مقال - تحدي التجزئة وأهمية الوحدة: انتفاضة فلسطينية جديدة

لم تبدأ الانتفاضة الفلسطينية الدائرة ضد النظام الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي في فلسطين المستعمَرة من حي الشيخ جراح في القدس الذي يواجه قاطنوه تطهيرًا عرقيًا مُحدِقًا. فمع أن التهديد بطرد تلك الأسر الثمانية من الحي كان المحفِّز الذي جيَّشَ التعبئة الشعبية الجماهيرية، إلا أن الانتفاضة المندلعة تُعدُّ تعبيرًا عن النضال الفلسطيني المشترك ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني الممتد على مدى سبعة عقود.1

اتسمت تلك العقود بالتهجير القسري، وسرقة الأراضي، والاعتقالات، والإخضاع الاقتصادي، وقمع الأجسام الفلسطينية، فضلًا عمّا يتعرض له الفلسطينيون من عمليةٍ مدروسة من التشتيت المكاني في معازل وبانتوستانات ومخيمات لاجئين، ومن التشتيت الاجتماعي والسياسي أيضًا. غير أن الوحدةَ بين أبناء الشعب الفلسطيني في الشهرين الماضيين وعلى امتداد فلسطين المستعمرة وخارجها انطلاقًا من النضال المشترك مع أبناء حي الشيخ جراح تحدَّت هذا التشتيت على نحو فاجأ النظام الإسرائيلي والقيادة السياسية الفلسطينية على حدٍ سواء، حيث لم نشهد تعبئةً شعبية على هذا النطاق منذ عقود، ولا حتى أثناء رئاسة دونالد ترامب التي كان من نتائجها الاعترافُ بالقدس كعاصمةٍ لإسرائيل وتوقيعُ معاهدات تطبيعية بين إسرائيل ودول عربية مختلفة، وتسارعُ ممارسات الاستعمار الاستيطاني الصهيونية.

بالإضافة إلى التعبئة في الشوارع، يواجه الفلسطينيون الاستعبادَ بأشكال إبداعية من المقاومة، مثل إحياء الحملات الشعبية لإنقاذ الأحياء الفلسطينية في القدس من التدمير والتطهير العرقي، وتعطيل اقتصاد النظام الإسرائيلي، ومواصلة إشراك الآخرين حول العالم من خلال رسائل واضحة تطالب بالحرية والعدالة للفلسطينيين.

القدس: الحافز على الوحدة

يواجه أهالي حي الشيخ جراح منذ عقود، كالكثير من المجتمعات الفلسطينية، تهديدًا مُحدقًا مستمرًا بإخراجهم من بيوتهم وتطهير حيِّهم عرقيًا. ولطالما خاض الفلسطينيون في الشيخ جراح معاركَ قانونيةً ضد النظام الإسرائيلي في محاولةٍ لإحباط مساعي طردهم من الحي، الذي يخدم الهدف الإسرائيلي النهائي المتمثل في تهويد القدس كليًا. 

وفي أواخر نيسان/أبريل 2021، ردَّت المحكمة المركزية في القدس استئنافات سكان الشيخ جراح ضد ما تسميه المحاكم “إخلاء” ثماني عائلات فلسطينية، وأمرتهم بإخلاء منازلهم بحلول 2أيار/مايو 2021. رفضت العائلات هذا القرار، وانخرطت بكل ما أُتيت من قوة في حملة “أنقذوا حي الشيخ جراح” الشعبية لحماية الحي من التطهير العرقي. استقطبت هذه الحملة، التي انتشرت مؤخرًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مشاركةً محلية هائلة واهتمامًا دوليًا واسعًا لأسباب عديدة ليس أقلها أنها تلخص التجربة الفلسطينية المتمثلة في الطرد والتجريد من الحقوق والممتلكات. ونتيجة لذلك، أعطت الحملة زخمًا لحملات أخرى “لإنقاذ” الأحياء في مختلف أنحاء فلسطين المستعمرة من التطهير العرقي والاستعمار بما فيها أحياء سلوان وبيتا ولِفتا.

خرَجَ الفلسطينيون في فلسطين المستعمرة طوال الشهرين الماضيين للتظاهر دفاعًا عن الشيخ جراح، ومنهم فلسطينيون من حمَلة الجنسية الإسرائيلية في مدن مثل حيفا ويافا واللد. وواجه المتظاهرون والمحتجون قمعًا عنيفًا من النظام الإسرائيلي، ولم يكن رد الفعل الإسرائيلي غير متوقع أو غير مسبوق. فقد قضى في الانتفاضة الثانية 13 مواطنًا فلسطينيًا أثناء الاحتجاجات على يد قوات النظام الإسرائيلي في أكثر حملات القمع دمويةً منذ يوم الأرض لعام 1976. وطوال هذه الانتفاضة المستمرة، ظل يقترن عنف قوات النظام بمشاركة قطعان المستوطنين الإسرائيليين المسلحين الذين يهاجمون المواطنين الفلسطينيين ويطلقون عليهم النار ويُغيرون على منازلهم ومركباتهم ومصالحهم التجارية ويدمرونها. 

لقد أخذَ الفلسطينيون يستعيدون روايتهم المشتركة ونضالهم المشترك من النهر إلى البحر Click To Tweet

غير أنَّ ما استرعى اهتمام وسائل الإعلام الدولية كان الاحتجاجات في حرم المسجد الأقصى على مدى عدة أيام، وهو المكان الذي شهدَ احتجاجات شعبية ناجحة في 2017 ضد الحواجز الإلكترونية التي نُصبت حينها عند مدخل الحرم القدسي. وقد جوبهت الاحتجاجات الأخيرة في منتصف شهر أيار/مايو بقمعٍ عنيف من قوات الأمن الإسرائيلية التي اقتحمت الحرم القدسي وتسببت في إصابة مئات المصلين الفلسطينيين بالرصاص المطاطي وقنابل الغاز وقنابل الصوت.

ونتيجةً لهذا الاعتداء ومحاولات التطهير العرقي المستمرة التي يخوضها النظام الإسرائيلي في القدس الفلسطينية، ردّت حكومة حماس في غزة بإطلاق الصواريخ على المدينة. وردّت إسرائيل بقصفٍ مكثف استمرَ لأكثر من عشرة أيام على غزة أودى بحياة 248 فلسطينيًا، من بينهم 66 طفلاً. وعلى الرغم من ادعاءات النظام الإسرائيلي بأنه كان يستهدف البنية التحتية العسكرية لحماس فقط، إلا أن الدمار طال البنية التحتية المدنية الحيوية، وأبراج سكنية برمتها، وحتى مقرات تابعةٍ لوسائل إعلامية. وعلَّقت ميشيل باشيليت، مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، بقولها إن القصفَ على غزة قد يرقى إلى جرائم الحرب

تعطيل اقتصاد النظام الإسرائيلي

بينما كانت غزة تتعرض للهجوم، استمرت التعبئة الشعبية في مختلف أنحاء فلسطين المستعمرة. وفي أيار/مايو 18، دعا الفلسطينيون إلى إضراب عام في مظهرٍ من أضخم مظاهر الوحدة الجماعية منذ سنوات. وسرعان ما تبنته لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في إسرائيل، وتلتها السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. غير أن الجهات الفاعلة الشعبية هي التي وجَّهت الخطاب من خلال بيانات وتصريحات عديدة باللغتين العربية والإنجليزية تدعو فيها إلى مشاركة واسعة ودعم دولي، وجاء في إحداها: “انطلاقًا من القدس إلى سائر أنحاء العالم، نطلب دعمكم في استدامة هذه المقاومة الشعبية غير المسبوقة.”

انبثقت مبادرة الإضراب كردٍ على الاعتداءات الواقعة على غزة والنضال الذي تشهده شوارع القدس. وحظي الإضراب بمشاركة واسعة، ولا سيما في أوساط الفلسطينيين من حملة الجنسية الإسرائيلية الذين أكدوا مجددًا رابطَ الأُخوة والنضال المشترك مع الفلسطينيين في غزة والقدس. وتسبَّب الإضراب أيضًا في تعطيل الاقتصاد الإسرائيلي، حيث تبلغ نسبة الفلسطينيين حاملي الجنسية الإسرائيلية 20% من عدد السكان في إسرائيل، وهم يشكِّلون جزءًا كبيرًا من القوى العاملة، فمثلًا 24% من الممرضين و50% من الصيادلة في إسرائيل فلسطينيون.

يقوم قطاع الإنشاءات الإسرائيلي أيضًا في معظمه على العمالة الفلسطينية، جُلها من الضفة الغربية، ولكن أيضًا من الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل. وفي يوم الإضراب، شاركً العمال اليدويون كلُّهم تقريبًا، وتوقفت الصناعة تمامًا ليوم كامل. وتضافرت النقابات العمالية الفلسطينية قُبيل الإضراب ودعت نظيرتها الدولية للتضامن معها، واتخاذ إجراءات ضد القمع الإسرائيلي. واستجابةً لتلك الدعوى، رفضَ عمال رصيف ميناء ليفيرنو الإيطالي تحميل سفنٍ بأسلحة ومتفجرات إسرائيلية قُبيل الهجوم بأيام قليلة، قائلين: “لن يكون ميناء ليفورنو شريكًا في ذبح الشعب الفلسطيني.”

استمرت الاحتجاجات لأيام بعد الإضراب، ولكن على نطاق أضيق وبتغطية إعلامية أقل. غير أن الإضراب أشعل الشرارة، وصار التركيز على القمع الاقتصادي من المواضيع التي تتم التعبئة لأجلها. وانطلاقًا من نجاح الإضراب، انطلقت بعد عدة أسابيع حملةٌ لتعزيز القوة الشرائية في الاقتصاد الفلسطيني بعنوان “أسبوع الاقتصاد الوطني،” الذي أكَّد بأنه على الرغم من التضييق الذي يمارسه النظام الإسرائيلي على الاقتصاد الفلسطيني، إلا أن الفلسطينيين لا يزالون يمتلكون قوةً شرائية جماعية. ويذكِّرنا هذا الخطاب بالانتفاضة الأولى التي برزت فيها تدابيرُ شعبيةٌ مثل الحركة التعاونية والدعوة إلى مقاطعة المنتجات الإسرائيلية تحدَّت التبعيةَ الاقتصادية والاعتمادَ على النظام الإسرائيلي. 

لم يزل المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني يتعمّدُ إخضاعَ الاقتصاد الفلسطيني الذي اندثر بقيام دولة إسرائيل في 1948 وما تلاه من احتلال الأرض الفلسطينية. فبينما كان الكيان الصهيوني يغزو معظم القطاعات الإنتاجية والزراعية، كان يحظر على الفلسطينيين المشاركةَ في معظم مجالات الاقتصاد الجديد. وامتد هذا الوضع ليشمل الضفة الغربية وغزة في أعقاب حرب 1967 التي أخضعت تلك الأراضي للاحتلال العسكري الإسرائيلي.

هذه الانتفاضة تؤكِّد…أن الشعب هو مَكمَن القوة التي يجب من خلالها بلوغ التحرير الفلسطيني Click To Tweet

وبسبب سلسلة اتفاقات “السلام” الموقعة إبان عملية أوسلو في مطلع التسعينات وقَعَ الفلسطينيون تحت مزيد من الإخضاع الاقتصادي، وفعليًا سلَّموا مقاليد الاقتصاد الفلسطيني على نحو مباشر وغير مباشر إلى النظام الإسرائيلي. وعمَّقت تلك الاتفاقات التشرذمَ الاجتماعي الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة. وبالرغم من ادعاءات البعض بأن البروتوكولات الاقتصادية ستجلب الرخاء الاقتصادي للجميع، إلا أنها عملت في الواقع على رعاية المحسوبية الرأسمالية الفلسطينية، فزادت الفجوة بين الأغنياء والفقراء وعززت الانقسامات الطبقية في المجتمع. 

شجّع أسبوعُ الاقتصاد الوطني المصالحَ التجارية في فلسطين المستعمرة قاطبةً – من حيفا إلى رام الله وغيرهما – على ترويج المنتجات الزراعية والمحلية الفلسطينية وتقديمها على المنتجات الإسرائيلية التي ما فتئت تحتكر السوق لوفرتها وتدني سعرها. وهكذا وضع أسبوع الاقتصاد الفلسطيني مفهومًا أكثر شمولية للهيمنة الاستعمارية في ظل تداخلها مع الرأسمالية، يغدو التحرر الاقتصادي بموجبه عنصرًا أساسيًا في نضال التحرر الوطني الأوسع.

مفهوم الوحدة في انتفاضة الوحدة

عقب “وقف إطلاق النار” بين إسرائيل وحماس بتاريخ 21 أيار/مايو، تحوَّل اهتمام وسائل الإعلام الدولية عن الانتفاضة، وانصبت التغطية الإخبارية على المناقشات الحتمية حول إعادة إعمار غزة. وعلى الرغم من هول الدمار والخسائر التي لحقت بغزة، إلا أن الكثير من الفلسطينيين يعتقدون أن المعركة انتهت بانتصار حماس.

ومن الأهمية بمكان أن نؤكد أن الانتفاضة التي بدأت قبل قصف غزة تتجاوز حركة حماس والحديث عن انتصارها. وكما قال أحد الزملاء الفلسطينيين في غزة للمؤلفة: “كان الشعور في غزة مختلفًا هذه المرة. شعرنا كما لو أننا لم نكن وحدنا.” فبالنظر إلى التعبئة الجماهيرية في مختلف أرجاء فلسطين المستعمرة وإحياء الروابط الشعبية في مواجهة التشتيت القسري، سُميت هذه الانتفاضة الجديدة “انتفاضةَ الوحدة.”

انتشر على شبكة الإنترنت في فترة الإضراب بيانُ “الكرامة والأمل: انتفاضة فلسطين الواحدة،” الذي ينص على رفض التشتيت القسري، حيث جاء فيه:

الحق أننا شعب واحد ومجتمع واحد في كل فلسطين. هجَّرت عصابات الصهيونية أغلبية شعبنا، سرقت بيوتنا وهدمت قرانا. ثم قرَّرت الصهيونية أن تمزق مَن بقي في فلسطين. تعزلنا في مناطق جغرافية مقطعة، وتحوِّلنا مجتمعات مختلفة متفرقة، حتى تعيش كل مجموعة في سجن كبير منفصل. هكذا تسيطر الصهيونية علينا، وهكذا تشتّت إرادتنا السياسية وتمنعنا عن نضالٍ موحد في وجه نظام الاستعمار الاستيطاني العنصري في كل فلسطين.

ثم يُفصِّل البيان المناطق الجغرافية المعزولة المختلفة التي يقطنها الفلسطينيون: “سجن أوسلو” (الضفة الغربية) و”سجن المواطنة” (أراضي 19482) وغزة المعزولة بفعل الحصار الوحشي، والقدس المعزولة بفعل نظام التهويد، والمعزولون عن فلسطين بفعل الطرد والنفي الدائمين. تتسم الجغرافية الاستعمارية في فلسطين بالجدران الإسمنتية وحواجز التفتيش والتجمعات الاستيطانية المسوَّرة والأسلاك الشائكة، وغدا الفلسطينيون بسببها يعيشون في مجتمعات مشتتة منفصلة ومعزولة عن بعضها.

غير أن ذلك لم يَكن محتومًا ولم يَحدث صدفة واعتباطًا، وإنما كانت سياسةً متعمدة تقوم على مبدأ فرِّق تَسُد نفَّذها النظام الصهيوني لتقويض النضال الفلسطيني الموحد المناهض للاستعمار. وفي المقابل، لم يكن الفلسطينيون سلبيي، فعلى مر السنين، جهدت العديد من الجماعات الشعبية من أجل عرقلة التجزئة والتشتيت، من بينها حركات شبابية عديدة مثل الحركة المطالِبة بالوحدة السياسية بين الضفة الغربية وغزة في العام 2011، وحركة التظاهر المناهضة لتوصيات لجنة براور في 2013 والمحتجة على السياسة الإسرائيلية الرامية إلى تطهير بدو النقب عرقيًا، وكذلك حملة ارفعوا العقوبات التي فرضتها السلطة الفلسطينية على غزة.

وفي الآونة الأخيرة، أسَّست نساءٌ فلسطينيات حركة “طالعات” النسوية الراديكالية التي تسعى كهدفٍ من أهدافها إلى التغلب على الانقسام الجغرافي مع التأكيد على أن النضال لتحرير فلسطين هو نضالٌ نسوي أيضًا. وهذا التعبير الأخير عن الوحدة الفلسطينية ينبثق من هذه الجهود المستمرة الرامية إلى تفعيل النضال الفلسطيني المشترك.

غير أن الكثير من الخطاب الدولي لا يدرك ذلك، فالعنف الذي يحدث في مناطق 1948 يُسمى في الغالب عنفًا طائفيًا يوشك أن يستحيل حربًا أهلية بين اليهود والعرب، وهي تسميةٌ مضللة لأن هذا التأطير يفرِّق ويفصل بوضوح بين الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل والفلسطينيين في غزة والقدس. وهذا التقييم يعجز عن وصف نظام الفصل العنصري (الأبرتهايد) الذي يعيش فيه اليهود والفلسطينيون المواطنون في إسرائيل حياةً منفصلةً تمامًا وغير متساوية.

هذا في الواقع إرثُ عقودٍ من الإشارة إلى الفلسطينيين حملة الجنسية الإسرائيلية بمسمى “عرب إسرائيل” في محاولة لقطع صلتهم بهويتهم الفلسطينية. وفي أحسن الأحوال، يوصَفُ الوضعُ في الخطابات السائدة كحالةٍ استثنائية تتمثل في وجود أقليةٍ تتعرض للتمييز على يد الأغلبية اليهودية، وليس كسكان أصليين نجوا من التطهير العرقي في العام 1948 ولا يزالون يقاومون أساليب المحو الاستعماري الاستيطاني. إن عدم الاعتراف بالاحتجاجات الأخيرة في أراضي 1948 كجزء متميز من انتفاضة فلسطينية موحدة أعمّ لهو أمرٌ مذهلٌ حقًا لأنه يتجاهل بحر الأعلام الفلسطينية المرفوعة في تلك التظاهرات والشعارات والهتافات الفلسطينية الأصيلة التي علت بها حناجر المتظاهرين.

وعلى نحو مماثل، أخذت الخطابات السائدة تفصل غزةَ أيضًا ببطء عن النضال الفلسطيني، وتناقشها كقضيةٍ منفصلة تمامًا عن سائر فلسطين المستعمرة. وفي أكثر الأحيان، يُسمى القصف الإسرائيلي المتواصل حربًا بين إسرائيل وحماس، وهي وصفٌ مشوه يتعمد الانتقاص من حقيقة أن غزةَ، في الواقع، محور النضال الفلسطيني، كما يقول طارق بقعوني.

الوحدة رغم كل الصعاب

يُعد نطاق التعبئة والمشاركة الشعبية التي شهدناها في الأسابيع القليلة الماضية مذهلًا، بيد أنّ كلفة هذه الانتفاضة كانت، ولا تزال، مرتفعة. فبالإضافة إلى الهجمة الغاشمة على غزة، تعرَّض الفلسطينيون في أماكن أخرى في كل فلسطين المستعمرة لعنفٍ وحشي واعتقالات، إذ أطلق النظامُ الإسرائيلي عمليةَ “القانون والنظام” في الأسابيع القليلة الماضية واعتقل فيها آلافَ الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل غالبيتهم من الشبان من الطبقة العاملة. وهو يستخدم هذه الاعتقالات الجماعية كشكلٍ من أشكال العقاب الجماعي لترهيب المجتمعات الفلسطينية وتخويفها.

ما تزال السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية متمسكةً بالتنسيق الأمني مع النظام الإسرائيلي، وقد شَرَعت في اعتقال الناشطين المشاركين في الاحتجاجات. إن اعتقال الناشطين السياسيين، ولا سيما منتقدي السلطة الفلسطينية، ليس بالأمر الجديد، بل هو نمطٌ من القمع السياسي يُمارس في الضفة الغربية وغزة على حدٍ سواء. وبالفعل في 24 حزيران/يونيو 2021، اعتقلت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية وضربت حتى الموت نزار بنات، الناشط المعروف والمنتقد للسلطة الفلسطينية. واندلعت منذ ذلك الحين مظاهرات في أنحاء الضفة الغربية تطالب بإنهاء حكم رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. قوبلت الاحتجاجات بالعنف والقمع الغاشمين، رغم أن هذا السلوك غير مفاجئ فتشتهر السلطة الفلسطينية باستغلال سلطتها من خلال هذا النوع من الترهيب العنيف.

لقد كانت السلطة الفلسطينية التي تهيمن عليها فتح في الضفة الغربية مهمَّشةً تمامًا طوال الانتفاضة، ولا سيما في ضوء الحديث عن انتصار حماس. غير أن ما تكشفه هذه الانتفاضة يتجاوز التراجع المتزايد في أهمية السلطة الفلسطينية، والصراع من أجل الشرعية والسلطة بين الحزبين الفلسطينيين المهيمنين. فقد أظهرت أن القيادة الشعبية اللامركزية يمكن أن تتطور وتنمو خارج إطار المؤسسات السياسية الفاسدة الراهنة. وأظهرت أن الفلسطينيين متعطشون للتعبئة الموحدة.

ما يزال زخم الانتفاضة مستمرًا، وما يزال الشعور بالوحدة يتنامى بالرغم من تراجع التغطية الإعلامية والدولية. فثمة شيء ما قد تغير بالفعل، لقد أخذَ الفلسطينيون يستعيدون روايتهم المشتركة ونضالهم المشترك من النهر إلى البحر. وبذلك هم يدركون أنهم يواجهون نظام قمعٍ واحد وإنْ اختلفت تجلياته باختلاف المجتمعات الفلسطينية المجزأة. والأهم أن هذه الانتفاضة تؤكِّد، كما أكَّدت سابقاتها، أن الشعب هو مَكمَن القوة التي يجب من خلالها بلوغ التحرير الفلسطيني.

  1. لقراءة هذا النص باللغة الفرنسية، اضغط/ي هنا. تسعد الشبكة لتوفر هذه الترجمات وتشكر مدافعي حقوق الإنسان على هذا الجهد الدؤوب، وتؤكد على عدم مسؤوليتها عن أي اختلافات في المعنى في النص المترجم عن النص الأصلي.
  2. يشير صناع السياسيات الدوليون في الغالب إليها بمسمى “دولة إسرائيل” ويفرقونها عن الاستعمار الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة.
يارا هواري هي مديرة الشبكة بالمشاركة. عملت سابقًا كزميلة سياساتية للشبكة في فلسطين وكمحللة رئيسية في الشبكة. نالت درجة الدكتوراه في سياسة الشرق الأوسط من...
في هذه المقالة

أحدث المنشورات

 اللاجئين
تقود إسرائيل منذ عقود حملةً ضد وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين في الشرق الأدنى (الأونروا) بهدف محو قضية اللاجئين الفلسطينيين وحقهم الجماعي في العودة. ورغم أن قرار حلفاء إسرائيل بوقف تمويل الوكالة لم يكن جديدًا إلا أنه كان غير مسبوق من حيث نطاقه وخطورة توقيته.
Al-Shabaka Shatha Abdulsamad
شذى عبد الصمد· 30 أبريل 2024
وفي حين لا يزال من غير الواضح كيف ومتى سترد إسرائيل على العملية الإيرانية، إلا أن من المؤكد أن الوضع الجيوسياسي قد تغير بالفعل. في هذه الحلقة النقاشية، يعرض محللو الشبكة، فادي قرعان وفتحي نمر وطارق كيني الشوا ويارا هواري، رؤاهم بشأن التأثير الإقليمي للمناورة الإيرانية الأخيرة ويضعون الإبادة الجماعية الجارية في غزة ضمن هذا السياق الأوسع.
 السياسة
تكشفُ تغطيةُ وسائل الإعلام الرئيسية في الغرب لمجريات الإبادة الجماعية في غزة تحيزَها الشديد للنظام الإسرائيلي، وتُبرزُ أيضًا سهولةَ نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين. تتناول يارا هواري في هذا التعقيب استراتيجيةَ إسرائيل في نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين في المجال العام، ودور وسائل الإعلام الغربية في تحقيق أهداف إسرائيل. وتبين أنماطَ التقصير الصحفي المستمرة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وتخلُص إلى أنّ وسائل الإعلام الغربية متواطئة حتمًا في الإبادة الجماعية التي يرتكبها النظام الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في غزة.
Al-Shabaka Yara Hawari
يارا هواري· 03 أبريل 2024
Skip to content