالميًّا لتحقيق الأمن الغذائي إلى إعلان روما لعام 1996، والذي ما انفك يركَّز على إتاحة الغذاء من خلال التجارة أو المساعدات الغذائية في المقام الأول. غير أن هذا النموذج عادةً ما ينزع إلى تجاهل ديناميات القوى المؤثرة في إتاحة الغذاء. فالاعتماد على التجارة يترك الفلسطينيين عرضةً للتأثر بالصدمات الخارجية. وقد تجلت تلك المخاطر في السنوات الأولى لجائحة كوفيد-19 عندما تفاقم انعدام الأمن الغذائي بسبب تعطل التجارة العالمية وتوقف الواردات الغذائية. وخسر الكثيرون مصادر دخلهم بسبب الإغلاق الاقتصادي، ليصبحوا غير قادرين على تحمل تكلفة الطعام. ويحمل الأمن الغذائي في طياته أيضًا مخاطر الخضوع لأهواء المجتمع الدولي وشروطه.
بالنظر إلى أن الاستعمار الإسرائيلي الاستيطاني يتحكم بكل شيء، فإن النموذج السائد للأمن الغذائي غير كافٍ بالتأكيد Share on X
وبالنظر إلى أن الاستعمار الإسرائيلي الاستيطاني يتحكم بكل شيء، فإن النموذج السائد للأمن الغذائي غير كافٍ بالتأكيد. فعلى سبيل المثال، احتفت الدول المانحة بمزرعة أمورو للفطر في الضفة الغربية بوصفها مثالًا للتفكير الريادي المبتكر لتحسين الأوضاع الاقتصادية الفلسطينية. ولكن بينما سعت المزرعة إلى القضاء على احتكار الفطر الاسرائيلي للسوق الفلسطينية، جاءت الاستجابة الإسرائيلية سريعة، حيث هددت القوات الإسرائيلية البقالين الذين تحولوا إلى المنتج الفلسطيني فعليًّا، وأخَّرت عمدًا تسليم البذور المستوردة اللازمة لزراعة الفطر في الميناء حتى انتهت صلاحيتها. ونجحت تلك الإجراءات القمعية في وقف إنتاج المزرعة وإغلاق المشروع.
أمّا في غزة، فإن النظام الإسرائيلي هو مَن يُقرر ما يُسمح بدخوله إلى القطاع المحاصر. ويحدد كميةَ الطعام المسموح للفلسطينيين بإنتاجها في غزة من خلال حرب المبيدات العشبية التي تجعل مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية غير صالحة للاستخدام. والأخطر من ذلك، تُظهر الإبادة الجماعية الجارية منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 أن النظام الإسرائيلي يستخدم عن قصد سلاحي التعطيش والتجويع الجماعي في حربه ضد الفلسطينيين. ويمكن تفسير هذه الممارسات فقط بكونها هجومًا على البنية التحتية للحياة الفلسطينية نفسها.
في الوقت نفسه، تبدَّد وهم الاستقرار الاقتصادي في مقابل الطاعة في الضفة الغربية منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023؛ حيث أُغلقت المدن وعُزلت، وأُلغيت تصاريح العمل في أراضي 1948، فضلًا عن حجب العوائد الضريبية للسلطة الفلسطينية. وهذه الإجراءات تُظهر هشاشة اقتصاد الضفة الغربية وخضوعه التام للإرادة الإسرائيلية.
فلسطين والسيادة الغذائية
انبثق مفهوم السيادة الغذائية من الحاجة إلى إعادة التفكير في نموذج الأمن الغذائي ومعالجة أوجه القصور فيه في بلدان الجنوب العالمي، وخاصة في سياق برامج الإصلاح الهيكلي التي يفرضها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والتي شجعت على تسليع الغذاء. وإذا تتبعنا مفهوم السيادة الغذائية إلى منشأه في حركات المزارعين بأمريكا اللاتينية، سنجد أن المقصود به “حق الشعوب في الحصول على الأغذية المناسبة صحيًّا وثقافيًّا، والتي تُنتج بوسائل مستدامة ومناسبة بيئيًّا، وحق الشعوب في تحديد غذائها ونُظمها الزراعية بنفسها.”
ومن الأصوات الرائدة في حركة السيادة الغذائية منظمة لا فيا كامبيسينا (الحركة الدولية للمزارعين)، وهي تحالف دولي يضم مئاتٍ من مجموعات المزارعين حول العالم، ويعارض هرمية إنتاج الغذاء ويعمل من أجل استعادة الأراضي والموارد من الاستغلال الرأسمالي. تشجع لا فيا كامبيسينا اتباع مبادئ الإيكولوجيا الزراعية وتشدد على أهمية الحفاظ على النظم البيئية المحلية في مقابل ممارسات الزراعة الصناعية المدمرة. ورغم أن كل دولة من دول الحركة الدولية للمزارعين تواجه تحديات مختلفة في سياقاتها المحلية، فإن استغلال الأراضي والعمالة والموارد خطر يهددها جميعًا. وفي هذا السياق، يتبادل الأعضاء من مختلف أنحاء العالم معارفهم وخبراتهم من أجل تحقيق السيادة الغذائية.
إن مفهوم السيادة الغذائية أوسع من مفهوم الأمن الغذائي، فهو يتمحور حول صغار المزارعين ويسعى إلى تحقيق إنتاج غذائي محلي مستدام. وعلى عكس نموذج الأمن الغذائي، يركز هذا النهج على استصلاح الأراضي والموارد، وبناء إنتاج غذائي مجتمعي، وتأسيس بنيةٍ تحتية داعمة للاقتصاد المقاوم. يختلف هذا المنظور جذريًّا عن الاستراتيجية المتبعة حاليًّا والتي تركز على تصدير المحاصيل النقدية، والتي تشجع الفلسطينيين الفقراء والجوعى على زراعة الأزهار لتصديرها إلى الأسواق الأوروبية بدلًا من تحقيق قدرٍ أساسي من الاكتفاء الذاتي.
احتضن المزارعون الفلسطينيون هذه الحركة ليصبحوا أول عضو عربي في لا فيا كامبيسينا. وجاءت هذه العضوية تتويجًا لعقودِ من العمل في اتحاد لجان العمل الزراعي، ولجان الإغاثة الزراعية الفلسطينية، وغيرهما من المنظمات، حيث أسهمت أنشطتهم ودعمهم للجان الزراعية في مئات القرى في ترسيخ صمود المزارعين، وشددت على أهمية الاستقلال الزراعي والاكتفاء الذاتي.
نحو تحقيق السيادة الغذائية اليوم
يعدُّ النضال من أجل تحقيق السيادة الغذائية في فلسطين من المعارك الرئيسة ضد الاستعمار الإسرائيلي الاستيطاني، إذ يحمل بين طياته أوجهًا متعددة من المقاومة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فمن شأن عودة الفلسطينيين إلى فلاحة أراضيهم، عودةً منظمةً وفقًا لمبادئ الديمقراطية التشاركية والتعاونية، أن يخفف وطأة انعدام الأمن الغذائي ويزيد قدرة المجتمع على المقاومة، ويجدد التأكيد على دور المزارعين بوصفهم أوصياء على الأرض والمقاومة. فضلًا على أن الاستخدام المستمر للأرض سيُصعِّب على المستوطنين الاستيلاء عليها أو سرقتها.
من الفوائد الأخرى لعودة الفلسطينيين إلى فلاحة أراضيهم زيادة قدرة مجتمعاتهم على الصمود وقت الإغلاقات، حيث سيعزز التركيز على المدخلات والنباتات والحيوانات المحلية الاستدامة، بما يُمكِّنهم من استيعاب آثار الصدمات العالمية.
في الوضع الراهن، صمَّمت إسرائيل والمتواطئون معها سبل عيش الفلسطينيين لتكون خاضعة لسيطرتها وإرادتها. ويتمثل تأثير هذا الوضع في استئناس الفلسطينيين، وتثبيط مقاومتهم بأشكالها كافة من خلال مخططات مختلفة. فمثلًا، تعيش الغالبية العظمى من الفلسطينيين في الضفة الغربية إما في المدن أو مخيمات اللاجئين، في حين يعيش 22% منهم فقط في المناطق الريفية، وهي المناطق ذاتها التي تمثل المصدر الأكبر لليد العاملة الفلسطينية المستغلة داخل الاقتصاد الاستعماري. ومن البديهي أن يتعارض الانتقال نحو السيادة الغذائية مع التحويل القسري للمزارعين الفلسطينيين إلى طبقة كادحة. لذا سوف يستلزم تحقيق أي تقدم في هذا الشأن تحرير العمالة الفلسطينية من قبضة رأس المال الإسرائيلي، وبالتالي قبضة رأس المال الفلسطيني المتواطئ.
النضال من أجل تحقيق السيادة الغذائية في فلسطين من المعارك الرئيسة ضد الاستعمار الإسرائيلي الاستيطاني، إذ يحمل بين طياته أوجهًا متعددة من المقاومة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية Share on X
توفر السيادة الغذائية مصادر بديلة لكسب العيش، وبالتالي مساحة أكبر للمقاومة والعمل دون الخوف من الجوع. إلا أن هذا يطرح تساؤلات صعبة لا بد أن يملك الفلسطينيون إجابات لها. مَن الذي سيتكفل بتلك التكاليف ويتحمل أعباء ذلك النهج؟ كيف سيتكاتف الآخرون لدعم المزارعين؟ ما التضحيات التي سيقدمها الفلسطينيون لضمان نجاح الاقتصاد المقاوم؟ ففي نهاية المطاف، يهجر الكثيرون أرضهم ويتوافدون للعمل تحت مظلة الاقتصاد الاستعماري لأنه يوفر لهم مردودًا أكبر من متوسط دخل الإنتاج الزراعي. وما يفاقم ذلك الوضع هيمنة الفواكه والخضراوات الإسرائيلية في السوق الفلسطينية؛ فمع السيطرة الإسرائيلية على الأراضي والماء والموارد ووسائل النقل، لا يسع المزارعين الفلسطينيين منافسة المنتجات الإسرائيلية من حيث الأسعار.
وهكذا، فإن التحول الناجح نحو تحقيق السيادة الغذائية يجب أن يقترن بحركة اجتماعية وسياسية أوسع نطاقًا لتشجيع الفلسطينيين على دعم مزارعيهم، حتى حين تكون أسعارهم أعلى نسبيًّا.
فلا يجب اعتبار الغذاء المُنتج محليًّا قوتًا فحسب، بل ينبغي النظر إليه أيضًا كاستثمار في نظام اقتصادي أشد مماحكةً، وخطوة نحو مستقبلٍ أكثر كرامة. تتجلى أهمية هذا النهج على الأخص في حالة المحاصيل الاستراتيجية مثل القمح، والتي غالبًا ما تكون تكلفة شرائها من الخارج أقل. فيجب تشجيع من يستطيعون العودة إلى أراضيهم على فعل ذلك. وأما مَن لا يستطيعون العودة، فمن واجبهم تقديم الدعم لهؤلاء المزارعين ومشاركتهم في تحمل العبء، سواء كان ذلك عن طريق الإعانات أو التعاون.
وهكذا، إنْ أردنا أن تكون السيادة الغذائية أساس الاقتصاد المقاوم، فلا بد من تغيير جوهري يتعدى العادات الاستهلاكية فحسب. وهذا يُحتِّم علينا تجديد علاقتنا بالأرض وتغيير أساليب الإنتاج والاستهلاك.
السيادة الغذائية في ظل الإبادة الجماعية؟
حتى تشرين الأول/أكتوبر 2023، كان الامتداد العمراني الصفة السائدة في قطاع غزة، مع قليل من المناطق الريفية المتاحة للزراعة. وكانت قدرة غزة على إنتاج 44% من طعامها في هذه البيئة الحضرية مدهشة؛ فقلما تستطيع المناطق الحضرية تلبية احتياجاتها من الغذاء أو الماء دون الاعتماد على مساحات ريفية كبيرة، حتى في الظروف العادية. ولولا براعة فلسطينيي غزة لكانت مشكلة انعدام الأمن الغذائي داخل القطاع أسوء بكثير، ولكنهم اعتمدوا على استخلاص الغاز والأسمدة من النفايات وزرعوا أسطح منازلهم بالمحاصيل.
غير أن علينا الاعتراف بحدود الدعوة إلى اتباع نهج السيادة الغذائية في ظل استمرار الإبادة الجماعية والحرب المفتوحة. فمن غير الممكن، مثلًا، ترسيخ الممارسات الزراعية التجديدية الهادفة إلى إعادة تأهيل التربة وزيادة خصوبتها في ظل قصف القوات الإسرائيلية المستمر للأراضي الزراعية القليلة النفيسة في غزة. فبحلول حزيران/يونيو 2024، كانت الحرب الإبادية الإسرائيلية قد دمرت 75% من المناطق الزراعية في غزة بالفعل. وفي الوقت الذي دُمِّرت الأشجار والبساتين في الضفة الغربية، وصل حجم التدمير الوحشي والإبادة الجماعية في غزة إلى مستويات غير مسبوقة.
بالتالي، لا يسعنا النظر إلى السيادة الغذائية كعلاج شامل في مواجهة جميع أوجه الاستعمار الاستيطاني، بل دورها يتمثل في تهيئة الأوضاع لتمكين المقاومة والمواجهة، والتخفيف من الأضرار اللاحقة.
الخاتمة
قد تسنح الفرص السياسية في أوقات لا نتوقعها فيها إطلاقًا، وقد تُفضي محاولات تحدي الوضع الراهن إلى إحداث تغييرات واسعة النطاق. وعليه، ينبغي للفلسطينيين وضع الأساسات الداعمة للنهوض بالاقتصاد المقاوم، على ألا يتم ذلك في إطار انتظار الفرصة السياسية فحسب، بل بعقلية الحريص على تهيئة هذه الظروف في الوقت الحالي. ولا يعني هذا بالضرورة وضع مخطط شامل للاقتصاد المقاوم، فحدائق النصر لم تظهر إلا بعد انقضاء الانتفاضة الأولى. وإحداث تغيير منهجي على هذا المستوى سيتطلب خوض ألف معركة صغيرة قبل اندلاع الانتفاضة القادمة المحتوم وفي أثنائها وبعدها.
تتجلي أهمية بناء قوةٍ مزدوجة وسيادة غذائية لبقاء شعبنا الآن أكثر من أي وقت مضى، وذلك لتعزيز صمودنا ومقاومتنا. وقد أثبت التاريخ أن هذا التغيير لن يأتي من القمة، وأن مثل تلك المساعي تتعارض مع استراتيجية السلطة الفلسطينية. فلا ينبغي أن يتوقع الفلسطينيون أي حماية أو دعم من سلطتهم، لا سيما في مواجهة عدوانية المستوطنين غير المسبوقة. ولذلك، يتوجب علينا وضع خطة لتهيئة الظروف اللازمة للمقاومة على هذا الأساس، بحيث تكون على مستوى القاعدة الشعبية.
التوصيات
ينبغي للمجتمع الفلسطيني، سواءً داخل الأراضي المحتلة أو في الشتات، التنسيق لتنفيذ الإجراءات التالية لإعادة التركيز على السيادة الغذائية في الاقتصاد المقاوم:
- إنشاء صندوقٍ للسيادة الغذائية – يموله الفلسطينيون في الشتات – للحدِّ من الاعتماد على المساعدات الخارجية والمساعدة على إطلاق مبادرات المقاومة الزراعية ومشروعاتها.
- يمكن أن يفيد هذا أيضًا في تحويل مسار التنمية بعيدًا عن النهج القائم على ريادة الأعمال فقط، كما هو شائع في المساعدات الإنمائية الخارجية. ويجب أن يُدار الصندوق ديمقراطيًّا، مع الالتزام بأعلى درجات الشفافية. ويمكن اعتبار الصندوق الاجتماعي الفلسطيني نموذجًا أساسيًّا للبناء عليه.
- دعم تطوير شبكات التضامن والتجارة الفلسطينية التي تربط بين الفلسطينيين في أي مكان وبين المزارعين.
- يمكن أن يساعد شراء السلع بسعر مرتفع – ولا سيما من جانب الفلسطينيين في الشتات وداخل الخط الأخضر – في تيسير نقل الثروة إلى المزارعين المحليين. وقد تساعد مثل هذه الشبكات أيضًا في دعم المحاصيل الاستراتيجية المهمة التي لا تدر أرباحًا كبيرة، مثل القمح.
- توسيع نطاق المقاطعة الشعبية للبضائع الإسرائيلية، ووصم استهلاك المنتجات الإسرائيلية، ومنح الأولوية لشراء المنتجات الفلسطينية.
- الاستثمار في التكنولوجيا الزراعية لتعظيم الاستفادة من الموارد المتاحة إلى أقصى حد.
- رغم أهمية العمل على زيادة رقعة الأراضي الزراعية، أظهرت الدراسات أن إنتاجية الحيازات الصغيرة التي تحظى بالعناية والري الجيدين قد تزيد 28 ضعفًا (لكل دونم) عن الأراضي المروية بمياه الأمطار فقط. وفي ظل سرقة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني للموارد المائية الفلسطينية، يمكن أن يسهم التركيز على تعظيم كفاءة الموارد الضئيلة المتاحة في زيادة الإنتاجية عمومًا. فتوفر التقنيات البسيطة – مثل أحواض الزراعة ذاتية الري – طريقة فعالة لترشيد استهلاك مياه الري وتقليل الجهد المبذول في الزراعة. ويمكن للتعريش عالي الكثافة زيادة إنتاجية أشجار الفاكهة ضعفين أو ثلاثة أضعاف مقارنةً بالبساتين التقليدية، إلى جانب خفض احتياجات العمالة والمياه والأرض والأسمدة. يتطلب تطبيق مثل هذه الاستراتيجيات تكاليف أولية أعلى وتدريبًا متخصصًا للمزارعين، ولكنها ستكون أكثر مرونةً وإنتاجيةً بكثير على المدى المتوسط والبعيد.
- استغلال المخلفات المهدورة – مثل الروث والنفايات العضوية ومخلفات الأسواق – لإنتاج الأسمدة والغاز الحيوي أو إطعام الحيوانات.
- استيعاب الدروس من حركات المزارعين وتطبيقها في الجنوب العالمي، وإدراج الحيوانات والنباتات الأصلية في المشاريع الزراعية.
- على سبيل المثال، قد تكون تكلفة تربية الحيوانات في فلسطين مرتفعةً جدًّا من حيث توفير الماء والغذاء، بينما تركِّز كبرى شركات منتجات الألبان على إنتاج حليب الأبقار فقط. لذا فإن الاعتماد على الحيوانات الرعوية (مثل الإبل والماعز) بدلاً من الأبقار قد يقلل استهلاك المياه والأعلاف بنسبة تصل إلى 50% و35% تباعًا لكل لتر حليب يُنتج. تتسم الحيوانات الرعوية كذلك بمرونة أكبر في طعامها، وتتمتع بقدرة أكبر على مقاومة ظروف الجفاف والجوع مقارنة بالأبقار. فضلًا على أنها تنتج كميات أقل من الروث، مما يقلل أثرها البيئي واحتمالات تلويث المياه الجوفية.
- تثقيف السكان المحليين حول الزراعة الإيكولوجية لتصحيح الاعتقاد بأنها ليست سوى فكرة وافدة ليس لها فوائد عملية بخلاف الحصول على التمويل الخارجي. والعمل على تغيير العقلية الفلسطينية نحو الامتثال لمبادئ الزراعة التقليدية، بما يشجع العودة إلى ممارسات أجدادنا الزراعية التي لم تعتمد على الواردات أو تضر بالبيئة.
- من طرق الزراعة الفلسطينية القديمة التي يمكن إحياؤها الاعتماد على الندى في ري النباتات باستخدام مصائد الندى في المناطق ذات مستويات الرطوبة المناسبة.
- التركيز على الجدوى الاستراتيجية والسياسية أكثر من الجدوى الاقتصادية عند دراسة أي مشروع ينطوي على الموارد الاستراتيجية أو المحاصيل الأساسية.
- على سبيل المثال، قد يُحمِّلنا إنتاج قمحنا بأنفسنا تكلفةً أكبر في ظل الظروف الراهنة، ولكن تأمين استمرارية إنتاجه وإتاحته محليًّا أمر بالغ الأهمية لتعزيز الصمود والمقاومة.
- التشجيع على تأمين مخزونات احتياطية من الأغذية الاستراتيجية يسهل الحصول عليها في حالات الطوارئ والحصار.
- التشجيع على تأسيس شبكة شاملة من التعاونيات التكاملية لإنتاج الغذاء وتجهيزه وبيعه.
- بمجرد تأسيسها، ستكون تلك التعاونيات الزراعية عناصر فاعلة في مجتمعاتها المحلية، وستؤدي دورًا اجتماعيًّا إيجابيًّا لتشجيع مزيدٍ من الفلسطينيين على اتباع هذا النموذج. وقد تصبح بمثابة نموذج أساسي للتصدي للسياسة الاقتصادية الليبرالية الجديدة وتركيزها على المفاهيم الفردية للنجاح.
- لقراءة هذا النص باللغة الفرنسية، اضغط/ي هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.