Hawari_Image_Apr_2024 - 8

يستند هذا التعقيب إلى حلقة من حلقات بودكاست فلسطين بفكرٍ جديد، والتي بثتها الشبكة بتاريخ 31 تشرين الأول/أكتوبر 2024. يمكن الاستماع إلى الحوار الكامل بالنقر هنا.

مقدمة: إعادة توجيه النضال

إنّ تصور العودة إلى الوضع السابق للسابع من تشرين الأول/أكتوبر أمرٌ غير ممكن بالنسبة إلى الفلسطينيين. فقد كان العام الماضي أحد أكثر الأعوام دمويةً في التاريخ الفلسطيني، إذ تجاوز عدد الشهداء عدد مَن قضوا في النكبة. وسوف يغير الدمار الذي تكبدناه شكل سياساتِنا وأطرنا الفكرية ونهجنا في المقاومة للأبد. وسيغير طريقتنا في الترابط ببعضنا البعض، وتصورنا لدربنا الجمعي في المضي قدمًا. وينبغي لأي خطاب هادف بشأن تحرير فلسطين أن يركِّزَ الآن على واقع الإبادة الجماعية المستمرة.

لقد بدأ هذا الإدراك فعلًا في تشكيل وعينا الجمعي، إلا أن عقليتنا ما تزال منصبةً على الوقوف على مجريات الإبادة الجماعية وتكريس الطاقات لوقفها. وسوف يتطلب نضالنا إعادة توجيه تلك الطاقات فور توقف العنف والتوصل إلى وقف إطلاق النار. لقد غيرت جسامة هذه التجربة حياتنا جذريًا ــ مجتمعًا، وفلسطينيين، وبشرًا ــ وهذه التغييرات سوف تؤثر حتمًا في مسار مقاومتنا.

علاوةً على ذلك، كشفت أحداث العام الماضي عن وقائع بنيوية تطال ما وراء فلسطين، حيث أبرزت المُقيدات الشديدة التي تشوب النظام الدولي الموضوع بعد الحرب العالمية الثانية، وعرَّت نفاق الديمقراطيات الليبرالية الغربية وعنصريتها، وفنَّدت الوهم بأننا بلغنا مرحلة الحكم المتعدد الأطراف. وبالنسبة إلى الفلسطينيين وحلفائنا الملتزمين ببناء عالم أكثر عدلًا وإنصافًا، فإن التعامل مع هذا الإدراك والأسئلة المُلحّة التي يثيرها أمرٌ ضروري.

لم تكتف الديمقراطيات الليبرالية الغربية بالتسامح مع العنف، وإنما عمدت إلى تسليحه وتأييده. وهذا التواطؤ يوجبُ علينا أن نحسبَ حساب هياكل السلطة والحكم العالمية. ولهذه الأسباب وغيرها، تستحيل العودة إلى عالم ما قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر ــ على المستويين الفلسطيني والعالمي. وتتلخص المهمة الواقعة على عاتقنا الآن في التعامل مع هذا الواقع المتغير، ومواجهة التحديات والفرص التي يجلبها، ومواصلة نضالنا من أجل العدالة والتحرير.

الصهيونية في سياقها: نزع الصفة الإنسانية وقوة إسرائيلية لا تقهر

إن تجنّب فخ الاستثنائية أمرٌ بالغ الأهمية في تحليل الصهيونية تحليلًا ناقدًا. فمن الناحية التاريخية، ارتكبت الأنظمة الإبادية فظائع مروعة. وما نشهده اليوم في غزة هو مثالٌ صارخ يشهدُ على هذا العنف المتجلي بوضوح بفضل بثه المباشر عبر وسائل الإعلام.

إن فضح هذا العنف حال وقوعه يدحضَ الافتراض الراسخ بأن التدخل الدولي الحاسم لوقف الفظائع كان سيقع لو انتشرَ العلم بها. غير أن تقاعس المجتمع العالمي المتواصل يُبرز نهجًا تاريخيًا مقلقًا من التواطؤ والتغاضي.

ما انفكت إسرائيل تتصرف بوصفها مستعمرة استيطانية معتمدة على الدعم الإمبريالي Share on X

إن إقدام إسرائيل على نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين لا بدّ وأن يوضع في إطار هذا النمط التاريخي الأوسع من الوحشية المنهجية. فمستويات العنف المتطرفة في غزة ــ بما فيها قصف مخيمات اللاجئين وحرق المرضى في المستشفيات أحياء ــ تكشفُ عن المستوى الذي وصلت إليه إسرائيل في نزع الصفة الإنسانية والذي يسمح بمثل هذه الأفعال. وهذه الفظائع تُظهر أن الجنود الإسرائيليون لا ينظرون إلى الفلسطينيين بوصفهم بشرًا أمثالهم وإنما أدنى من البشر. وتُسهِّل هذه المعتقدات الراسخة استمرار هذه الوحشية، يومًا بعد يوم، على نطاق مذهل.

تتقاطع هذه الدينامية أيضًا مع خرافة أن إسرائيل منيعة لا تُقهر. فقد حطم هجوم حماس في السابع من تشرين الأول/أكتوبر صورة إسرائيل كقوة عسكرية ونظام فصل عنصري عصي. أمّا حملة الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل في أعقاب الهجوم، فَلَم تكن لتتحقق لولا الدعم الأمريكي الثابت. وهذا الاعتماد يؤكد حقيقةً أساسية مفادها أن إسرائيل ما انفكت تتصرف بوصفها مستعمرة استيطانية معتمدة على الدعم الإمبريالي. وهكذا فإنها عنفها واحتلالها قائمان ليس بقوتها الذاتية وحسب وإنما بالدعم السياسي والمادي من قوى الهيمنة.

إسرائيل إذن بعيدةٌ كلَّ البعد عن كونها لا تقهر. وبالرغم من وجود الآليات لمحاسبة قادتها على عقودٍ من الجرائم الصهيونية والعنف الاستعماري الاستيطاني، إلا أنَّ هناك قصورًا في استغلالها وتقاعسًا عن تفعليها. وينبع التقاعس عن التحرك من نظرة الغرب الباطنة بعدم إنسانية الفلسطينيين والعرب عمومًا. ففي المخيلة الليبرالية في العديد من الدول الغربية، تمثل إسرائيل حصنًا منيعًا “للحضارة” في مقابل “الهمجية” المزعومة. ولا تزال هذه السردية، المتجذرة في الأيديولوجية الصهيونية وأطر التفوق الأبيض، ترسم السياسة الخارجية الأميركية ودعمها الثابت لإسرائيل.

إنّ نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين ليس ممارسةً مقتصرة على إسرائيل؛ بل تمارسها كذلك الأنظمة العالمية التي تُمكِّن هذه الفظائع وتبررها. وهكذا، وفي حين أن القدرة غير متوفرة لهزيمة إسرائيل، فإن ما لا لبس فيه هو أنه يمكن وقفها. ولا يكمن العائق الحقيقي في الافتقار إلى القدرة على وقفها وإنما في غياب الإرادة السياسية. وبالنسبة إلى دول مثل الولايات المتحدة، تخدم إسرائيل أغراضًا أيديولوجية واستراتيجية مزعومة، حيث تستديم دورة الإفلات من العقاب التي تُمكِّن من محو حياة الفلسطينيين.

تعرية النظام القائم على القواعد: الحماية للبعض وليس للجميع

نشهد في هذه الآونة صدعًا مهمًا ــ تحول جوهري في الإطار الذي كنا نعتقد أنه يحكم عالمنا. وهذا الصدع مستمر. فمثلًا أدركَ الفلسطينيون منذ زمن بعيد محدودية القانون الدولي. وبدا واضحًا على مدى عقود أن هذا النظام القانوني، المشوب بافتراضات استعمارية، قد تغاضى عن الاستعمار، ولم يضمن حقوق السكان الأصليين وتعويضاتهم، ولم يبذل ما يكفي لحماية حقوق الأقليات. وينبثق القانون الدولي، بشكله الحالي، من “نظام استعماري قائم على القواعد.” وبالتالي، فقد فهِمَ الفلسطينيون الحاجةَ إلى التعاطي مع القانون الدولي ليس باعتباره حَكمًا عدلًا ونزيهًا، وإنما باعتباره مسرحًا للنضال السياسي ــ فانخرطوا فيه استراتيجيًا واغتنموا الفرص التي أتاحها واستخدموه وسيلةً.

أكدت الأحداث التي وقعت منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، والاستجابة الدولية التي سبقتها للحرب في أوكرانيا ــ مدى الخلل العميق الذي يعيب هذا النظام. فقد سقط قناع الشرعية والحقوق والعدالة التي ما انفكت تنادي بها القوى الغربية. ولطالما استغلت القوى المهيمنة النظامَ الدولي القائم على القواعد المزعوم لخدمة مصالحها، من حرب العراق وحتى حرب أوكرانيا. وفي هذا السياق، يتنامى إدراك الجنوب العالمي بنفاق الادعاءات الغربية بدعم العدالة والشرعية، ويختزل تلك الادعاءات في أنها مراوغات ماكرة من القوى المهيمنة.

مهمتنا الأكثر إلحاحًا هي إحياء مشروع إنهاء الاستعمار المتجذر في تاريخنا والمتطلع نحو المستقبل Share on X

وفي حالة إسرائيل، كان تآكل المعايير القانونية الدولية متعمدًا ومنهجيًا. فقد عمدَ النظام الصهيوني لسنوات إلى إحداث السوابق القانونية لإضفاء الشرعية على ممارسات مثل الإعدام خارج نطاق القضاء، والتي تُدعى تلطيفًا “الاغتيالات المستهدفة.” ومهدت تلك السوابق الطريق لممارسات مماثلة على نطاق عالمي، مثل استخدام إدارة أوباما غير المسبوق لعمليات القتل خارج نطاق القضاء في أفغانستان. وقد أدى هذا الانحطاط الممنهج للمعايير الدولية إلى تطبيع العنف العشوائي، بما في ذلك قصف المناطق المدنية تحت ستار “العمليات الأمنية”.

لم يأت هذا التآكل من فراغ. وإنما يعكس تفكيكًا متعمدًا ومنهجيًا للمبادئ المفروض بها أن تحمي الحقوق وتؤيد الشرعية على نطاق دولي. واليوم، أصبحت إسرائيل دولةً مارقة ــ دولة منبوذة توثّق أفعالها الإبادية وتتباهى بها. وامتدت الأهوال في غزة إلى مناطق الجوار مثل لبنان، وهي بمثابة تحذير شديد مِمّا يمكن أن يُنتجه الإفلات من العقاب والفصل العنصري الممنهج.

يقتضي الموقف الراهن تأملًا عاجلًا: كيف ستبدو الحوكمة الدولية بعد هذه الإبادة الجماعية؟ ما هي الآليات القائمة التي تحول دون الدول المارقة الأخرى وتكرار هذه الفظائع؟ كيف يسعنا أن نحمي الفئات السكانية الضعيفة من الإبادة الجماعية والفصل العنصري وتطبيع الإفلات من العقاب؟ وهذه الأسئلة لا تختص بفلسطين وحسب، بل هي عالمية النطاق، ولكن حالة فلسطين تقدِّم منظورًا يتسنى من خلاله تمحيص القانون الدولي وإعادة تصوره. وتدفعنا لمواجهة الأُسس الاستعمارية “للنظام القائم على القواعد” وتتصور نظامًا متجذرًا في العدالة الحقيقية والمساءلة وحماية الجميع، وليس فقط الأقوياء. وإذا أردنا التقدم، فلا بدَّ أن نضعَ فلسطين في صميم المشروع الأوسع نطاقًا المتمثل في نزع الاستعمار من القانون الدولي وتفكيك أنظمة الهيمنة العالمية.

موقع فلسطين في العالم العربي 

يرتبط التحرير الفلسطيني ارتباطًا وثيقًا بالمنطقة الأوسع، مما يعكس عمقها العربي وترابط النضالات في جنوب غرب آسيا وشمال إفريقيا. غير أن التعامل مع هذا البعد الإقليمي يتطلب التعامل مع إرث النظام ما بعد الاستعماري. فقد نشأت العديد من الأنظمة في العالم العربي بعد الاستقلال كهياكل استبدادية، وغالبًا ما كانت متحالفة مع القوى الغربية ومتواطئة بشدة في استدامة النُظم القمعية. ولهذه الأنظمة طابعٌ استعماري جديد، فهي لا تمثل شعوبها، ومعادية للديمقراطية، وغالبًا ما تعمل على إدامة التفاوت الاجتماعي والاقتصادي على نطاق واسع.

لقد كشفت انتفاضات عامي 2010 و2011 عن الاستياء الشعبي العميق من هذه الأنظمة ومن عجزها عن تلبية أبسط التطلعات إلى الكرامة وسبل العيش والعدالة. لم تخذل هذه الأنظمة شعوبها وحسب، بل استغلت القضية الفلسطينية تاريخيًا لتعزيز شرعيتها. وباستغلال فلسطين خطابيًا، صرفت هذه الأنظمة الانتباه عن طبيعتها القمعية في حين لم تقدم سوى القليل من التضامن أو الدعم الهادف لتحرير فلسطين. وهذه الدينامية مستمرة إلى يومنا هذا، حيث تتعامل دولٌ مثل الأردن ومصر مع فلسطين بقدر ما تتقاطع مع مخاوفها الوجودية، مثل إدارة تبعات التطهير العرقي المستمر على يد إسرائيل. وتظل تحركاتها مقيدة بالأولويات المحلية والتبعيات الخارجية وليس الالتزام المبدئي بتقرير المصير الفلسطيني.

إنهاء الاستعمار في فلسطين لا ينفصم عن إنهاء الاستعمار في المنطقة Share on X

إن التقاطع بين الاستعمار الاستيطاني والاستبداد يخلق بنية قمعية مُعزِّزة لهما في المنطقة. فالفلسطينيون والعرب وغير العرب على حد سواء يخضعون لهذه الأنظمة المزدوجة التي تخدم المصالح الأجنبية وتقمع الحركات الصادقة المنادية بالسيادة والكرامة والحكم الديمقراطي. وتستغل إسرائيل، بدعم عسكري ومالي ودبلوماسي أمريكي، هذه البيئة لتعزيز مكانتها بوصفها قوةً إقليمية. وتطال أفعالها ما وراء فلسطين، حيث تتجلى في الهجمات على لبنان وزعزعة استقرار الدول المجاورة، بينما تروِّج لرؤية “الشرق الأوسط الجديد” المتوافقة مع مصالحها.

وتشمل هذه الرؤية تغيير الأنظمة في إيران وسوريا ولبنان وغيرها، بهدف القضاء على المقاومة وتعزيز الشراكات المشابهة لتلك التي أقيمت من خلال اتفاقات آبراهام مع الإمارات العربية المتحدة والبحرين. وتعكس هذه الجهود، المتجذرة بعمق في الغطرسة والعنصرية والنهج النزولي المتبع في إعادة رسم المنطقة، استمرارَ المنطق الاستعماري. وحتمًا ستفشل هذه المحاولات، حيث أثبت التاريخ عبثية تغيير الأنظمة بإملاءات خارجية والدمار الناشئ عن ذلك. غير أن هذا هو واقع المشروع الاستعماري الصهيوني وتطلعاته إلى الهيمنة الإقليمية.

يتطلب فهمُ التحرير الفلسطيني وضعه في إطار هذا السياق الإقليمي الأوسع. فإنهاء الاستعمار في فلسطين لا ينفصم عن إنهاء الاستعمار في المنطقة. وتنطوي هذه العملية على تصور هياكل حكم تولي الأولوية لاحتياجات وتطلعات شعوبها على المصالح الأجنبية، وتُعزز أنظمة الكرامة، وتستحدث فرصًا متساوية للحصول على فرص العمل والتعليم والرعاية الصحية، وتحمي السيادة السياسية وتقرير المصير.

لا شك أن هذا الدرب حافلٌ بالتحديات، نظرًا للقوى الهائلة المصطفة ضد هذا التحول. وكما قال الناشط المصري والسجين السياسي علاء عبد الفتاح: “أصلحوا ديمقراطيتكم“، مؤكدًا لأنصاره الغربيين المتحمسين أن التضامن يبدأ في الداخل. ويمكننا قول الشيء نفسه عن الدول العربية. فالنضالات من أجل الديمقراطية والكرامة في مختلف أنحاء العالم العربي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالقضية الفلسطينية. وكلٌّ منها يعزِّز الآخر، وكلاهما ضروري لتصور مستقبل خالٍ من القمع الاستعماري والاستبدادي. وسوف تتطلب إعادة بناء هذه الرؤية إعادةَ تصور إنهاء الاستعمار بحيث يتصدى للعنف الصهيوني الراهن، ويفكك أيضًا الهياكل المنظمة التي تُمكِّنه من الاستمرار في مختلف أنحاء المنطقة.

التحول العالمي: من القوة الشعبية إلى القوة السياسية

من الأهمية بمكان، عند دراسة الجنوب العالمي، أن نتجنب التعامل معه باعتباره كيانًا متجانسًا. حتى إبان حقبة حركة عدم الانحياز، كان هناك تنوع واختلاف كبير بين الدول الأعضاء فيها. واليوم، أمسى الجنوب العالمي أكثر تنوعًا، مما يستلزم اتباع مقاربة متباينة واستراتيجية في العمل معه. فعلى سبيل المثال، يختلف موقف جنوب إفريقيا إزاء فلسطين اختلافًا ملحوظًا عن موقف الهند أو البرازيل، حيث تعمل كل دولة ضمن سياقاتها التاريخية والاستراتيجية والسياسية الفريدة. إن فهم هذا التعقيد والتعامل معه أمرٌ ضروري لبناء تحالفات مجدية والنهوض بالأهداف المشتركة.

في الوقت نفسه، هناك مجالات متقاطعة، إذ تشترك العديد من بلدان الجنوب العالمي في الاهتمام بإقامة نظام عالمي قادر على معالجة الأزمات العابرة للحدود الوطنية، مثل تغير المناخ والعدالة المناخية. وتتطلب هذه التحديات الملحة إعادة التفكير الجمعي في الحوكمة العالمية خارج إطار الهيمنة الغربية والأحادية القطبية الأمريكية. ويشكل التحول نحو الحوكمة المتعددة الأطراف أولويةً بالنسبة إلى العديد من قوى الجنوب العالمي، حتى لو لم تكن مواقفها بشأن فلسطين متوافقة تمامًا. وهذه المحادثات الأوسع نطاقًا ضرورية للفلسطينيين وحلفائهم المتطلعين إلى نظام دولي أكثر إنصافًا وعدالة.

غير أنّ القوى الغربية تكابد من أجل سبر نطاق هذا التحول العالمي. فلطالما كانت الصورة التي رسمتها الولايات المتحدة لنفسها “كشرطي العالم” أقرب إلى الخرافة منها إلى الحقيقة، حيث كانت تخفي وراءها دورها الإمبريالي المزعزع للاستقرار. بيد أن عجز الدول الغربية عن الاعتراف بتراجع الهيمنة الأميركية وبأدوارها المساهمة في استدامة عدم الاستقرار العالمي يؤكد انفصالها عن ديناميات القوة المتغيرة. 

إن صعود نجم الجنوب العالمي وتنامي المطالبات المتزايدة بالمساواة والعدالة والاستقلالية تشكل منعطفًا حاسمًا في العلاقات الدولية – وتتحدى أُسس الهيمنة الغربية. وتتبوأ فلسطين مكانةً مركزية في هذه التحولات العالمية، لكن الفلسطينيين يواجهون تحديات كبيرة في التعامل مع هذه اللحظة. ففي حين تشهد الحركة الفلسطينية زخمًا غيرَ مسبوقٍ من خلال الدعم والتضامن الشعبي العالمي، يتوجب علينا أن نصبح أكثر استراتيجية في ترجمة هذه القوة الشعبية إلى قوة سياسية. تتطلب مسائل القانون الدولي والسياسة الخارجية تجاه الجهات الفاعلة في الجنوب العالمي والحوكمة العالمية مشاركةً واعية ومنسقة. وهذه ليست مخاوف مجردة وإنما اعتبارات عملية عاجلة لدفع القضية الفلسطينية إلى الواجهة في الساحة العالمية.

إن العجز الاستراتيجي اليوم ليس عرضيًا، بل هو نتاج عقود من القمع الممنهج. فقد اجتهد النظام الإسرائيلي في تفكيك القيادة الثورية في الستينات والسبعينات من القرن الماضي – من خلال الاحتواء والسجن والنفي والاغتيال – مما ترك فراغًا في القدرة المؤسسية والرؤية المناهضة للاستعمار. إن إعادة بناء هذه البنية التحتية الثورية تشكل أولوية ملحة، وإلا فسوف تستمر المصالح الأجنبية والهيمنة الغربية في فرض نماذج تهمش الحقوق الفلسطينية وتعزز القمع الاستعماري الاستيطاني.

السؤال الحاسم اليوم هو كيف نستغل هذه اللحظة ــ لحظة الإبادة الجماعية في غزة والاهتمام العالمي الذي استرعته ــ لإحياء إرثنا الثوري. وهذه ليست دعوةً للعودة إلى الماضي، لأن العودة غير ممكنة ولا مستصوبة. بل يتعين علينا بدلًا من ذلك أن نعيدَ تصور إنهاء الاستعمار والسياسات الثورية في عصرنا الحالي، الذي تحدده التحديات العالمية المترابطة وهياكل القوة المتغيرة. ومهمتنا الأكثر إلحاحًا هي إحياء مشروع إنهاء الاستعمار المتجذر في تاريخنا والمتطلع نحو المستقبل. فذلك سيُمكِّننا من رسمِ مسارٍ نحو العدالة والتحرير وتقرير المصير للفلسطينيين وجميع الشعوب المضطهدة.

طارق بقعوني هو رئيس مجلس إدارة الشبكة. عَمِلَ زميلًا سياساتيًا للشبكة في الولايات المتحدة في الفترة 2016-2017. وعَمِلَ في رام الله لدى مجموعة الأزمات الدولية...

أحدث المنشورات

دأبت إسرائيل على الإحجام عن تحويل إيرادات المقاصة الفلسطينية لمعاقبة السلطة الفلسطينية أو التلاعب بها. ومنذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، أمعنَ النظام الإسرائيلي في سرقة الأموال الفلسطينية، دافعًا السلطة الفلسطينية إلى شفير الانهيار المالي. يرى الكاتب في هذه المذكرة السياساتية أنّ استخدام إسرائيل إيرادات المقاصة كسلاح ليس استمرارًا لتدابير سابقة وحسب، بل يعكس أجندةً جديدة أكثر تطرفًا يقودها اليمين المتطرف.
عصمت قزمار· 01 ديسمبر 2024
 السياسة
في مختبر السياسات القادم ينضم إلينا من غزة د. طلال أبوركبة ود. محمد الحافي مع الميسر د. علاء الترتير لمناقشة غزة ومستقبلها من منظور فلسطيني.
في 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، صوَّت الناخبون الأمريكيون لدونالد ترامب رئيسًا لولاية ثانية في الانتخابات الرئاسية الستين. وفي حين لا تزال العديد من أوجه خطط السياسة الخارجية للإدارة القادمة غير مؤكدة، فإن تبعاتها الكارثية على الشعب الفلسطيني ستستمر بلا شك. وفي هذه الحلقة النقاشية، يُقدِّم محللو الشبكة طارق كيني الشوا وعبد الله العريان وأندرو كادي وهناء الشيخ رؤيتهم إزاء ترامب مقارنةً بسلفه، وتأثير رئاسته على السياسة الأمريكية في المنطقة العربية، وما تعنيه لفعاليات التضامن مع فلسطين في الولايات المتحدة، وتأثيرها المادي على الأرض في فلسطين.
Skip to content