منذ بدء الهجوم على غزة في تشرين الأول/أكتوبر 2023، قُتل وجُرح عشرات آلاف الفلسطينيين، وفُقد كثيرون على الأرجح تحت أنقاض منازلهم أو ملاجئهم. وتشرَّدَ نحو مليوني فلسطيني في غزة، وباتوا يقاسون البرد والعطش والجوع. وبينما ينكب العالم على مناقشة المسائل الفنية للإبادة الجماعية، يتسارع الاستعمار الإسرائيلي في الضفة الغربية ويُمعن في تعطيل حياة الفلسطينيين هناك.
في هذه الحلقة النقاشية، يتناول فتحي نمر وعبد الجواد عمر وباسل فراج وسامية البطمة الوضعَ في الضفة الغربية منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. وبالتوازي مع حملة الإبادة الجماعية التي يشنها النظام الإسرائيلي على غزة، يخوض المؤلفون في التفريق المصطنع بين المستوطنين والدولة، وتقاعس السلطة الفلسطينية، والحبس الفردي والجماعي للفلسطينيين، والوضع الاقتصادي المزري في الضفة الغربية.
المستوطنون والدولة: وجهان لعملةٍ واحدة
فتحي نمر
بالتزامن مع الإبادة الجماعية الجارية في غزة على يد الجيش الإسرائيلي، تتزايد هجمات المستوطنين الإسرائيليين في جميع أنحاء الضفة الغربية، حيث أجَّجت الدعوات واسعة النطاق للانتقام والعقاب الجماعي حملاتٍ إرهابيةً ضد المجتمعات الفلسطينية والتي أدت إلى تهجير نحو 1000 فلسطيني قسرًا من 13 قرية في الأسابيع الأربعة الأولى فقط في أعقاب 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. وفي الفترة الواقعة ما بين 7 تشرين الأول/أكتوبر و14 كانون الأول/ديسمبر 2023، قتلَ مستوطنو الضفة 11 فلسطينيًا، من بينهم ثلاثة أطفال، وأصابوا 83 آخرين.
من السخرية أن يُفرِّق المرء بين عنف المستوطنين وعنف الدولة لأنهما جزء من البنية الاستعمارية الاستيطانية ذاتها، والواحد منهما لا يكمِّلُ الآخر وحسب، بل يعتمد عليه Share on X
وفي كل مرةٍ يمارس المستوطنون الإسرائيليون فيها الإرهابَ في الضفة الغربية، تُصرُّ وسائل الإعلام الرئيسية على التفريق المصطنع بين الجماعات العنيفة والجيش الإسرائيلي، لتوحي بأن الجيش فقدَ السيطرة ببساطة أو أنه عاجز عن وقف الهجمات. وقد رُوِّجت هذه الرواية في أعقاب هجوم المستوطنين على حوارة في شباط/فبراير 2023، وها هي اليوم تُوظَّفُ على نحو مماثل. يُنكِرُ هذا التأطير حقيقةً أساسية بشأن الديناميات الجارية في الضفة الغربية، وينبع من افتراضٍ خاطئ مفاده أن مهمة الجيش الإسرائيلي تتعارض مع مهمة المستوطنين الإسرائيليين. غير أن الجيش الإسرائيلي مُكلَّفٌ صراحةً بتنفيذ أهداف الدولة المتمثلة في دعم المشروع الاستيطاني وتسهيل ترحيل السكان الفلسطينيين منذ العام 1967. وفي هذا الصدد، يُعدُّ المستوطنون الإسرائيليون في الضفة الغربية جنودًا أيديولوجيين: أهدافهم هي ذاتها أهداف النظام الإسرائيلي، وأهداف النظام هي ذاتها أهدافهم.
لا يمكننا أن نتحدثَ عن حركة الاستيطان بمعزل عن المشاريع الاستعمارية الأكبر التي تدعمها الدولة، مثل خطة آلون التي يقوم على مبادئها التوجيهية الكثيرُ من النشاط الاستيطاني الذي ينفذه الكيان الصهيوني حتى يومنا هذا. وهكذا فإن البؤر والمستعمرات الاستيطانية لا تنبت من الأرض من تلقاء نفسها؛ بل تنتج عن اختيارات سياسية واعية. فضلًا على أن معظم المستوطنات مصنفةٌ كمناطق ذات أولوية وطنية، ما يمنح سكانها الحق في الحصول على السكن والتعليم المدعوم وغير ذلك من المزايا لتشجيع الاستيلاء على الأراضي. وعندما يصول المستوطنون في الأحياء الفلسطينية ويحرقون قراهم، فإنهم يفعلون ذلك تحت حماية قوات الاحتلال الإسرائيلي وحراستها. وإذا تجرأ الفلسطينيون على الدفاع عن أنفسهم، يتدخل الجيش لضرب الفلسطينيين واعتقالهم وحتى قتلهم.
لذا فإن من السخرية أن يُفرِّق أحدٌ بين عنف المستوطنين وعنف الدولة لأنهما جزء من البنية الاستعمارية الاستيطانية ذاتها، والواحد منهما لا يكمِّلُ الآخر وحسب، بل يعتمد عليه. وفي المناسبات النادرة التي تشهد احتكاكًا بين المستوطنين والجنود، فإن تلك الحوادث تنبع من الخلاف على أساليب الاستعمار، وليس على الهدف نفسه. فعادةً ما يحثُّ المستوطنون على الاستيلاء السريع والمباشر على الأراضي، بينما يتبع الجيش سياسةَ الدولة المتمثلة في اتباع مقاربة بيروقراطية مُنظَّمة أكثر للحفاظ على قدرٍ معقول من القدرة على الإنكار أمام جمهوره العالمي. وهذا يمكن أن يُسفر عن توترات، حيث ينظر المستوطنون إلى الدولة على أنها غير حاسمة في تعاملها، بينما تنظر الدولة إلى تصرفات المستوطنين على أنها متهورة.
يُخطئ البعض بزعمهم أن مستوطني الضفة الغربية إنما يمثلون مجموعةً متطرفة “هامشية” لأن هؤلاء المستوطنين يحظون بدعمٍ شعبي من شرائح عريضة من الإسرائيليين. والدليل على ذلك أن قادة المستوطنين وصلوا من خلال انتخابات عديدة إلى أعلى مستويات المؤسسة السياسية، وهم يتبوؤون أيضًا مناصب جنرالات ووزراء. والأحزاب التي تعلن أن وجودها مُكرَّس لخدمة حركة الاستيطان وتوسيعها في الضفة الغربية باتت تشكل الآن جزءًا أساسيًا في الائتلاف الحاكم. وبفضل هذا التقدم، أخذ المستوطنون يحظون بالمزيد من الحصانة والامتيازات، حيث جرى تزويدهم بأكثر من 150 ألف بندقية هجومية منذ بداية حملة الإبادة الجماعية في غزة يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر.
في ضوء عدم رغبة إدارة بايدن في ممارسة الضغط على إسرائيل كي توقفَ هجومَها الدموي على غزة – وتدني معدلات تأييد بايدن بسبب ذلك – سارعَ البيت الأبيض إلى الإعلان عن حظر تأشيرات الدخول على “المستوطنين المتطرفين” في الضفة الغربية كوسيلة لإرضاء قاعدته قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في العام 2024. وتستهدف هذه الإجراءات “عشرات” المستوطنين، وهي مصممة في المقام الأول للإيهام بأن الولايات المتحدة ماضية في اتخاذ إجراءات ملموسة لحماية الفلسطينيين. ويتجلى الغرض الأدائي لهذا الإجراء إذا ما تذكرنا أن 160000 مستوطن في الضفة الغربية هم مواطنون أمريكيون ولن يتأثروا بهذا الحظر أصلًا. وهناك الكثير من الأدلة التي توثق وتُظهِر حقيقة المستوطنين الأمريكيين هؤلاء ومناصريهم كأشد الجماعات العدوانية المسؤولة عن الاستيلاء على منازل الفلسطينيين.
إنّ تفريق المجتمع الدولي بين مستوطنات الضفة الغربية والمستوطنات القائمة في أماكن أخرى عبر فلسطين المستعمرة غير دقيق. فجميع المجتمعات الإسرائيلية من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط مبنية على أراضٍ فلسطينية مسروقة، ومحاولات إضفاء الشرعية على تلك الموجودة داخل أراضي عام 1948 إنما تنكر الطابعَ الاستعماري الاستيطاني الأساسي لمشروع الدولة الإسرائيلية. وهكذا، عندما نتذكر أن الإسرائيليين هم مستوطنون بحكم التعريف، تنهار حُجة التفريق الواهية بين المستوطنين والدولة ولا يبقى سوى الحقيقة الصارخة المتمثلة في أن الاثنين هما كيان واحد.
السلطة الفلسطينية والرهان على التقاعس
عبد الجواد عمر
التزمت السلطة الفلسطينية المحكومة من فتح باستراتيجيةٍ ثابتة تقوم على عدم الاكتراث بمصير الفلسطينيين في غزة، وحتى الواقعين تحت حكمها في الضفة الغربية. وبدلاً من التصدي بقوة للإبادة الجماعية المستمرة، لم يقدم ممثلو السلطة سوى خطاب فارغ يعفيهم من مسؤوليتهم في اتخاذ إجراءات ملموسة. وبذلك، تتضح نية السلطة في استدامة مقاربتها الحالية في التعامل مع النظام الإسرائيلي – أي أنها ستستمر في التركيز على التنسيق الأمني واحتواء العمل السياسي الجماعي في الضفة الغربية كوسيلة لضمان ألا تتأثر مصالح النخبة السياسية بالإبادة الجماعية الدائرةِ رحاها على بعد كيلومترات معدودة.
تأمُل السلطة الفلسطينية أن تجني بسكونها ثمارَ الحرب دون الانخراط فيها Share on X
ومن أجل فهم العوامل المعقدة المحدِّدة لاستجابة السلطة الفلسطينية – أو انعدامها – إزاء المذبحة المستمرة ضد الفلسطينيين في غزة، يجب على المرء أن يبحث في الضغوط العديدة التي تواجهها. وأبرزها الحركة الاستيطانية في الضفة الغربية، التي تتمتع الآن بنفوذ كبير في عملية صنع السياسات في الحكومة الائتلافية بقيادة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، إذ تسعى هذه الحركة إلى إلغاء دور السلطة الفلسطينية من خلال تعطيل أي قدرة لها على حماية الفلسطينيين الواقعين تحت إشرافها. وكما هو مذكور أعلاه، يواصل المستوطنون استيلاءهم على الممتلكات الفلسطينية وقتل الفلسطينيين دون عقاب. ويواصل نتنياهو منعَ تحويل الأموال للسلطة الفلسطينية لضمان قدرته على حشد هذه القاعدة الاستيطانية الكبيرة لدعم قيادته المستمرة، وهو يُصرُّ على أن السلطة لن يكونَ لها دورٌ في خطة “اليوم التالي” بغزة في أعقاب التطهير العرقي الحالي.
تواجه السلطة الفلسطينية ضغطًا آخر ناجمًا من عودة ظهور المقاومة الشعبية الفلسطينية للمشروع الاستعماري الإسرائيلي في الضفة الغربية، وتشير أعمال التمرد المسلحة في الآونة الأخيرة في المناطق الشمالية إلى تحولٍ داخل القاعدة الاجتماعية لفتح. لقد أثبتت سياسة فك الارتباط عن السلطة الفلسطينية فعاليتها ببطء في حشد مناطق الدفاع عن النفس والتصدي لقوات الاحتلال الإسرائيلية ولتقاعس السلطة الفلسطينية. وثمة جيلٌ جديد من المقاتلين يحظى بدعم المنظمات السياسية الراسخة – الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحماس والجهاد الإسلامي – في محاولة لإنشاء حركةِ مقاومة مسلحة أكثر تنظيمًا واستدامة. ولم يكن هذا التمرد ممكنًا لولا فقدان السلطة الفلسطينية قبضتها الأيديولوجية والاجتماعية على الشعب الفلسطيني، ولا سيما في أوساط الطبقة العاملة في مخيمات اللاجئين والمناطق ذات الكثافة السكانية العالية في الشمال. وتدل شعبية هذه الجماعات ونطاق مقاومتها على ضعف هيمنة السلطة الفلسطينية، وهذا التوجه لم يمر مرور الكرام على القوات الإسرائيلية، التي ردت بتوغلات عسكرية متكررة في أماكن مثل جنين وطولكرم ونابلس. فضلا عن الاغتيالات المستهدفة لأشخاص يُزعم أن لهم انتماءات.
أضِف إلى الضغوط الداخلية أنَّ السلطة الفلسطينية أمست معزولةً على نحو متزايد على الصعيدين الإقليمي والعالمي في السنوات الأخيرة. وحتى الولايات المتحدة – أكبر داعمي السلطة الفلسطينية لدورها في فرض الإملاءات على أبناء جلدتها – استبعدتها من جميع المناورات الدبلوماسية، مثل اتفاقات آبراهام التي توسطت فيها الولايات المتحدة، والتي استبعدت السلطة الفلسطينية عنها بالكامل وتجاهلت فعليًا وجود فلسطين. وثمة دليلٌ آخر لذلك برزَ مع الإبادة الجماعية في غزة، إذ يُشير صناع القرار السياسي الأمريكيون إلى رغبتهم في “تجديد” السلطة الفلسطينية – بما في ذلك قيادتها، وتكوينها، والتحالفات التي تشكل الطبقة السياسية للسلطة. ولكن بالرغم من رغبتهم في ضخ “دماء جديدة” في السلطة الفلسطينية، فإن الولايات المتحدة وحلفاءها في المنطقة لا يزالون بلا شك مطمئنين إزاء تقاعس السلطة الفلسطينية الحالية وتمسكها بسياسة التنسيق الأمني مع النظام الإسرائيلي.
غير أن عملية طوفان الأقصى بدّدت الوضع الراهن، ليس في غزة وحسب، بل في الضفة الغربية أيضًا. فلطالما ارتكزت السلطة الفلسطينية إلى البراغماتية التي تروج فكرة أنَّ سبل التغيير محدودة. ويعتمد الزعماء مثل عباس ومستشاريه المقربين كثيرًا على هذه الرواية، وغالبًا ما ينتقدون المقاومة الفلسطينية المسلحة باعتبارها عديمة الجدوى. لكن هذه المقاربة أخذت تفقد شعبيتها، حيث أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة في الضفة الغربية أن 60% من المستَطلَعين يؤيدون حلَّ السلطة الفلسطينية وأكثر من 90% يطالبون باستقالة عباس.
وفي خضم هذه الضغوط، تلجأ السلطة الفلسطينية إلى التريث؛ بيد أن انتصارًا نسبيًا للمقاومة الفلسطينية في غزة أو حلًا إقليميًا أوسع قد يعيدها من دكة الانتظار. وحتى ذلك الحين، تأمل السلطة الفلسطينية أن تجني بسكونها ثمارَ الحرب دون الانخراط فيها.
تعزيز المنظومة السجنيّة في الضفة الغربية
باسل فراج
لطالما كانت السجون ركنًا أساسيًا من أركان العنف والتعذيب الذي يمارسه النظام الإسرائيلي. وفي أنحاء الضفة الغربية المختلفة وقطاع غزة، تطور السجن أيضًا ليصبح حالةً عامة يعيشها السكان الفلسطينيون كافة، ولا سيما منذ بدأت الإبادة الجماعية في غزة، حيث كثَّفَ الجيش الإسرائيلي حملات الاعتقال ضد الفلسطينيين وضربَ حصارًا على مجتمعات بأكملها، وفرض قيودًا صارمة على حركتهم وحياتهم اليومية.
العنف والتعذيب داخل السجون الإسرائيلية يعكسان الإجراءات المتخذة لتقييد الفلسطينيين والسيطرة عليهم في جميع أنحاء فلسطين المستعمرة Share on X
وفي الأشهر الأربعة الماضية، تضاعفَ عددُ السجناء الفلسطينيين. وبحسب الأرقام الأخيرة، وصلَ عددُ الفلسطينيين من الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، الذين اعتقلتهم القوات الإسرائيلية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول إلى 6500 معتقلا. هذا بالإضافة إلى عشرات المعتقلين من أراضي 1948، وعدد غير معلوم من أسرى قطاع غزة. وتشير التقارير والشهادات إلى أن ظروف احتجاز الفلسطينيين من غزة قاسية للغاية وأنهم يتعرضون لمستويات غير مسبوقة من التعذيب. وقد وصفَ الأسرى الأوضاع في السجون الإسرائيلية بأنها شبيهة بأوضاع الاعتقال في السنوات الأولى لاحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، مثل تطبيق تدابير عديدة مصممة لعزل الأسرى تمامًا، بما في ذلك حظر الزيارات العائلية وتقييد زيارات المحامين. ومن التدابير الأخرى التي تستخدمها مصلحة السجون الإسرائيلية الحد من الماء والكهرباء، وتقديم الغذاء غير الكافي، وإغلاق مقاصف السجون، ومصادرة ممتلكات الأسرى، وحرمانهم الرعاية الطبية، وكل ذلك يعزز سياسة الإهمال الطبي الممنهج. وبسبب هذه الحملة الوحشية من التعذيب والعنف ضد الأسرى الفلسطينيين، قضى حتى الآن ثمانية أسرى، فضلًا على عدد غير مُحدد – كُشف عنه مؤخرًا – من الفلسطينيين الذين قُتلوا في قاعدة عسكرية في جنوب فلسطين.
لا يمكن الفصل بين العنف الموجه إلى الأسرى السياسيين الفلسطينيين والمعاملة العامة التي يتلقاها السكان الفلسطينيون على يد الكيان الصهيوني. بل إن الفلسطينيين دأبوا على المقارنة بين ما يُشار إليه عادةً باسم السجن الصغير – أي السجون ومرافق الاعتقال الإسرائيلية – والسجن الكبير، وهو فلسطين تحت الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي. فالعنف والتعذيب المُمارسان داخل السجون الإسرائيلية يعكسان الإجراءات المتخذة لتقييد السكان الفلسطينيين والسيطرة عليهم في جميع أنحاء فلسطين المستعمرة.
تتجلى هذه الدينامية بوضوح في الضفة الغربية، حيث فرضَ الجيش الإسرائيلي قيودًا أكثر على حركة الفلسطينيين المقيدة أصلًا منذ بدء الإبادة الجماعية في غزة. ومن تلك القيود إغلاق مداخل معظم القرى والبلدات والمدن الفلسطينية بالكتل الإسمنتية والحواجز العسكرية والبوابات الحديدية، حيث يُفيد الفلسطينيون في جميع أنحاء الضفة الغربية أنهم يقضون ساعات عند نقاط التفتيش للوصول إلى أماكن عملهم ومدارسهم، ويواجهون الاعتداءات والضرب على يد الجيش الإسرائيلي عند مداخل القرى والبلدات الفلسطينية. فضلًا على منعهم من الوصول إلى القدس وأراضي 1948. وفي المحصلة، غدت الضفة الغربية مطوَّقة ومعزولة عن سائر فلسطين المستعمرة.
يواصل الجيش الإسرائيلي كذلك اجتياحَ المدن والقرى الفلسطينية يوميًا، حيث يعتقل الفلسطينيين ويعذبهم ويضيِّق عليهم ويطبق سياسة “إطلاق النار بقصد القتل” في جميع أنحاء الضفة الغربية. وقد أدت هذه الممارسات العنيفة، بما فيها ممارسات المستوطنين المسلحين، إلى مقتل ما يزيد على 350 فلسطيني منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر. وبالمثل، يتعرض الفلسطينيون للقتل والتعذيب والإساءة أثناء اعتقالهم من الجيش الإسرائيلي وبعد اعتقالهم. وهكذا فإن أساليب العنف الإسرائيلية تتماثل في كافة أنحاء الضفة الغربية، داخل السجون الإسرائيلية وخارجها.
هذه الممارسات السجنيّة ليست جديدة، بل مركزية ومؤسسة للمشروع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي. غير أن تكثيفها في الأشهر الماضية، بالإضافة إلى تصاعد عنف المستوطنين وسرقة الأراضي، يُحوِّل الضفة الغربية إلى مجموعة مجزأة من السجون تتفشى فيها آليات السيطرة والعنف الإسرائيلية. وتنعكس الإجراءات المتخذة لتغيير ظروف الاعتقال داخل السجون الإسرائيلية في الممارسات العنيفة الرامية إلى تحويل جغرافيات فلسطين المستعمرة إلى مناطق اعتقال منفصلة. والأهم من ذلك أن الحديث عن السجن الصغير والسجن الكبير لا يشير إلى مفهوم مجازي بل إلى واقع سيستحيل إلى حالة سجنيّة دائمة ما لم يتم مقاومته.
الإبادة الجماعية في غزة واقتصاد الضفة الغربية
سامية البطمة
الدمار الاقتصادي ليس غريبًا على الاقتصاد الفلسطيني. فقد استتبع الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة في 1967 تطبيقَ سلسلة من السياسات الرامية إلى ضمان وجود اقتصاد فلسطيني تابع. وزادت اتفاقات أوسلو لعام 1993 مأسسة هياكل التبعية الاستعمارية وتعطيل الاقتصاد الفلسطيني لضمان كبته المستمر واعتماده على مصادر خارجية من أجل بقائه. وأدى الدمار الذي لحق بالاقتصاد الفلسطيني إبان الانتفاضة الثانية والحروب الإسرائيلية المتكررة على غزة منذ العام 2008 إلى تآكل القاعدة الإنتاجية للاقتصاد ومصادرة الموارد اللازمة لتنميته.
في حين قد يكون الوضع الاقتصادي الفلسطيني الراهن مزريًا بوجه غير اعتيادي، إلا أنَّ من الخطأ أن نظنَ بأنه نتيجة ظروفٍ لا مفر منها Share on X
بالرغم من نجاة الضفة الغربية من القصف في هذا الهجوم الأخير، إلا أن النظام الإسرائيلي يستهدفها بمجموعة من التدابير القمعية ذات العواقب الاقتصادية الوخيمة، مثل القيود على الحركة، وتأخير معاملات التجارة في السلع والخدمات، والمداهمات والتوغلات التي تمنع الفلسطينيين في أراضي 1948 من الوصول إلى أسواق السلع في الضفة الغربية، فضلاً على قرصنة عائدات المقاصة الفلسطينية.
علاوةً على ذلك، ألغى النظام الإسرائيلي تصاريح عمل آلاف العمال الفلسطينيين الذين عملوا سابقًا في سوق العمل الإسرائيلية، ما فاقمَ البطالة وزاد المنافسة على الوظائف في الضفة الغربية. وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني ومنظمة العمل الدولية، ارتفعت معدلات البطالة في جميع أنحاء الضفة الغربية وغزة إلى أكثر من الضعف في الربع الرابع من العام 2023، حيث بلغت بحسب التقديرات 29% في الضفة الغربية منذ بدء الإبادة الجماعية في غزة. وفي الوقت نفسه، انخفضت الأجور اليومية في الضفة الغربية بسبب الوفرة الكبيرة في أعداد العمال، وهو ما تسبب في تفشي استغلال الأجور. ويصل إجمالي الخسائر اليومية في الدخل إلى 12.8 مليون دولار للعاملين في الضفة الغربية. وأدت هذه الخسارة الكبيرة إلى زيادة معدلات الفقر وعدم المساواة الاقتصادية في جميع أنحاء الضفة الغربية، وسيكون لها على الأرجح عواقب كارثية في الأجل القريب.
لا تقتصر أسباب الارتفاع الحاد في معدلات البطالة على فقدان العمل في سوق العمل الإسرائيلية. فقد تأثرت أسواق العمل بالقيود المفروضة على حركة العمال جراء الحواجز في الضفة الغربية، كما وردَ آنفًا. وتؤدي الزيادة الحادة في الحواجز ونقاط التفتيش في جميع أنحاء الضفة الغربية منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر إلى ارتفاع كبير في الوقت اللازم للتنقل وكلفته. ونتيجة لبقاء العمال في مناطقهم وعجزهم عن الوصول إلى أرباب العمل في المجتمعات الأخرى، أُنهيت خدمات العديد من العمال. ويقدِّر الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني ومنظمة العمل الدولية عدد الوظائف المفقودة في الضفة الغربية في الشهرين الأولين عقب الهجوم على غزة بنحو ربع مليون وظيفة.
أثرت قيود الحركة وإغلاق السوق الإسرائيلية على شركات القطاع الخاص في الضفة الغربية كذلك من نواحي عدة منها ارتفاع تكاليف الحصول على مواد ومعدات الإنتاج، والتي يأتي معظمها من خارج المدن الرئيسية وغالبًا من خارج الضفة الغربية. وارتفعت أيضًا تكاليف التوصيل والشحن محليًا ودوليًا، ما أدى إلى تناقص هامش الربح أكثر. ونتيجةً لذلك، تُشير التقديرات الأولية الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني إلى أن الإنتاج في الضفة الغربية انخفض في شهري تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر 2023 بنحو 37%، مسجلًا خسارةً مقدَّرةً بنحو 500 مليون دولار شهريا.
وفي حين قد يكون الوضع الاقتصادي الفلسطيني الراهن مزريًا بوجه غير اعتيادي، إلا أنَّ من الخطأ أن نظنَ بأنه نتيجة ظروفٍ لا مفر منها، بل هو نتيجة الرزوح تحت أشرس أشكال الاستعمار الاستيطاني في العصر الحديث. فضلًا على أن من الواضح تمامًا أن “نماذج الانتعاش” – التي روجها بشدة البنك الدولي وغيره من المؤسسات الدولية – فشلت على الدوام في مواجهة هذا السياق وركزت في المقابل على السياسات النيوليبرالية غير الفعالة، ما أدى إلى تفاقم الاستعباد الاقتصادي الفلسطيني.
إن هذه الفترة المروعة في التجربة الفلسطينية تتطلب مراجعة التفكير في الطبيعة السياسية للانتعاش الاقتصادي. ولأجل ذلك لا بد من اتخاذ خطوات لإنهاء التبعية الاستعمارية وتعزيز القاعدة الإنتاجية للاقتصاد الفلسطيني. ومن تلك الخطوات إنهاء ما تبقَّى من الاتحاد الجمركي القسري مع إسرائيل، وإنهاء السياسات الرامية إلى دفع الناس إلى الاقتراض من المصارف لتمويل استهلاكهم اليومي، والاستثمار في قطاعي الزراعة والتصنيع المحليين، وإحياء مبادئ التكافل الاقتصادي بين الفلسطينيين. وهذه المبادرات قادرة على إرساء الأساس اللازم لمقاومة جماعية أقوى ضد الحصار الاستعماري الاستيطاني الصهيوني للاقتصاد الفلسطيني.